سينما المأساة الفردية: كيف تقتل الأرقام إنسانيتنا؟
تعتبر الروايات هي أقرب الفنون شكلًا للأفلام، وتتشابه الأسئلة والاتهامات التي تُثار حول الاثنين، خصوصًا حول فائدة كل منهما، ففي النهاية الرواية ليست كتاب، والفيلم السينمائي ليس وثائقيًا أو مقطعًا علميًا، ومن هنا لا تظهر الفائدة بشكل مادي واضح تمكن ملاحظته، بل تبقى العلاقة بيننا وبين الأفلام غامضة وغير مفهومة، لكن ومع هذا تخرج لنا عشرات التفسيرات والنظريات التي تؤكد على أهمية مشاهدة الأفلام، ولا أجد أن توضيح أهمية الأفلام من الصعوبة في شيء، ولكن هناك فكرة معينة تتردد في رأسنا مؤخرًا، وقد ساعدت الأحداث الفلسطينية الأخيرة والخطابات الإعلامية في تخمر هذه الفكرة ووضوحها.
التعامل مع الموتى كأرقام
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة وعداد الموت لا يتوقف، ودفتر الجرحى تسود صفحاته قبل مرور زمن يُذكر، في البداية نرى شخصًا يموت، وآخر يصرخ، فنتحدث عنهما ونتأثر بهما، ولكن كلما زاد العدد كلما تأثرنا بالأمر بشكل أقل، ليس هذا لأن الإنسان يعتاد الأشياء بسرعة فقط، ولكن لأن الأرقام تحول الكوارث إلى إحصاء، أسهم خضراء تنظر للأعلى، وأسهم حمراء تنظر للأسفل، لا يتوقف الأمر على القضية الفلسطينية وحسب، بل هي مأساة الإنسان التي لا تنتهي، فللأمراض إحصاء، وللاضطرابات النفسية إحصاء، ولحالات الحب والفراق إحصاء، وهذه الأرقام الصلبة هي أكثر ما يضيع فيه الإنسان، وهنا تظهر الأفلام كمقاومة لهذه الأرقام والبيانات، للصراخ في وجه هذه المعلومات الصلدة والوقوف أمامها، لإظهار قشة يتمسك بها الإنسان.
التعاطف مع البطل
للأفلام أبطال وشخصيات تدور حولهم، هذه الفردانية والتحديد هي الأداة العذبة التي توضح لنا كل شيء، حينما قرر نجيب محفوظ التحدث عن فترات سياسية من تاريخ مصر على سبيل المثال، كتب ثلاثيته الشهيرة «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكرية»، وهنا لم يتتبع نجيب التغيرات السياسية بشكل جامد، بل بحيوات بشر من لحم ودم يتأثرون ويتغير شكل حياتهم بالسياسة، الأمر نفسه حدث في فيلم «Dunkirk» و في فيلم «1917» في الفيلمين نرى أحداثًا مهمة حدثت خلال الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، تُجبرنا هذه الأفلام أن نتفاعل معها بشكل مختلف عن قراءة أخبار تخص حادثة «دانكريك» في الجرائد، فهنا نتعاطف ونتأثر مع قصص الأبطال، وهذا التأثر يصحبه وعي عن الحوادث التي حدثت بشكلٍ كامل، فإذا نظرنا إلى فيلم «Life Is Beautiful» أو «The Pianist» سنجد أيضًا أننا نتأثر بأحداث المحرقة وويلات الحرب العالمية الثانية، فنرى المنازل المهدمة، وقلة الطعام، والدمار في المدن، وأشلاء البشر بين المروج والمراعي، وتزداد ويلات الحرب أكثر وأكثر حتى نفرح أشد الفرح حينما نرى أرغفة ساخنة وطازجة في مشهد من فيلم «The Pianist»، لم يقل الفيلم شيئًا عن أرغفة الخبز لكنه يعرف تأثير هذا الرغيف الطازج الطري بعد كل هذا الخراب والموت، بل ونرى هذا التغير الحاد من لون الدمار الرمادي والأتربة للون الرغيف. نرى كل هذا الخراب ونتأثر به وذلك من خلال عيون بطلنا الذي بنينا بيننا وبينه روابطَ ومشاعر جياشة.
لا يتوقف الأمر على أفلام الحروب بل على كل ما يتم إنتاجه في المطلق، فالأفلام تؤثر فينا بشكل كبير، ومن خلالها نعيد تعريف الأشياء حولنا وفهمنا لها، هكذا تتغير وتتشكل نظرتنا عن الحب، وعن أجسادنا، وعن الطريقة التي نتفاعل بها مع العالم، بل قد نتقبل أشياء كثيرة كنا نرفضها في أنفسنا أو نحاول التهرب منها، فالأفلام في المقام الأول تحكي شيئًا غريبًا وجديدًا في حياة البطل، وهذا الشيء الغريب قد يتشابه مع الغريب فينا، وهنا تبدأ هذه الروابط بيننا وبين الأفلام بالتزايد والتماسك، بل يمكننا أن نفهم من خلال هذه النقطة لماذا نشعر بأننا أقرب للأشخاص الذي يحبون الأفلام التي نحبها والروايات التي نقرؤها نفسها، فما أحببناه يعبر عنا مع الوقت، وفي مجتمع مثل مجتمعاتنا العربية، لا يعتبر التعبير عن النفس من الأمور السهلة والبسيطة، لذلك إذا وجدنا شخصًا ارتاح وأحب فيلمنا المفضل، سنعرف تلقائيًا أن هناك مُشتركًا بيننا وبين هذا الآخر الغريب.
أفلام نجد أنفسنا خلالها وأشخاص نجدهم خلال الأفلام
في فيلم «Incendies» نعيش مع جين وسايمون في رحلة طويلة من البحث في تاريخ أمهما وحياتها القديمة، الفيلم مليء بالمفاجآت، والأحداث الصادمة، بل وينتهي بواحد من أكثر مشاهد السينما الصادمة التي يمكن رؤيتها، لكن وعلى الرغم من هذه القصة عن هذه العائلة ففي نهاية الفيلم ستعرف أنك أمام كارثة إنسانية يدفع ثمنها ملايين البشر، وهنا أقصد الفتنة الطائفية في لبنان، وكيف تؤثر الأحداث السياسية الجارية على حياة الفرد، فمن سن صغيرة وأنا أسمع عن التوترات والحروب السياسية في لبنان، لكن محاولة القراءة عن الأحداث وتحليلها لتكوين وجهة نظر عنها لا يمكن مقارنتها بالنظر عن قرب إلى قصة إنسانية واحدة، نرى هذا أيضًا في فيلم «Turtles Can Fly» وذلك من خلال قصة الأطفال الأكراد الذين يعيشون حياة بائسة بسبب ويلات الحرب، فنجد أن الأطفال يوفرون قوت يومهم عن طريق فك الألغام وبيعها، حيث إن الأطفال ليسوا خبراء في أمر كهذا، فإن بعض هذه الألغام تنفجر بهم، فنجد أن بعض الأطفال بلا أطراف، وفي ظل هذا العمل القاسي، ومع اقتراب الغزو الأمريكي للعراق، بل ومع مهاجمة الجنود العراقيين للأكراد لا نجد أن الابتسامة تختفي من على وجوه الأطفال، بل يحاولون أن يسترقوا أي لحظة حياة من الحياة قدر المستطاع، من خلال هذه الحياة تظهر لنا تأثيرات السياسات العالمية والمحلية على الأفراد وكيف تتحول حياتهم إلى جحيم.
كما قلنا مُسبقًا لا يتوقف الأمر على أفلام الحروب والنزاعات السياسية الكُبرى، ففي «A Separation» نرى تأثير الطلاق على الأطفال، وكيف يغير هذا الأمر شكل حياة الأبناء في لحظات، بل ويجعلهم مشردين بين الآباء والأمهات، ويشعرون دائمًا في داخلهم أنهم في حاجة للوقوف في صف طرف واختياره دونًا عن الطرف الآخر. وفي فيلم «3 Idiots» نرى مشكلة التعليم وكيف يؤثر نظام التعليم الحالي في ملايين الأشخاص. وفي فيلم «Requiem for a Dream» نعرف ماذا يمكن أن تفعل الأنواع المختلفة من الإدمان للأشخاص، وفي «Whiplash» و «Black Swan» نعرف إلى أي حد يمكن أن يدفع الإنسان نفسه من أجل فنه.
كل هذه الأفلام وآلاف غيرها، هي أفلام تدور حول أبطال محددين، وحكايات واضحة المعالم، لكن هذه القصص تدور في ظل أحداث نعرفها جميعًا في الفضاء العام، وهذا التماس بين حكاية البطل والحكاية الواقعية التي نعرفها، هو ما يميز الأفلام عن غيرها من الفنون، بل ما يميز معرفة حادث أو مرض أو شيء معين من الأفلام عن معرفتها من الجرائد والأفلام الوثائقية، فالإنسان بعد مرور وقت على حدوث الكوارث، تضعف وطأتها عليه، فعلى سبيل المثال لا يتفاعل العالم الآن مع الأحداث الفلسطينية كما كان يتفاعل في بداية الحرب، وعلى الرغم من هذا فإن تفاعل العالم الآن مع ما يحدث في فلسطين أكثر بكثير من تفاعلهم تجاه ما يحدث في أوكرانيا، وبعيدًا عن هذا وذاك، يفقد العشرات في السودان أرواحهم نتيجة الحرب التي تدخل شهرها السابع لكنها تواجه باهتمامٍ أقل. ولكن فيلمًا واحدًا عن شخص أو عائلة يعانون نتيجة الصراع أو عن أم تحاول تقسيم الطعام الذي يكفي لوجبة واحدة في يومٍ واحد على يومين مما يزيد من احتمالية فساد الطعام وإصابة أبنائها بالأمراض، قد يغير الوعي بهذه القضايا التي تبتعد أنظار العالم عنها، بل ولا يدرك معظمنا حجم الكارثة التي تحدث لملايين من البشر، فقط لأنها بعيدة عنا، أو لأننا لا نعرف منها إلا بعض إحصاءات وأرقام يتوقف المخ عن ترجمتها مع الوقت لفهم ماذا تمثل بالفعل على أرض الواقع.
قائمة شاندلر: إنقاذ حياة واحدة
هذه الفكرة التي نتحدث عنها تذكرنا بنهاية فيلم «Schindler’s List» حيث إن السينما هي محاولات مختلفة للتحدث عن الإنسان، ومشاعره، والحب، والحياة، والموت، والله، وكل ما يمس الروح، وكل ما يحيلنا ماءً صافية؛ من هنا نجد المشهد الإنساني لشاندلر، رجل الأعمال الغني الذي نجحت تجارته بسرعة، وعمل لديه مئات العمال وأنقذهم من التشرد، يملك شاندلر ضميرًا حيًا كان يكبر شيئًا فشيئًا حتى في الأوقات الصعبة التي مرت عليه، واستمر الأمر هكذا حتى أتت اللحظة التي قرر فيها شراء اليهود من ماله الخاص لينقذهم من محارق هتلر.
أنقذ شاندلر مئات الأشخاص، اشترى حياتهم وأعطاهم فرصة أخرى، لكن يجب عليه أن يهرب من الحكومة، وهنا يأتي المشهد، عندما وقف شاندلر أمام القس وأخذ منه ورقة قال عنها القس «لقد كتبنا خطابًا نحاول فيه شرح بعض الأشياء في حالة قُبض عليك، كل عامل هنا وقع عليها»، وهنا يبدأ شاندلر بالانهيار الرجل الذي قال سابقًا إنه لا يعترف برجال الدين وسخر منهم، يبكي وينهار «لم أفعل ما فيه الكفاية» «لم أقم بكل ما عليَّ فعله» الرجل الذي أنقذ مئات الرجال يذوب، يتحول إلى إنسان، يتحول إلى مجرى مياه صافية، الرجل الذي دفع كل ثروته يبكي أمام جملة من التلمود نقشت على خاتم أعطاه إياه مساعده «من أنقذ نفسًا واحدة فكأنما أنقذ العالم بأكمله» يبكي بين العمال «كان يمكن أن أنقذ المزيد، لو كسبت المزيد من المال، لقد ضيعت الكثير من المال في أشياء غير مفيدة، كان يمكن أن أبيع هذا الدبوس وأنقذ به شخصين، كان يمكن أن أبيع سيارتي وأنقذ عشرة أشخاص آخرين، لماذا لم أبع السيارة؟ عشرة أشخاص آخرين، هذا الدبوس الذهبي، كان يمكن على الأقل أن يجعلني أنقذ إنسانًا آخر، كان يمكن أن أنقذ إنسانًا آخر ولم أفعل».
هذا بالضبط ما نرى أن الكثير من أفلام السينما تحاول فعله، محاولة إنقاذ شخص آخر، محاولة تحسين حياة فرد آخر، هذه العملية المستمرة لرواية القصص وإظهار المشاكل والعيوب في عالمنا، وإظهار سيناريوهات مختلفة للواقع وحلول بديلة للمشكلات.
التمسك بالإنسان والفرد والتأكيد على أهميته، وعلى أن الأشياء والأحداث التي نراها بشكل عام في داخلها أشخاص يُسحقون ويكابدون الدقائق من أجل حياة أفضل، أو نجاح آخر. في النهاية تذكر أن ما ستخبرنا به الأخبار هو أن شاندلر أنقذ مئات الأشخاص، بينما تقف السينما وتبكي وهي تُردد «كان يمكن أن يُنقذ شخصاً آخر». ففي الإنسان الواحد يكمن العالم الأكبر. وكما يقول الشاعر وديع سعادة «للدم لسان، كلُّ نقطة منه وهي تسقط تقول: البشرية كلّها سقطت» لذا لا تقع في فخ الأرقام.