إذا كان لي أن أختار بابًا للدخول إلى سينما السويدي «إنجمار برجمان – Ingmar Bergman»، فإنني سأختار هذه المونولوجات الهذيانية لشخصية هامشية تدعى «يوهان سبيجل» من فيلمه «The Magician». الفيلم ليس من بين أفلامه الأيقونية، تم عرضه سنة 1958.

«يوهان سبيجل» هو ممثل أودى إدمانه للكحول بمستقبله المهني، شخصية معذبة كبقية شخصيات برجمان، في المشاهد القليلة التي يظهر بها نراه يترنح كشبح على الحافة بين الحياة والموت هاذيًا بهذه الكلمات:

دائمًا ما تقت إلى نصل حاد، أستطيع به أن أعري أحشائي، أن أحرر قلبي وعقلي من ربقة الجسد، أزيل لساني وجنسي. بهذا النصل أطهر دنسي، حينئذ فقط، ومن بين حطام جسدي ستشرق ما نسميه الروح. صليت طيلة حياتي من أجل شيء واحد، سألت الرب أن يستخدمني، أنا العبد المكرس لخدمته، لكنه أبدًا لم يلتفت إليّ. خطوة فخطوة غصت في قلب الظلام، وحيث الحركة وحدها هي كل الحقيقة.

كل سينما «برجمان» تدور في مدار هذه الكلمات والتي تجسد رغبة برجمان في رسم بورتريه يعبر بصدق عن الحالة الإنسانية، الإنسان الملقى به وحيدًا في فراغ العالم، في الظل الكئيب لصمت الرب. يحاول برجمان بقسوة متأصلة في تكنيكه السينمائي أن يعري الإنسان أن يسقط كل الأوهام والأقنعة التي تخفي حقيقته.

إنه يريد أن يزيل في طريقه إلى الأعماق السحيقة كل كذب وزيف حتى يصل إلى قلب ذلك اللغز المسمى بالإنسان محدقًا في مرايا صافية تحت ضوء قاس وجهًا لوجه مع حقيقته. لا يمل برجمان من تكرار محاولاته، فكل فيلم من أفلامه خطوة أبعد في ليل الروح.

سنحاول خلال هذا المقال أن نتعرف على الملامح البارزة لسينما إنجمار برجمان والتي يصفها الفرنسي الكبير جان لوك جودار بأنها الأكثر أصالة في السينما الأوروبية. مع الإشارة لأعماله الأيقونية والتي تشكل بكل تأكيد كلاسيكيات خالدة للفن السابع.


جدل الشك والإيمان في سينما برجمان

طوال حياتي كنت أصارع العلاقة المعذبة مع الله، الإيمان والشك، العقاب، النعمة الإلهية والنكران. كل هذا كان حقيقيًا ومعذبًا بالنسبة لي، كانت الصلوات تفوح برائحة الألم والتضرع، الثقة والكراهية واليأس. لقد تحدث الله، لا لم يتحدث. إلهي لا تشح بوجهك عني.
كتاب «المصباح السحري» – إنجمار برجمان.

عانى برجمان في طفولته الأولى من تربية دينية صارمة، وهو الابن الثاني لقس لوثري وبيوريتاني. يمكن للقارئ أن يطلع على سيرته الذاتية المعنونة بـ«المصباح السحري» ليرى أثر تلك التربية في روحه، وهو ما جعل مسألة الدين تستحوذ على برجمان لفترة طويلة من الزمن، كما شكلت هاجسًا كبيرًا في سينماه بداية من أفلامه الأولى والتي عبرت خلال طرح مباشر عن أزمة الإيمان لديه. يقول في فيلمه «السجن Prison» عام 1949:

هل العالم جحيم؟ وإن كان العالم فعلًا جحيمًا، فهل يمكن أن يكون الله موجودًا؟

بعد سبعة أعوام يأتي الفيلم الأكثر ارتباطًا باسم برجمان «الختم السابع The Seventh Seal» والذي يطرح سؤال الإيمان على نحو أكثر عمقًا وإشكالًا. هنا يلقي برجمان بنفسه وبنا في جحيم القرون الوسطى في زمن موبوء بالموت.

يعود الفارس «أنطونيوس بلوك/ماكس فون سيدو» إلى وطنه بعد أن شارك في الحروب الصليبية بدافع من إيمانه ليجد عالمه القديم منهارًا. الطاعون والفزع يجتاحان البلاد والعباد فيتشبث الفارس بشكه وأسئلته. إنه يبحث عن اليقين بعد أن احترق إيمانه القديم. في أحد أكثر المشاهد أيقونية في فيلم برجمان، وربما في تاريخ السينما، نجد الفارس يلاعب الموت مجسدًا لعبة الشطرنج.

المشهد ليس مجرد إحياء لرسم ديني قديم كان منتشرًا في الكنائس القديمة لأوبسالا -حيث نشأ برجمان- بل يضيء جوهر الفيلم، ففارس برجمان الذي يلمس الموت في كل ما يحيط به، بل يراه شاخصًا أمامه، يريد أيضًا أن يلامس بأصابعه وجه الرب، يريد أن يشعر بوجوده على نحو حسي، يريد أن يكلمه الرب وجهًا لوجه، أن يسمع صوته واضحًا مثلما تخترق سمعه صرخات العذاب والفزع.

في مطلع الستينات يصنع برجمان ثلاثة أفلام يتجسد خلالها على نحو جلي جدل الإيمان والشك. هذه الأفلام الثلاثة والتي اصطلح النقاد على تسميتها بثلاثية الإيمان هي حسب ترتيبها الزمني «عبر زجاج معتم – Through a Glass Darkly»، و«ضوء الشتاء – Winter Light»، و«الصمت – The Silence».

في هذه الثلاثية لا يتساءل برجمان عن وجود الرب من عدمه بقدر ما يسعى إلى تفكيك التصور المسيحي التقليدي عن الرب. فالمحبة التي تمثل الصفة الإلهية الأساسية في التصور المسيحي تغيب تمامًا عن عالم برجمان.

في فيلمه «عبر زجاج معتم» تؤكد بطلة فيلمه، أنها وبعد انتظار طويل رأت الرب على شكل عنكبوت ينضح وجهه بالشر، عنكبوت قاسي النظرات يحاول أن يخترق جسدها، وتخفيفًا لحدة وقسوة هذا التصور فإنه يمنحه لامرأة تقف على حافة الجنون، ولكنه يعود في فيلمه التالي «ضوء الشتاء» إلى ذات التصور عن الرب فيقول على لسان قسه المتشكك:

لقد آمنت بإله وهمي، أبوي، إله يحب البشر بكل تأكيد ويحبني أنا فوق الجميع، لكني ما كدت أضع الإله على محك الواقع حتى أراه قبيحًا عنكبوتيًا.

في فيلم الثلاثية الثالث والمعنون بالصمت يتجذر مفهوم برجمان عن صمت الرب. الفيلم كما يرى «دينيس ماريون» في كتابه عن انجمار برجمان، يصف الجلبة التي تحدث يين الروح والجسد عندما يغيب صوت الله. وفي حديث لبرجمان بشأن الثلاثية فإنه يتحدث عن الحب كنوع من الخلاص، أن معظم أبطال ثلاثيته قد ماتوا لأنهم لا يعرفون الحب، لقد حكم عليهم بالهلاك لأنهم لا يعرفون طريقهم إلى قلوب الآخرين.


خريف الوهم: موسم تساقط الأقنعة

عند برجمان هوس بالأقنعة والمرايا. ربما لأن الأقنعة جزء من فلسفته عن الحالة الإنسانية، حيث يرى أن الانسان في محاولة لمداراة عجزه ويأسه وخوائه الداخلي فإنه يرتدي قناعًا كما لو كان كل شيء طبيعيًا، وهنا تتحول حياة الإنسان من تعبير حقيقي عن الذات إلى مجرد أداء «Performance»، محاكاة لشخصية أخرى مفروضة عليه من الخارج (في محاولة للتأقلم مع المجتمع)، أو يتقمصها تلبية لرغبة داخلية (محاولة إخفاء خجله، وربما كراهيته لذاته الحقيقية).

لذا ستجد العديد من أبطال أفلامه يمتهنون التمثيل. يستغل برجمان مهنة أبطاله لتجسيد هذه الفلسفة التي تخترق غالبية أفلامه. تتمحور سينما برجمان حول رغبته العميقة في هدم الوهم وإزالة الأقنعة التي يختبئ تحتها. برجمان -وبإلحاح سادي- يريد الإنسان عاريًا أمام مرآة الحقيقة/كاميراه العدوانية.

سنجده يحاصر أبطاله بالمرايا، بالإضافة إلى بصمته الأسلوبية التي لا تخطئها العين، حيث نرى وجهًا بشريًا يملأ فراغ الكادر السينمائي بينما يختفي العالم من حوله، يحاصر بكاميراه وجوه ممثليه في أطر ضيقة حيث لا شيء يحول بين وجوههم وكاميراه، في محاولة للنفاذ فيما وراء هذه الوجوه، تكون هذه اللقطات القريبة القاسية أشبه بجلسات اعتراف قسرية.

تتهاوى الأقنعة في سينما برجمان تحت ضغط أزمة ما داخلية أو خارجية، هذا تحديدًا ما يحدث في تحفته السينمائية «برسونا Persona» والتي يشير عنوانها إلى القناع الذي كان يضعه ممثلو التراجيديا القديمة في المسرح اليوناني، كما يشير أيضًا إلى المفردة التي صكها عالم النفس «كارل يونج» للتعبير عن تبني الذات لشخصية أخرى تناقض حقيقتها في محاولة لحماية الذات والتكيف مع المحيط.

تتوحد الذات مع قناعها، ولكن خداع الذات معذب، حيث تتململ الذات الحقيقية في قلق تحت قناعها. في «برسونا» تتوقف البطلة على المسرح أثناء أدائها أحد أدوارها، إنها لم تعد تحتمل هذا القناع الذي ترتديها، إنها تسقط في الصمت، ربما ترى في الصمت خلاصًا فهي لم تعد بحاجة أن تدعي أو تقول أي شيء، وربما ترى في الصمت عقابًا لها على كذبها وزيف حقيقتها.

فبرجمان يعتبر من منطلق ذكريات طفولته، أن الصمت عقاب، حيث كان الأب يعاقب انجمار بتجاهله تمامًا وعدم الحديث معه. يطول زمن العقاب والانتظار المذل للغفران بل ربما تمني العقاب حتى يزول هذا الصمت. في فيلمه «سوناتا الخريف – Autumn Sonata» حيث موسم تساقط الأقنعة تتعرى الابنة والأم حتى نخاع روحيهما. تقول الابنة للأم:


رؤى الخلاص العابرة في قلب جحيم مقيم

لم أعد أعلم من أنا، لأنني كنت ملزمة في كل لحظة بنيل رضاك. ولم أجسر لحظة واحدة أن أكون ذاتي، حتى عندما كنت أخلو بنفسي لأنني كنت في صراع مع كل ما له علاقة بذاتي.

عالم «برجمان» هو عالم بارد وجحيمي في آن واحد. عالم موسوم بالعزلة وفقدان القدرة على التواصل مع الذات والآخرين، عالم مثقل بالكآبة والشك والقلق الوجودي. عبر هذا الجحيم تطفو رؤى عابرة يمكن اعتبارها كوعود مضمرة بالخلاص، لكنه ليس بخلاص مفارق بل خلاص متجذر في قلب هذا العالم. يمكننا أن نرى تلك الرؤى في هذا اللحظات:

في فيلمه «التوت البري Wild Strawberries»، والذي يمثل في سينما برجمان مجازًا عن البراءة والبهجة البسيطة، حيث يعود البطل عبر ذكرياته إلى بيت طفولته ومطلع شبابه حيث نواجه بفضاء يمكننا أن نلمس عبره الحب والدفء الذي يفتقده البطل في عالمه الحالي البارد والمنخوب بالكوابيس.

أيضًا في حلم المهرج في «الختم السابع» بالسيدة العذراء والمسيح حيث يبدو الحلم كانعكاس لأسرته البسيطة التي تحاول أن تبقي على البهجة في عالم مثقل بالكآبة والموت. عبر هذا الحلم يبدو برجمان كما لو كان يرى أن مهمة هذة الأسرة البسيطة مقدسة. أيضًا نلمح ذلك في ذكريات «أجنيس» المحتضرة في فيلمه «صرخات وهمسات Cries & Whispers» والتي تضمها مع أختيها في حديقة البيت وسط جو من الألفة والحميمية.

الخلاص إذن في نظر «برجمان» هو في قدرتنا في أن نتشارك معًا هذه الحياة على قسوتها وأنانيتنا، في الانفتاح على الآخر في صدق وحميمية ومعانقة البهجة البسيطة والأفراح الصغيرة التي يتيحها لنا هذا العالم.

من الجدير بالذكر أن فعاليات مهرجان بانوراما الفيلم الأوروبي، والتي تقام في القاهرة وعدد من المحافظات المصرية في الفترة من 7 وحتى 17 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، تحتفل بالذكرى المئوية لبرجمان من خلال عروض خاصة لأربعة من أفلامه هي: «التوت البري – Wild Strawberries»، و«برسونا – Persona»، و«سوناتا الخريف – Autumn Sonata»، و«الختم السابع – The Seventh Seal».