صناعة الخصوم: لماذا تحتاج الدول إلى أعدائها؟
بهذه الكلمات خاطب ألكسندر أرباتوف، المستشار الدبلوماسي للزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، الغرب موضحًا أنه بنهاية الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في حرب الخليج الأولى ستفقد الولايات المتحدة كثيرًا من حيويتها.
للوهلة الأولى يبدو الأمر غير منطقي، كيف يكون القضاء على عدو الخصم أسوأ أنواع الخدمات؟
إلا أن الباحث والأكاديمي والدبلوماسي الفرنسي بيار كونيسا في كتابه «صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح» قدّم تفسيرًا مميزًا أثبت من خلاله صحة هذه المقولة. وضّح كونيسا الأمر حينما أشار إلى الدور الحيوي الذي يؤديه هذا العدو اجتماعيًا وسياسيًا في المجتمعات المعاصرة، فهو عامل جيد لصهر الأمة وتأكيد قوتها وترسيخ الأواصر الجمعية، وعادة ما يُشكل هذا العدو مخرجًا للسلطة السياسية التي تواجه مصاعب عديدة على الصعيد الداخلي. وهكذا يُمكن أن تعتمد استراتيجية ما على قتل الخصم بحرمانه من العدو، ويصبح هذا الحرمان أسوأ خدمة يمكن تقديمها للخصم.
من هذا المنطلق، بدأ كونيسا تحليل الأسباب التي تدفع الدول وأجهزة استخباراتها ومراكز التخطيط الإستراتيجي، إلى الانشغال بصناعة العدوّ. وجاءته الفكرة خلال عمله كمستشار بوزارة الدفاع الفرنسية بداية التسعينيات، حيث شهدت هذه الفترة انهيار الاتحاد السوفيتي، وأصبحت فرنسا دون عدو، مما وضعها في واقع مأزوم.
الديمقراطية لا تحمل السلام
في مقدمة كتابه، يربط كونيسا بين مفهومي الحرب والعدو، ويقدّم تفسيرًا لكيفية قيام المُحارب (الجندي) بقتل شخص آخر (العدو) دون أن يشعر بتأنيب الضمير. يشير كونيسا إلى أن الحرب بمثابة ترخيص ممنوح شرعيًا لقتل أشخاص لا نعرفهم، أو حتى نعرفهم كما في حالة الحروب الأهلية، وأنها عكس نظام القيم الموجودة بالمجتمع حيث يُعد القتل جريمة، فينعكس الوضع بها ليصبح القتل أمرًا مشروعًا ويكافأ الجنود عليه.
يتم ذلك عبر نظام استراتيجي مهمته إقناع وتهيئة الرأي العام بأنه لا مجال إلا للحرب، هذا النظام يتمثل في الإعلام والمثقفين الأكثر تأثيرًا بالمجتمع، فهم يتولون مهام تحديد العدو وتحضير الرأي العام لقبول فكرة الحرب. يشير كونيسا في هذا الشأن إلى أن مهمة صناعة العدو، منذ الثورة الفرنسية، لم تعد قاصرة على الملك (السلطة السياسية)، بل ينبغي حشد الرأي العام. كما يوضح أن هذه الصناعة تمر عبر مراحل عديدة تتمثل في وجود:
1. أيديولوجيا.
2. إستراتيجية محدَّدة (خطاب).
3. صنّاعَ رأي (المحدِّدين).
4. وأخيرًا آليات صعود نحو العنف.
في السياق ذاته، يرى كونيسا أن صناعة العدو والحرب لا ترتبط بما إذا كانت هذه الدولة ديموقراطية أم ديكتاتورية، فالدول الديمقراطية لا تختلف كثيرًا عن الديكتاتورية في ذلك، والديمقراطية ليست حاملة للسلام بذاتها، وإلّا فلمَ قامت الاستعمارات الفرنسية والبريطانية، ولمَ وُجدت أمريكا في العراق، ولمَ استعمر الإسرائيليون الأراضي الفلسطينية*، ولم قادت الهند ست حروب خارجية (أربعة ضد باكستان، وواحدة ضد الصين، وتدخلاً في سريلانكا)؟
من هو المجرم؟
يوضح الكاتب أن العدو لا يُحدَّد بناءً على وقائع عينية ترشحه ليكون عدوًا، بل يُحدد بناءً على حاجة معينة هي التي تلبسه ذلك اللقب كي تُبرر محاربته. فالدول هي من تعرُّف عدوها وفقًا لمصالحها، فإذا رأت أن تعريفًا ما لا يخدم مصالحها الاستراتيجية، تلجأ إلى وضع مصطلحات تحرّرها من المسؤولية وتوحي بمسؤولية القتيل عما حدث له، لا مسؤولية القاتل عن فعلته. وهذا ما فعلته الولايات المتحدة في تبريرها للانتهاكات والتعذيب في أبو غريب وغوانتانامو.
فالحرب الحديثة نزاع بين دولتين تملكان جيوشًا نظامية، ويندمج الجندي الذي يرتدي البزة العسكرية ضمن تسلسلٍ هرمي يتلقّى فيه الأوامر من أعلى، فيصبح بذلك غير مسؤولٍ جزائيًّا عن الجرائم التي يرتكبها. ويخضع الطرفان المتحاربان إلى اتفاقيات جنيف 1949 التي تحمي الجنود وأسرى الحرب، وبالتالي يكون وضعُهم مضمونًا لممارسة القتل دون مساءلة، أما المسلّح الذي لا يرتدي بزة عسكرية، فيمكن معاملته كـمجرم.
وهذا ما استغله الحقوقيون في الولايات المتحدة إذ قالوا: «بما أن الحرب على الإرهاب ليست حربًا على دولة، فإن الاتفاقيات لا تطبَّق على من تمّ اعتقالهم». وهكذا ابتكروا فئة قانونية جديدة غير معروفة في القانون الدولي سموها «المحارب غير الشرعي»، وهذه الفئة لا تشملها قوانين حماية الجنود، ولا قوانين حماية المدنيين.
حاجة قومية مُلحة
يرى الكاتب كذلك أن وجود العدو أمر ضروري بالمجتمع، فهو يؤدي أدوارًا اجتماعية وسياسية عديدة، فعلى الجانب الاجتماعي: يلبّـي العدو حاجاتٍ اجتماعية متعددة، كالحاجة إلى الهُوية (تعريف الذات من خلال تعريف الآخر)، والحاجة إلى تهدئة حالات القلق الاجتماعي (فحين يعاني المجتمع، يشعر بالحاجة إلى أنْ يجد أحدًا يمكنه أنْ يعزو إليه ألَـمَه، وينتقم منه لخيبات أمله)، هذا فضلًا عن الحاجة إلى توطيد الأواصر ضمن الجماعة (كما هو الحال بباكستان التي تمزّقها الحروب الأهلية ولا يجمعها إلا العداء للهند).
اقرأ أيضًا: جيولوجيا النزاعات الدولية
وعلى الجانب السياسي، يُمكن استخدام العدو لشرعنة استخدام القوة وهو ما عمدت إليه المجتمعات الغربية تحت مبرّر «الحرب العادلة»، فكانت هذه هي الحجّة التي اتّبعها المحافظون الجُدُد لابتكار مبدأ «الحرب الاستباقية».
فمن خلال هذا المبدأ يمكن للولايات المتحدة أنْ تتخذ قرارًا أُحاديًّا بشنّ الحرب حين تتوافر شروط الحرب العادلة، وهي المصلحة العامة لأمريكا والدولة المارقة. وعلى هذا النحو، فالعدو لا يجب قتله؛ فمن مصلحة القاتل أن يبقي في عدوه رمقًا يستمد منه حياته ويبرر به بناءه العسكري والسياسي.
أنواع العدو
ينتقل كونيسا بعد ذلك إلى وضع تصنيف لأنواع العدو، فيقدم 8 أصناف من الأعداء، يجري اصطناع العداوة معهم ليصبحوا وقودًا لتوحيد الأمة وتحقيق المهام الاستراتيجية، ويمكن توضيحهم كالتالي:
1. العدو القريب: الذي نشترك معه في الحدود الجغرافية، حيث تثور العداوة نتيجة النزاع على تلك الحدود.
2. الخصم العالمي: المنافس في خصومة قوتين تعطيان لنفسيهما نزعة عالمية، وأبرز الأمثلة على ذلك الحرب الباردة والتنافس بين الإمبرياليات الأوروبية قديمًا.
3. العدو الحميم: الحرب الأهلية، والاقتتال بين جيران كانوا يبدون أنهم يعيشون في سلام؛ تبدأ الحرب بالكلمات ثم تنتهي بالقتل الاستباقي، أن نقتُل قبل أن نُقتل.
4. العدو الهمجي: حينما تقوم دولة باحتلال أراضي دولة أخرى، حيث يعد العدو من وجهة نظرها الشعب المحتل.
5. العدو المحجوب: قوة خفية تدير الشعوب وتسيطر عليها، وهي هاجس ناجم عن نظرية المؤامرة، كانت أساس الانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية ضد الشيوعيين، وهي أيضًا أساس معادة السامية.
6. حرب الخير ضد الشر: ولا تقتصر علي النزاعات الدينية فقط؛ فهي حرب الأنظمة الشمولية الكبيرة العلمانية في القرن العشرين، كانت الأيديولوجيات قاتلة مثل الديانات، والآخر هو الشر وتجب إبادته.
7. العدو التصوري: وضع فريد عرفه العالم تحت رئاسة جورج بوش الابن. ليس لديه عدو يجاريه، لا يمكنه سوى محاربة مفاهيم في صراع شامل، الحرب ضد انتشار أسلحة الدمار الشامل والإرهاب.
8. العدو الإعلامي: الحالة الأحدث في الفراغ الأيديولوجي والاستراتيجي بعد الحرب الباردة، يجتاحها الإعلام ويتحدد التهديد عبر مثقفين وإعلاميين، وأشخاص يعملون في المجال الإنساني. ويؤدي هذا التهديد إلى أعمال عسكرية من دون عدو.
تفكيك العدو
في الفصل الثالث والأخير من الكتاب، يتساءل كونيسا عما إذا كان من الممكن العيش دون عدو؟
سرعان ما تأتي الإجابة بـنعم، «فالعيش من دون عدو للدولة صعب لكنه ممكن»، ويضرب مثالًا على ذلك بحالة الاتحاد الأوروبي فهو كيان بلا عدو، ورغم ما يواجهه من تحديات داخلية وخارجية، فإن تصوره للدفاع المشترك يمنحه فرصة لتقليل الأعداء.
ويعتمد الكاتب في إجابته هذه على أن العدو بناية تُشكلها الدولة، فيمكنها إذن تفكيكها عبر مجموعة من الآليات يأتي في مقدمتها التالي:
1. الاعتراف بالمسؤولية والتكفير عن الذنب، كما فعلت ألمانيا 1945، حين اعترفت بالمسئولية عن التسبب في الحرب العالمية الأولى.
2. تغيير الخطاب نحو التهدئة والدعوة إلى السلام، وأن تبدأ عملية المصالحة والتي على الرغم من صعوبتها في ظل سيطرة حرب الذكريات التي من الصعب تجاوزها فإنها الأداة الأكثر فعالية.
3. تجاوز الخلافات الحدودية، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك اتفاقية «شينغين» التي فتحت الحدود بين الدول الأوروبية، فمن خلالها زالت الخلافات الحدودية بين ألمانيا وفرنسا، وصارت حدود فرنسا اليوم هي مطار شارل ديجول.
وفي حالة الحروب الأهلية، من المفترض أن يتم تفكيك العدو عن طريق النسيان والصفح والعدالة، إلا أن التجارب السابقة أثبت عدم جدوى النسيان والصفح، إذ لا تُنسى أعمال العنف من جهة، ولا يتم اتخاذ أي إجراء قضائي بحقّ مرتكبيها من جهة أخرى.
وبالنسبة إلى العدالة، فهناك نوعان من العدالة في مرحلة الخروج من الحروب الأهلية:
1. العدالة الترميمية، وهي اقتصاصية تهدف لإقامة العدل.
2. العدالة التعويضية: وهي غير اقتصاصية، تقتصر مهمتها على الانتقال من الحرب إلى السلم.
* يفترض مؤلّف الكتاب أن إسرائيل دولة ديمقراطية، وبالتالي يطرح هذا السؤال. ونسجّل هنا اعتراضنا على هذه الفرضية لأسباب موضوعية: فهي أولًا دولة استيطان غير شرعية، كما أنها دولة قائمة بالأساس على الفصل العنصري. (إضاءات)