الهند وإسرائيل: تطبيع حذر وتناقضات على هامش المصلحة
هكذا تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو» عن زيارته إلى الهند في الرابع عشر من يناير/كانون الثاني الجاري، بعد استقباله بسلام حار من قبل نظيره الهندي «ناريندرا مودي». وبينما خلت مراسم الاستقبال من الحرارة بين الصديقين كما كان الحال في زيارة «مودي» لإسرائيل مذ نحو ستة أشهر، إلا أنها حملت ما هو أبعد من ذلك. فها هي «تل أبيب» تعلن تراجع الهند عن قرارها السابق بإلغاء صفقة الصواريخ الإسرائيلية «سبايك» -وكانت الهند قد ألغتها مطلع العام الجديد- بما يؤكد مدى التطور في علاقة البلدين وتجاوز القيادة الهندية لتاريخ إسرائيل الأسود.
الهند: مناهض تاريخي للاستعمار
على الرغم من اعترافها بإسرائيل عام 1950 إلا أن ذلك لم يكن سوى إقرار بالأمر الواقع. فلم يكن لدى الهند رغبة في إحداث أي تطوير دبلوماسي في علاقتها مع تل أبيب. وظل الجفاء والفتور هو السمة السائدة بين الجانبين. لم يتبادلا السفارات إلا عام 1992. وطيلة أربعين عامًا لم يكن سوى قنصلية صغيرة في «بومباي» للعناية بشؤون الأقلية اليهودية الهندية.
كان من الطبيعي أن تكون علاقات الجانبين على هذه الشاكلة. إذ توافرت في إسرائيل ونشأتها الأسباب الكفيلة برفضها من قبل الهند. فكيف لها أن تطور علاقاتها مع دولة هي نبتة الاستعمار، وهي التي عانت من الاحتلال البريطاني؟ لم يقتصر الأمر على أسباب أيديولوجية فحسب، بل اقتضت المصالح السياسية أيضًا هذا الرفض. فوقوع الهند في منطقة مزدحمة بدول إسلامية عدة، بينها وبينهم مصالح اقتصادية جمّة جعلها تساير المحيط الإقليمي المعارض لقيام دولة لليهود في فلسطين. هذا بالطبع فضلًا عن مصالحها مع إيران، والسياق الدولي آنذاك حيث الحرب الباردة وإعطاء الأولوية لقضايا التحرر الوطني.
في هذا الإطار اتخذت الهند سياسة معادية لإسرائيل، التي لم تدخر جهدًا في إزالة الجفاء القائم في علاقات البلدين، غير أن جهودها باءت بالفشل. وواصلت «نيودلهي» سياساتها المنددة بالسياسات الإسرائيلية والمؤيدة لمشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في الهيئات الدولية وكعضو مراقب في الأمم المتحدة.
إذا كان رب البيت بالدف ضاربًا
ظل الأمر هكذا إلى أن جاء عام 1991 ليمثل نقطة تحول هامة في السياسات الهندية تجاه «تل أبيب»، حيث انطلقت عملية التسوية السلمية بين العرب وإسرائيل بمؤتمر مدريد. وبدأ تطور ملحوظ في العلاقات العربية الإسرائيلية ما أدي لرفع الحرج عن الهند في اتخاذ قرارها بالانفتاح على إسرائيل. فهي لن تكون أكثر التزامًا من الدول العربية تجاه القضية الفلسطينية. وبالفعل أعلن رئيس وزرائها «ناراسيما راو» في يناير/كانون الثاني 1992 عن إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين الدولتين، وتبادل السفراء.
بالطبع لم يكن هذا التحول المفاجئ نتيجة انطلاق عملية التسوية وحسب، بل دفعت مجموعة أخرى من العوامل في هذا الاتجاه.فلم تنسَ الهند أن العرب تخلوا عنها في حربها مع «باكستان» عام 1965، وبعد ذلك خلال حربها مع «بنغلادش» عام 1971، في حين دعمتها إسرائيل وزودتها بالعتاد المدفعي.
وفي هذه الأثناء وصل حزب «بهارتيا جاناتا» القومي الهندوسي للسُلطة لأول مرة، ما ترتب عليه إهمال الكتلة المسلمة في الهند. سعت الهند كذلك لترسيخ مكانتها كدولة عظمى، فسارت على نهج المدرسة الواقعية في التخلي عن المثالية والتوجهات الأيديولوجية، وبدأت تتعامل مع الأمر وفقًا لما تقتضيه مصلحتها السياسية. وكانت إسرائيل هي المسار الملائم لتوجهات الحكومة نحو الواقعية والمصلحة. فمن خلال «تل أبيب» يمكن للهند تطوير علاقاتها مع الولايات المتحدة، والحصول على دعم اللوبي اليهودي الأمريكي في مباحثاتها مع الإدارة الأمريكية، أملًا في الحصول على احتياجاتها الدفاعية والتكنولوجية والاقتصادية.
وبالفعل ازدهرت علاقات الجانبين، وزاد التعاون العسكري والأمني. وأصبحت إسرائيل من كبار موردي الأسلحة إلى الهند. تبيعها كل عام معدات عسكرية بقيمة مليار دولار في المتوسط. هذا فضلًا عن التعاون الاستخباراتي بين الطرفين في مجال الحرب على الإرهاب، حيث تزودها «تل أبيب» بمعلومات عن «باكستان» ونشطاء الحركات الكشميرية.
كما شهدت معدلات التجارة البينية بينهما تطورًا ملحوظًا، حيث زادت من 200 مليون دولار لعام 1992 إلى 4 مليارات دولار في 2016. وذلك لا ينفي أن هذه العلاقات مرت أكثر تحفظًا حتى عام 2014، وهو العام الذي وصل فيه «ناريندرا مودي» لرئاسة الوزراء. ليمثل بعد ذلك نقطة تحول هامة في مسار البرجماتية الهندية، شهدت على إثرها علاقات الدولتين حراكًا أكثر رسوخًا وعلنيةً، تُوجت بزيارة «مودي» شخصيًا إلى إسرائيل في يوليو/تموز الماضي في سابقة هي الأولى منذ سبعين عامًا!
نتنياهو في الهند: ماذا يفعل؟
في هذا السياق، جاءت زيارة «نتنياهو» للهند ردًا على الزيارة التاريخية لـ «مودي». كشفت عن عمق العلاقات بينهما وإصرار الجانب الإسرائيلي على تجاوز أي عقبات قد تعترض خطته الإستراتيجية لتطوير العلاقات مع الهند.
جاءت الزيارة بعد أسابيع قليلة من تصويت الهند في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد الاعتراف الأميركي بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل. وبالرغم من هذا، شدد السفير الإسرائيلي في نيودلهي «دانييال كرمون» على أن إسرائيل تتفهم وجهة نظر الهند، وأن ذلك لن يؤثر على العلاقات بين البلدين.
وفي الوقت الذي أصبحت فيه إسرائيل ثاني أكبر مصدر للسلاح والمعدات العسكرية والأمنية للهند بعد روسيا، وصل الأمر بينهما إلى حد إجراء تدريبات عسكرية مشتركة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. فالزيارة تأتي لإجمال مشهد التعاون بين الجانبين وترجمة للقرار الإسرائيلي المتخذ قبل نحو ستة أشهر بتطوير العلاقات مع الهند في كافة المجالات. حيث تُوجت بالتوقيع على 9 اتفاقات بين البلدين في مجالات النفط والغاز والطيران والتجارة الحرة وغيرها من المجالات.
وكما سبق أن أشرنا، فالزيارة كانت محاولةً إسرائيليةً ناجحة لإنقاذ صفقة الصواريخ المضادة للطائرات، والتي بلغت قيمتها نحو 500 مليون دولار. وعلى كلٍ فثمة محاولة إسرائيلية للتغول آسيويًا تتخذ من الهند محطة أساسية، وفيها استعداء واضحٌ لباكستان التي تعتبرها إسرائيل دولة مواجهة.
السير على التناقضات
إذا كان التطور في العلاقة بين البلدين تطور إلى هذا الحد، فالتساؤل الآن؛ هل لهذا تأثيره على سياسة «نيودلهي» إزاء القضية الفلسطينية؟
فنظرة سريعة إلى تلك السياسة، نجدها بها شيئًا من التناقض. فعلى سبيل المثال نجد الهند قد امتنعت عن التصويت لصالح انضمام فلسطين كدولة عضو في الأمم المتحدة. وامتنعت كذلك في مجلس حقوق الإنسان الأممي عن إدانة العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014. كما صوتت ضد إسرائيل في المنظمة الدولية وأيدت تشكيل لجنة تحقيق في الحرب. فما السبب وراء ذلك التناقض؟
أشار الكاتب «محمد فايز فرحات» إلى أن الهند تلتزم بالخطاب الدولي بشأن القضية، حيث الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في إنشاء دولته، ودعم عملية السلام، وغيرها من ثوابت هذا الخطاب. إلا أن تطور علاقاتها مع إسرائيل جعلها تخضع لمعادلة جديدة إزاء القضية، تتبع فيها النهج البرجماتي بما يحقق التوازن بين علاقاتها ومصالحها مع إسرائيل وعلاقاتها مع السلطة الفلسطينية والمصالح مع المنطقة العربية بشكل عام.
كذلك يجب الأخذ في الاعتبار أن هذه السياسة تأتي كامتداد للتغير في الموقف الدولي من القضية. وقد تجسد هذا بشكل واضح في تأييدها للقرار الأممي الذي ساوى بين العنصرية والصهيونية في 1975 وتأييدها لإلغائه في 1991. ففي كلا الحالتين كان موقف الأمم المتحدة، والهند، امتدادًا ونتيجة للتحول في الموقف الدولي.
ختامًا، يمكن القول إن الهند تتبع سياسة خارجية عمادها الأساسي التوفيق بين التناقضات بما يتوافق مع مصلحتها. كما أن انفتاحها على إسرائيل لم يكن مقصورًا عليها فقط، بل يأتي في ظل تحول إقليمي في العلاقات معها.
وبالرغم من معارضة عدد من القوى المجتمعية والأحزاب المعارضة في الهند لهذه العلاقات الدافئة مع إسرائيل، وتنظيمها مظاهرات احتجاجًا على تلك الزيارة، إلا أن مسار التعاون العسكري والاقتصادي في علاقات الجانبين من المتوقع أن يشهد مزيدًا من التطور في ظل وجود رئيس الوزراء «مودي» والإصرار الإسرائيلي على تكوين شراكة إستراتيجية مع نيودلهي. أما عن المسار الدبلوماسي فما تزال الهند تتبع به نهج الدبلوماسية الحذرة.