لماذا لا تخشى الهند العقاب لانتهاك حقوق الإنسان؟
تثور التساؤلات حول العالم عن أسباب الصمت عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ترتكبها نيودلهي خصوصًا بعد وصول حزب بهاراتيا جاناتا اليميني المتطرف إلى الحكم منذ عام 2014، حيث شنت الحكومة حملات غاشمة ضد الأقليات وقمعت منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان لمنعها من اعتراض طريقها، وحاصرتها بقضايا حول التمويلات والتراخيص وما شابه لإسكاتها.
وفي عام 2020 أقر البرلمان الهندي تعديلات قانونية أثرت بشكل سلبي على وصول منظمات المجتمع المدني إلى التمويل الأجنبي وقدرتها على ممارسة عملها، في ظل تزايد الاتهامات الإعلامية الموجهة لها بأنها تشوه صورة الدولة في الخارج عبر المعلومات التي تتبادلها مع الأمم المتحدة والسفارات الأجنبية.
وفي رد صريح عن مسيرة طويلة قطعتها البلاد لتعزيز حكم القانون والقضاء على التمييز، أعادت المحكمة العليا تفسير قانون منع الفظائع لعام 1989 الخاص بالجرائم العنصرية لتصعيب تنفيذه، عبر النص على ضرورة إثبات أن الجريمة ارتكبت فقط لأن الضحية تنتمي إلى طائفة محددة، وهو أمر مستحيل عمليًا في حالات كثيرة، مما أدى لاحتجاجات واسعة النطاق.
أما السلطة التنفيذية الخاضعة بشكل مباشر لليمين المتطرف، فهي أصلًا متهمة بتنفيذ جرائم عنصرية، وغض الطرف عن مرتكبي تلك الأعمال ومنع أصوات الضحايا من الوصول إلى ساحات المحاكم.
وشجع هذا المناخ القاتم على تصاعد الانتهاكات ضد الأقليات مثل الداليت الذين يتعرضون لأبشع أنواع الاستغلال، إذ تُجبر الآلاف من بناتهم على العمل في الدعارة وهن في سن الطفولة وفقًا لتقاليد قديمة تعرف باسم «ديفاداسي»، بموجبها يتم إكراه فتياتهم على البغاء مع أفراد الطبقة العليا في المعابد الهندوسية، ولا يتم الإبلاغ عن معظم الجرائم المرتكبة ضد هذه الأقلية بسبب الخوف من الانتقام وتواطؤ الشرطة، وتقدر نسبة الهجمات المبلغ عنها حوالى 5% فقط بسبب غياب حكم القانون وازدياد نفوذ المتشددين الهندوس.
وفي عموم البلاد يواجه المسلمون حملة اضطهاد غير مسبوقة وصلت إلى درجات مرعبة في المناطق التي يشكلون فيها نسبة كبيرة من السكان مثل غرب البنغال التي شهدت عمليات تهجير قسري، وكذلك إقليم كشمير المحتل ذي الأغلبية المسلمة، فقد حوله الجيش الهندي إلى ما يشبه الثكنة العسكرية منذ عام 2019، حين ألغى قانون الحكم الذاتي ونفذ هجمات عسكرية ضد السكان.
وقد زارت مؤخراً عضوة الكونجرس الأمريكي إلهان عمر الشطر الباكستاني من كشمير، وطالبت البيت الأبيض بإيلاء هذه القضية اهتمامًا أكبر، وانتقدت التغاضي الأمريكي عن جرائم نيودلهي وانتهاكاتها، وتساءلت عما الذي يحتاج مودي أن يفعله ضد المسلمين حتى تتوقف واشنطن عن اعتباره شريكًا في السلام، مما أثار رد فعل غاضبًا من الهند التي ترفض تطبيق قرارات الأمم المتحدة المطالبة بإعطاء سكان الإقليم حق تقرير المصير.
انتقائية حقوق الإنسان
وعقب زيارة إلهان عمر بقليل أثار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، مسألة تجاوزات نيودلهي المتعلقة بالأقليات متهمًا مسؤولين في الحكومة والشرطة وقطاع السجون بممارسة انتهاكات حقوق الإنسان، خلال لقائه بنظيره الهندي الذي رد عليه بالمثل وأبدى أسفه لانتهاكات حقوق الإنسان على الأراضي الأمريكية.
ويعد هذا الموقف الأمريكي بمثابة الاستثناء الذي يؤكد القاعدة فبعكس دول أخرى لم يعد انتقاد واشنطن حقوق الإنسان بها يلفت اهتمام أحد لكونها أخبارًا مكررة معتادة، فإن التعامل الدولي- والأمريكي خصوصًا- مع الهند اتسم بالتسامح مع انتهاكاتها المروعة لحقوق الإنسان طالما أنها صديقة لما يسمى «العالم الحر» فلا يضرها ألا تكون هي نفسها حرة.
وفهمت نيودلهي هذه المعادلة جيدًا ولذلك لم تُفرض عليها عقوبات أمريكية وغربية كما وقع لبكين، ولم تحظ معسكرات الفصل العنصري للمسلمين لديها بتغطية إعلامية كبيرة كالتي حظيت بها معسكرات اعتقال مسلمي الإيجور في الصين التي رغم أنها أكبر حجمًا فإن أصل الجرم واحد.
وتعد واشنطن نيودلهي شريكًا مهمًا في احتواء الصين، إذ تشارك في تحالف «كواد» الذي يضم أيضًا أستراليا واليابان والولايات المتحدة، وترتبط بعلاقات قوية مع الغرب، لكن سلوكها خلال الأزمة الأوكرانية جاء مخيبًا لآمال حلفائها، فقد رفضت تأييد قرار يدين الغزو الروسي لأوكرانيا وامتنعت عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على تعليق عضوية موسكو في مجلس حقوق الإنسان.
وتجاهلت نيودلهي حتى الآن ضغوط الرئيس الأميركي جو بايدن والأوروبيين للحد من واردات النفط والغاز الروسي، بل زادت من الاستيراد بوتيرة سريعة استغلالاً للأسعار المخفضة التي قدمتها موسكو، مما زعزع ثقة واشنطن بها ودفع بها إلى الحديث عن الملف الحقوقي لنيودلهي كنوع من ممارسة الضغط عليها لمراجعة نفسها، بخاصة بعد أن فشلت في ثنيها عن إبرام صفقات سلاح مع الروس لشراء طائرات ومنظومة S400 الدفاعية، التي أظهرت أن الهند تريد إبقاء خياراتها مفتوحة، ولا تريد خسارة موسكو، كأكبر مورد للأسلحة، والطرف الذي يدير محطات الطاقة النووية لديها، وتتعاون شركات البلدين في مجال الاستثمار النفطي بشكل كبير.
لكن لا يمكن تجاهل الفرق الشاسع بين حجم التجارة السنوية بين نيودلهي وواشنطن الذي يبلغ أكثر من 110 مليارات دولار، مقارنة بتجارتها مع موسكو التي تبلغ حوالى 8 مليارات فقط، كما أن عهد حزب بهاراتيا جاناتا شهد توسعًا في شراء المعدات العسكرية الأمريكية.
وخلاصة القول، إن الهنود رغم كونهم حلفاء للولايات المتحدة فإنهم يرفضون الانسياق وراء مواقفها الدولية على طول الخط، ويريدون جني مكاسب التحالف من دون دفع ضريبته كاملة اعتمادًا على حاجة واشنطن الكبيرة لنيودلهي في جهود التصدي لصعود الصين، فقد تسامح الأمريكيون معها في مسألة شراء النفط الروسي واجتهدوا في توفير بدائل لها من أماكن أخرى، ولذلك فإن الهند لا تخشى كثيرًا أن تخسر الولايات المتحدة حاليًا لأن المصالح المشتركة أكبر من الخلافات بكثير، مما يجعلها في مأمن من الترصد الغربي لانتهاكاتها لحقوق الإنسان مهما فعلت.
وبالنظر إلى مجلس حقوق الإنسان الذي طُردت منه روسيا سنجد أنه يضم دولًا أخرى مثل إريتريا التي تحمل سجلًا أسود في القمع لكن لم تتخذ القوى الكبرى إجراءات لطردها من المجلس لأنها لا تمثل تهديدًا لمصالح أي منها، أما حين تتعارض المصالح يصبح منع الشذوذ الجنسي مثلاً تهديدًا خطيرًا لحقوق الإنسان بينما تسيل الدماء أنهارًا في مناطق أخرى دون أن يمثل ذلك داعياً لانتفاض «العالم الحر» كما يسمي نفسه.
الرأي العام العربي والإسلامي
من اللافت أن حكومة اليمين الهندوسي المتطرف لا تحسب حسابًا أيضًا للرأي العام العربي والإسلامي رغم أن منصات التواصل الاجتماعي في دول عربية وإسلامية عدة اكتظت في الفترة الماضية بمنشورات ووسوم (هاشتاجات) مثل «مقاطعة المنتجات الهندية» و«الهند تقتل المسلمين» و«مسلمو الهند يُبادون»، ودعوة مفتي سلطنة عمان أحمد بن حمد الخليلي، إلى موقف دولي وإسلامي لوقف الاعتداءات الهندية ضد المسلمين.
يأتي هذا في ظل اعتماد الاقتصاد الهندي بشكل كبير على التجارة مع العالمين العربي والإسلامي، ففي عامين فقط بلغ حجم التبادل التجاري بين الخليج والهند 115 مليار دولار، وتستضيف هذه الدول أعدادا هائلة من الهنود يضخون تحويلات نقدية ضخمة في اقتصاد بلادهم منهم 4 ملايين في السعودية، وأكثر من320 ألفًا في البحرين- أصغر دول الخليج- ويمثلون أكبر جالية أجنبية فيها، ويشكلون ما يقارب 30 في المائة من إجمالي سكان الكويت، وثلث سكان الإمارات بواقع 3,3 مليون شخص، أي أكثر من عدد مواطنين الدولة، وتمثل الإمارات وحدها ثالث أكبر شريك تجاري للهند في العالم ويبلغ حجم التجارة السنوية بينهما 60 مليار دولار، ومؤخراً وقع البلدان اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة من أجل رفع حجم التبادل التجاري إلى 100 مليار دولار في غضون ما بين ثلاث وخمس سنوات، كما تعد الهند من أكبر ثلاث وجهات للتصدير والاستيراد بالنسبة لقطر، ويعيش بها حوالى 600 ألف هندي أي نحو ضعف عدد مواطنيها.
لكن هذه المصالح الضخمة لم تتأثر بمشاعر الغضب التي اجتاحت العالم الإسلامي ولذلك لم تأخذها الهند في الحسبان وتعتبرها أداة ضغط عليها لوقف جرائمها بحق الأقلية المسلمة مثلاً، وهذا يرجع لعدة أسباب، منها عدم انتشار أخبار ما يحدث في الهند على نطاق واسع بل حظي باهتمام إعلامي أقل مما يستحقه، ولذلك ظل التفاعل حبيس المنصات الافتراضية بشكل كبير ولم يصل إلى المواطنين العاديين.
كما أن التفاعل مع أحداث العنف في الهند كان وقتيًا ولم يتم تبني القضية بقوة من جانب أي جهة شعبية كانت أو رسمية، مما أفقده التأثير، على عكس حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية التي كانت لها أصداء مدوية في العالم الإسلامي، أما الهند فلم تستهدفها حملة مقاطعة ولا يعلم أغلب الناس ما الذي تستورده دولهم من الهند، رغم وجود بعض المحاولات الفردية النادرة في هذا الصدد.
ونتيجة لما سبق فإنه من المرجح أن تواصل حكومة اليمين المتطرف طريقها في قمع الأقليات وفرض نسخة متشددة من الحكم الهندوسي على جميع السكان طالما لم تجد أي جهود دولية لردعها، بخاصة وأن سياسة الحشد الطائفي حققت نجاحًا في الانتخابات المحلية مؤخراً، ففاز الحزب اليميني المتطرف في أربع ولايات من أصل خمس أجريت فيها الانتخابات، ومن المتوقع أن يعول عليها خلال الفترة المقبلة كي يستمر في السلطة.