الوعي الفردي
الكون الفسيح بمجراته، الحياة المتنوعة بموجوداتها، الكائنات المتمايزة بأصنافها، عوالم البشر، وعوالم الحيوانات، وعوالم الطيور وعوالم الحشرات وغيرها من العوامل التي ما زال العلم مستمراً في اكتشافها حتى الآن دون توقف، كل تلك الموجودات حولنا تحتاج إلى وقفة تأمل، وقفة ليس بالضرورة أن ترتبط بالمستوى العلمي البحت، بل بمستوى الوعي الذي يشكل الوجود الإنساني.
الإنسان الذي يشترك مع كل هذه الموجودات في مساحات الحياة بتقلباتها يتمايز عنها بالوعي الذي يميزه، إذ إن الإنسان بدون هذا الوعي يصبح مثل تلك الموجودات التي تعيش في دوائرها دون أن تتساءل بشغف عن الدوائر الأخرى، لكن وحده الإنسان الذي لا يستطيع أن يبقى في دائرته جامداً، لان أفق السؤال يقض مضجعه، يدفعه لأن يكتشف كل الدوائر التي تحيط به، حتى وإن لم يدركها بشكل حقيقي يمكنه أن يبني حيالها تصورات معينة تساعده على بناء وعيه الفردي حيالها.
وتكمن أهمية الوعي الفردي في أنه يشكل أول سلم لحركة المجتمع نحو الحضارة، فالفرد ليس كائناً مستقلاً بذاته بل هو كائن اجتماعي يتشكل وعيه من خلال البيئة المحيطة به، البيئة التي ترتبط بمستواه الاجتماعي، كما يشير كارل ماركس والبيئة التي ترتبط بالظروف التاريخية التي تشكل وعي المجتمع ككل وتشكل نظامه السياسي والاقتصادي والمعرفي، غير أن هذه الظروف التي تشكل الوعي الفردي تمثل لبنة أساسية يأتي بعدها دور الفرد في بناء قدراته الفكرية التي تمكنه من استخدام تلك المعرفة للوصول إلى أفكار أخرى ليس بالضرورة أن ترتبط بالأفكار التي شكلت أساسه المعرفي، وبذلك يكون قادراً على أن يخلق قاعدة معرفية جديدة تشكل وعي المجتمع والتي بمرور الوقت وتراكم المعرفة والخبرات تصبح قادرة على بناء الحضارة.
لكن كيف يبنى هذا الوعي الفردي؟
في الحقيقة يوجد عدة مراحل ومستويات ينبغي أن يمر بها الفرد حتى يشكل وعيه وأول تلك المستويات هو الإدراك ثم الشعور، والإدراك يتشكل من خلال عدة عوامل التربية أو التنشئة، كما أن التعليم ومستوياته يلعب دوراً في تنمية الإدراك، أضف إلى ذلك الخبرات الشخصية التي تميز فرداً عن آخر وتشكل إدراك الفردي الذي يساهم بشكل كبير في بناء وعيه الفردي، وتكمن أهمية الشعور في أنها جزء لا يتجزأ من عملية الإدراك وبناء الوعي كما يشير فرويد.
بعد أن يتشكل الوعي لا يصبح ذا أهمية إلا إذا تحول إلى سلوك ومعتقدات وبذلك يسهل انتشاره بين الأفراد الآخرين الذين يساهمون في إثرائه وتطويره من خلال خبراتهم الشخصية ووعيهم الفردي، وبذلك يتشكل الإطار العام للوعي المجتمعي الذي يساهم بشكل كبير في نقل المجتمع من مرحلة إلى مرحلة في سلم الحضارة.
وعند تطبيق المعرفة المتشكلة من الوعي الجمعي الذي تشكل من خلال الوعي الفردي ليس بالضرورة أن يتمكن المجتمع من الانتقال إلى مرحلة أخرى، بل إنه يحتاج إلى وقت كاف إضافة إلى تضافر عوامل أخرى تعمل على بلورته بشكل أكبر بحيث يتمكن من تجاوز التحديات التي يمكن أن تعيق مشروعه الحضاري، وكما يتضح أن كثيرًا من التجارب الحضارية التاريخية لم تحقق ثمارها مباشرة بل أخذت وقتًا طويلاً حتى تتمكن من تحقيق التغيير المنشود الذي يرتئيه المجتمع.
بناء الوعي الفردي مهم لأنه هو الأساس الذي يبنى عليه الوعي المجتمعي، كما أنه الأساس الذي يحرك سلوك الأفراد والجماعات بشكل يمكن المجتمع من الحركة وتجاوز مرحلة الجمود التي تعد أحد أشكال الموت الحضاري، وبتحقيق المجتمع لمبدأ الحركة فهذا يعني قدرته على مواصلة مسيرته الحضارية وتأثيره المتنوع على المستوى المجتمع وعلى مستوى المجتمعات الأخرى.