إنديانا جونز: إعادة بناء الشرق في الخيال الغربي
في الدقيقة الأربعين من فيلم «إنديانا جونز: سارقو التابوت الضائع» للمخرجين ستيفن سبيلبرغ وجورج لوكاس، يقف أحد المقاتلين بين جموع الناس، متأهبًا مع ابتسامة سادية زاد من عنجهيتها تلحفه بالسواد، ولحية كثة، غطت وجهه المتغطرس الخالي من النور، إضافة إلى عمامته وسيفه اللذين يرمزان إلى عروبته. على الجهة الأخرى من المشهد تظهر شخصية إنديانا جونز أو دكتور إندي، والتي جسدها الممثل الأمريكي «هاريسون فورد»، إذ يظهر بشخصيته المحببة، التي تعكس في قبعتها العريضة، وسوطها، وبندقيتها صورة رعاة البقر الغربيين المعروفين في الأفلام الأمريكية منذ عقود. في الغالب سيحفز هذا المشهد تعاطف المشاهدين مع إندي، والذي يمثل رمز الأصالة الأمريكية، وكأنما يُرى في خصمه العربي تهديدًا للحلم الأمريكي.
في الثواني اللاحقة، يستعرض المقاتل العربي بسيفه بعض الحركات في تهديد واضح لإنهاء حياة إندي، للوهلة الأولى يتراءى للمشاهد أن النزال بينهما سيكون مبارزة بالسيوف، إلا أن إندي يتجاوز التوقعات، ويسحب بندقيته ليرديه قتيلاً برصاصة واحدة، وبشكل استعلائي، تاركًا لدى الجمهور انطباعًا بأن الشرق الأوسط مجتمع متأخر، تخلّف عن ركب الحضارة والتكنولوجيا الحديثة والأسلحة المتطورة. عاكسًا بذلك التفوق الثقافي والعسكري للغرب على الشرق، ومشوهًا النموذج الحقيقي للشرق الأوسط من خلال تصويره على أنه عدو الشعب الأمريكي، وهو اعتقاد سوف يتردد صداه عبر وسائل الإعلام، بما فيها سينما هوليوود لعقود طويلة مع عواقب سياسية بعيدة المدى.
سينما هوليوود
تُعرف سينما هوليوود بأنها منتج جماعي، وتسمى أيضًا بالحلم الأمريكي وتقدم محتوى يعتمد على الأيديولوجيات السائدة في كل عصر، كالبرجوازية والرأسمالية، وذلك من خلال تركيزه على موضوعات كالفردانية، والموهبة التي تؤدي إلى النجاح والنجومية، إذ يتم التفرد في طرح المشاكل الاجتماعية ومعالجتها من خلال استخدامها استخدامًا نفسيًا، يؤثر في رؤية المشاهد ويخدم مجموعة معينة من الحجج المراد الترويج لها.
ومن السمات الشائعة للسينما، أنها صناعة ترفيه قبل كل شيء، بيدَ أن أفلام هوليوود -التي غايتها تسلية المشاهدين- بتنوعها من الدراما إلى الخيال، ومن الكوميديا إلى المأساة ـ عندما تعالج موضوعات مثل النجاح والتمييز، والشباب والأعراق، فإنها تعكس وجهة نظر الغرب وحضارته المهيمنة على العالم بأسره. [1]
كذلك لقد استفادت سينما هوليوود من بركات الاستشراق، وقد أنتجت العديد من الأفلام في هذا المضمار، فهوليوود تقدم بلادَ الشرق لجمهورها، كمساحات حيكت فيها قصص وحكايات أبطالها الغربيين. ويلاحظ أن تجسيد أدوار المستشرقين يتجلى في الأفلام في سياق الشخصيات الثانوية، أي أن شخصية البطل المستشرق تتبلور من خلال تلك الشخصيات ذات الأدوار الثانوية المستخدمة في الفيلم، ويتم عرضها وملاحظتها من خلال التراتبية والمركزية في نص الفيلم بحيث تكون شخصية المستشرق لها الدور الأساسي في الفيلم، لذلك فإن أول ما يجب فعله عند النظر في الرموز المستخدمة في فيلم معين، هو دراسة المادة الثقافية المراد معالجتها، فعلى سبيل المثال، العرق في فيلم «سارقو التابوت الضائع» هو المادة الثقافية المراد طرحها، ولدراسة الأسباب وراء هذا الطرح، يجب أن يتم تحليل الفيلم من حيث ترتيب القصة والشخصيات والسياقات المستخدمة، إذ يتم تضمين هذه النماذج المتكاملة في تمثيلات ورموز ويتم تحديد منْ «نحن» ومنْ «الآخر» فيها. [2]
من الواضح أن بعض هذه الأفلام ذات النهج الاستشراقي، والتي تحتوي على تمثيلات ورموز مثيرة للجدل، قد مكّنت الاستشراق من الاستمرار، فبعد أن كان هذا النهج يُغذى من خلال الرسم والتصوير والحكايات، استمر بعد ذلك ضمن الثقافة البصرية في السينما، إلا أن السينما تختلف عن الأدوات الأخرى التي تعكس الصورة على نحو ثابت، فميزة الحركة هنا تزيد من الشعور بالواقع، هذه الميزة أيضًا تزيد من قدرة السينما على تمثيل، ونقل، وإرسال المعاني النفسية والرمزية في جميع أنحاء العالم. وإذا كانت الكلمات في بعض الأحيان ذات معانٍ محدودة في اللغة، فقد تكون للصور الموجودة في الفيلم معانٍ تتخطى اللغات وحدودها.[3] فما هي العلاقة بين هذه المعاني غير المحدودة المُنتَجة في السينما والمعاني المُنتَجة في المجال الاجتماعي؟
هذا السؤال يؤدي إلى إشكالية العلاقة المعقدة بين السينما والواقع، ففي كثير من الأحيان تعتمد السينما في أفلامها على المثاليات أو الخيال وهذا ما يتناقض مع الواقع. عندما ننظر بعناية في الأنماط الشرقية -كما رأينا أعلاه- التي يتم عرضها ندرك كيف أن السينما والاستشراق يتناغمان معًا وكيف يتم إنشاء شرق آخر مبني في نشأته على الخيال.
لا شك أن السينما كغيرها من الفنون، تحتوي في ثناياها على رسائل أيديولوجية كما أسلفنا سابقًا، وقد برزت من خلال تعزيز هوية الـ «نحن» على حساب «الآخر» الذي تم إنشاؤه من خلال الكثير من الأدوات ومنها السينما، إلا أنه وكامتداد للثقافة لا تقتصر السينما على تحديد هذه الأنماط ضمن قوالب أيديولوجية خاصة بها وحسب، إنما تمتلك السلطة المطلقة في عكس الأدوار، وأن تبدل القوي ضعيفًا، والخلوق عديمًا للأخلاق وتضفي بذلك شرعيةً على نموذجها الجديد، فالبخور والجواري وما إلى ذلك من الصور والرموز الوهمية الاستشراقية -وإن كانت لفترة زمنية قصيرة- تستقر في عقول جماهيرها، وهذا ما يمكن تفسيره على أنه إمبريالية ثقافية، وما السينما هنا إلا أداتها الناعمة.
في الوقت الذي يتم فيه إنشاء «نحن» من خلال نسب العديد من السمات الإيجابية، يتم نحت «الآخر» وتشكيله من خلال نعته بأرذل الصفات، وكثيرًا ما يجري هذا التشكيل بإثارة التناقضات معتمدًا على العرق، والدين، والخير، والشر. وعلى الرغم من أن الغرب كان دائمًا معجبًا- وإن بشكلٍ ضمني- بثراء الشرق ولا سيما في العصور الوسطى، إلا أن الغرب قد شهد توجهًا سلبيًا تجاه المجتمعات الشرقية منذ بداية بناء علاقته بالشرق، وفي القرن التاسع عشر أصبحت نظرته الاستعلائية والفوقية للمجتمعات الشرقية أظهر وأجلى. وإنَّ نعت الشرق بهذه السمات السلبية يضمر في طياته أفكارًا استعمارية، فكون هذه المجتمعات قذرة وبربرية، من واجب الغرب تحريرها وجلب الأمن ونشر السلام في أرجائها.
الشرق والاستشراق
لاكتشاف الحقائق التي تكمن وراء الشرق، يجب أن ننظر إلى الخلفية الثقافية والتاريخية لوجهات النظر الغربية عن الحضارة الشرقية، والتي ناقشها إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق»، إذ يرى سعيد أن «الاستشراق فكر قائم يعتمد على التمييز الأنطولوجي والأبستمولوجي بين الشرق والغرب».[4]
لسبر أغوار هذا التعريف يعمد الباحث والبروفيسور التركي «يوجل بولوت» في شروحات خاصة لكتابه «التاريخ المختصر للاستشراق» على سرد مفهوم المواطنة في العصر الأنتيكي في أثينا، حيث حدّد مفهوم المواطنة من الناحية الاقتصادية والعمر، وبذلك يتم التصنيف عبر صنف الأحرار وصنف العبيد والنساء، وإن الفرق اللامع بين هذين الصنفين هو التمتع بالحرية، فطبقة الأحرار هي العنصر الأساسي المكون للدولة ولديهم الحق في اختيار نظم الحكم فيها، ولديهم المعرفة والقوة الكافية التي تمكنهم من المشاركة السياسية والقانونية في إدارة الدولة، فهم عن سواهم من يملكون القدرة على تحديد الصواب من الخطأ.[5]
يرى بولوت أنه إذا ما أسقطنا هذا المثال على العصر الحديث، فإن الغرب يرى في طويته أنه قد أتم البلوغ وتمتع بحريته، وحصل على مكانته بين الأمم وأصبح له قرارات راشدة لها تأثير في حياته وحياة الأقوام الأخرى، ليس عليه من حسيب أو رقيب، فله الحق وحده في إدارة شئون الأمم. وهذا ما عناه سعيد بالفارق الأنطولوجي والأبستمولوجي في تعريفه للاستشراق، إذ يرى الغرب نفسه أنه عاقل متعقل قادر على اتخاذ القرارات وتقرير مصيره، في حين لم يرقَ الشرق لامتلاك الكفاءة التي تمكنه من اتخاذ قراراته بعد، لذلك لابد لملء هذا الفراغ بكيان ناضج يتخذ عنه قراراته حسب ما ارتأى له الغرب. في الكتاب ذاته يستشهد سعيد بما أفاده «آرثر بلفور» أمام مجلس العموم عن أن سبب الوجود البريطاني في مصر، هو معرفتهم لحضارتها وتاريخها السحيق، وهذا يخولهم استثمار ثرواتها والعودة بفائدتها على الإنسانية جمعاء، كونهم يمتلكون الكفاءة والمعرفة، إذن فالشرق هو رغيبة الغرب.
في الواقع هناك أمثلة عميقة على هذه التعارضات الثنائية في جميع أفلام إنديانا جونز، ولاسيما فيلم «إنديانا جونز ومعبد الهلاك» والتي تعرض تمثيلاً مثاليًا للهند المستشرق المبني على الخيال. ففي مشهد مائدة العشاء، يتم عرض الهنود بوصفهم أناسًا غريبين من خلال ملابسهم الفاخرة، الغنية بالألوان والمجوهرات، في حين أن الغربيين -الذين يتم تمثيلهم من خلال إندي- سوف يظهرون أكثر تحفظًا للجمهور الغربي. كذلك في أثناء تقديمهم الطعام لإندي وصديقته، يتم تصوير الثقافة الهندية والهنود بوصفهم متوحشين يستهلكون وجبات غير صالحة للأكل وغير طبيعية، وإن رعب صديقته البيضاء ورفضها الأكل هو انعكاس لاستنكار الجماهير الغربية لهذه الثقافات والاشمئزاز منها.
إن شخصية إنديانا جونز في جوهرها، هي انعكاس للمواقف الإمبريالية الغربية التي تفشل في فهم واحترام الاختلافات الثقافية التي واجهتها في الشرق، فيتّبع كل فيلم من أفلام هذه السلسلة المسار نفسه، إذ يوجد كنز أثري في بلد ناءٍ بعيد، وعلى إندي المغامر أن يتكلف أعباء هذه المهمة لإنقاذ القطع الأثرية من خلال إحضارها إلى الولايات المتحدة، رمز القوة والسلام. يلاحظ هنا أن إنقاذ إندي للكنز وتسليمه لبلاده، يجسد فكرة أن من واجبه اجتياح البلدان الشرقية وسرقة ممتلكاتهم الأثرية القيمة، مما يسمح له بتبرير تصرفاته الاستعمارية على طول الطريق.
في كتابه «صدام الحضارات» اعتقد صامويل هنتنغتون أن الصراع الأساسي في مجتمع ما بعد الحرب الباردة لن يكون اقتصاديًا أو جيوسياسيًا، بل سيكون حربًا ثقافية بين الهوية الدينية والعرقية. تبعًا لذلك، لن تُخاض الحروب في المستقبل بين البلدان، بدلًا من ذلك سيكون العراك بين الثقافات.[6]
يمكن قراءة نظرية هنتنغتون في الواقع مع بروز الإسلاموفوبيا في الولايات المتحدة، وخاصة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية. فإن جذور الإسلاموفوبيا أو موجة الخوف المتزايدة من العداء والتمييز ضد المسلمين متجذرة في الخوف من «الآخر» وهي شخصية تم تخيلها وإعادة بنائها من خلال وسائل الإعلام الشعبية. فقد أدت المنظمات الإخبارية اليمينية دورًا فعالاً في بناء كراهية الإسلام، من خلال تداول وسائل الإعلام التي تسلط الضوء على أقلية مسلمة لا يفهمها الغالبية العظمى من المواطنين الأمريكيين، وتضخيم طبيعتها الخارجية، لتوحي لجمهورها بأن وجودها ذاته، تهديد للقيم الأمريكية الأساسية.
- سونا أكديري، “الاستشراق في سينما هوليوود”، رسالة ليسانس، جامعة الفرات، كلية الإعلام، تركيا، 2014، ص 32.
- المرجع السابق، ص 34.
- المرجع السابق، ص 33.
- إدوارد سعيد، “الاستشراق”، ترجمة: محمد عناني، القاهرة، دار رؤية، 2006، ص 45.
- سمير مرقس، “المواطنة والتغيير”، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، 2006، ص 29-32.
- صامويل هنننغتون، “صدام الحضارات”، ترجمة: طلعت الشايب، القاهرة، دار سطور، 1999، ص 47.