في الحرب: تتحول الملائكة إلى شياطين، والشياطين إلى قادة
في الخامس من ديسمبر/كانون الأول 1930، عُرض فيلم «كل شيء هادئ في الميدان الغربي» في قاعة موتسارت في برلين. توافد الناس لرؤية أحد أحدث أفلام هوليوود، وأثناء العرض حدث تحول مفاجئ في الأحداث، قاد مجموعة من النازيين هجومًا ضد الفيلم والجمهور، هتفوا Judenfilm أي (فيلم يهودي). تم إغلاق أجهزة العرض، وألقوا «القنابل النتنة» من الشُرفة، ورشُّوا مسحوق العطس في الهواء وأطلقوا الفئران البيضاء على المسرح، وضربوا الجمهور بوحشية. فيما بعد حظرت الرقابة في ألمانيا الفيلم، كان وزير الدعاية؛ جوبلز، يرى أنه تهديد للأيديولوجية النازية.
الفيلم مأخوذ عن رواية بذات العنوان من تأليف الألماني «إريك ماريا ريمارك». قبل العرض الأول، زار مبعوث نازي ريمارك وطلب منه أن يؤكد أن الناشرين باعوا حقوق الفيلم دون موافقته، ولكن ريمارك رفض.
من أين أتى ريمارك بالقصة الرائعة؟
في عام 1916، كان ريمارك في الثامنة عشرة، وتم تجنيده في الجيش. انضم إلى الحرب العالمية الأولى، لقتال الإنجليز والفرنسيين، كانت الحرب قد بدأت منذ عامين، وتحولت إلى حرب خنادق، حُفرت خنادق طويلة على جبهات القتال، احتمى بها الجنود وسكنوها، خرجوا في بعض الأحيان للهجوم والقتال.
عاش ريمارك في الخنادق بصحبة الأصدقاء والقمل والموت والوحل والجرذان المُنتفخة من أكل جثث الجنود. حارب لفترة قصيرة، ثم نُقل إلى مَشفى عسكري بسبب الإصابة. وهناك، استمع إلى قصص الجنود الآخرين المصابين بجروح بالغة وتألم، عَرف الكثير ودوَّن ملاحظاته. بعد الحرب عمل ريمارك بعدَّة وظائف؛ مُدرس وصحفي وسائق سيارات سباق، بينما كان يُترجم ملاحظاته إلى رواية بعنوان «كل شيء هادئ في الميدان الغربي». ولتعزيز المبيعات ادَّعى ريمارك أنه شهد جميع الأحداث بنفسه، ادعى أنه «بول بومر»؛ بطل الرواية.
العدو هي الحرب نفسها
كالعادة القديمة، ظهرت النُسخة الأولى من «كل شيء هادئ في الميدان الغربي» على هيئة سلسلة في صفحات مجلة Vossische Zeitung الألمانية، وبعد مُدة وجيزة ظهرت نسخة المكتبات في 31 يناير/كانون الثاني 1929.
لاقت الرواية شهرة عالمية، واحتفى بها النقاد في جميع أنحاء العالم، واعتبرت «اتهامًا سلميًّا للحرب»، ربما كانت أول الكتب الأكثر مبيعًا على مستوى العالم، بيع منها 600 ألف نسخة في كل من بريطانيا وفرنسا، وفى بلاد العم سام بيعت 200 ألف نسخة، ولُعبت في مسرحين رائدين في لندن في وقت واحدٍ، وهو إنجاز لم يسمع به أحد في ذلك الوقت، وأصبحت واحدة من أعظم إسهامات الأدب الألماني.
انتزعت Universal Pictures حقوق تحويلها إلى فيلم سينمائي بمبلغ قياسي بلغ 40 ألف دولار، وحوَّلتها هوليوود إلى صوت وصورة في عام 1930 وعُرض الفيلم في أوروبا وأمريكا، وحوِّلت إلى فيلم مرة أخرى في العام 1979.
تم ترشيح الرواية إلى جائزة نوبل في العام 1931، وتُرجمت إلى أكثر من 50 لغة، وبيع منها أكثر من 20 مليون نسخة.
المأساة والإبداع
من بين ويلات حروب الروس في أفغانستان نبتت تُحفتا خالد الحسيني: «عداء الطائرة الورقية» و«ألف شمس مُشرقة»، لتُلقيا أمامنا أفغانستان قبل وبعد الحرب. ومن يوميات حرب لبنان الأهلية أبدعت غادة السمان «كوابيس بيروت» التي اُعتبرت واحدة من أعظم مائة كتاب عربي. ومن وحشيتها كتب نزار قباني مسرحيته اليتيمة؛ «جمهورية جنونستان». ومن أشلاء جُثث التفجيرات في بغداد بعد ترويع الجيش الأمريكي للعراق، تكوَّنت «فرانكشتاين في بغداد»، للكاتب أحمد سعداوي، والتي حصدت جائزة البوكر في العام 2014.
دائمًا توجد أماكن كافية للإبداع، لكن أنسب مكان لإبداع رواية حينما تدخل مأساة حقيقية وتكون بطلها. والحرب أعظم مأساة تُصيب الإنسان والوطن. كانت الحرب العالمية الأولى المأساة الّتي حوّلت ريمارك إلى نجم وأيقظت الروائي بداخله. لكنَّ هناك مُستفيدين آخرين من الحرب غير الكُتاب، يقول ريمارك على لسان البطل:
كيف يخدعنا الوطن؟
كل شيء هادئ في الميدان الغربي، إنها قصَّة عن حرب الخنادق، قصَّة الشاب بول بومر، صاحب الثمانية عشر، الذي يسأل:
كانوا كذلك قبل أن يزج بهم الكبار في حرب لا ذنب لهم فيها، وكما يقول بومر:
وفي الحروب والأزمات تنكشف الحقائق، يقول بومر:
لكنَّ جيل بومر هو الذي صنع الحرب العالمية الثانية، الأكثر دموية في التاريخ، فلكل جيل مصائبه.
حينما تضيع من الإنسان إنسانيته
الجميع يدخلون الحرب ملائكة، ثم تحولهم الحرب إلى شياطين، أمَّا من يدخلون الحرب شياطين فإنهم يصيرون قادة. لكن هذا التحول العظيم لا يحدث بين ليلة وضحاها، بعد صفحات قليلة يتكلم بومر بين السطور عن المراحيض فيقول:
لعل القارئ يُمرر هذه الواقعة الأقل فظاظة ووحشية في الرواية، دون توقف، لكنَّ هذا المشهد هو بداية الخيط الذي يكر خلفه ثوب الإنسانية، اليوم تُجبرك الأوامر أن ترى إنسانًا عاريًا يتبول، وغدًا تراه عاريًا وميتًا، وبعد غدٍ يُجبرك دستور الحرب على قتل إنسان مثلك، تتألم ويذهب النوم عنك ليلة أو ليلتين.
يتأخر المشهد فيأتي قُرب نهاية الرواية، طعن بومر جُنديًّا من الأعداء ثلاث طعنات ولم يمت فورًا، ظل يُعالج سكرات الموت، كان قلب بومر يتمزق من أجله، ظل بجواره، يحاول إسعافه، لكنه في النهاية فارق الحياة، يقول بومر:
هنا يُناديه أيها الزميل، لأنه حينما رآه في سكرات الموت أدرك أنه إنسان مثله؛ زميل في الإنسانية.
حينما قصَّ بومر على زميليه القصَّة قال أحدهما له:
في الحرب، ستُبرر القتل بأنك إن لم تكن قاتلًا فستكون مقتولًا، ثم يصير الموت عاديًّا مثل الخلود إلى النوم ووجبة الغداء، تسير فوق الجُثث، تنظر إلى الموت بطريقة غير جادة، ويُصبح كل شيء هادئًا، يصير الحذاء أهم وأعظم من مشهد الموت. يذهبون لزيارة زميلهم الذي بُترت ساقه، يقول كروب له:
وكأنه يغبطه لذلك.
ثم يكتشفون أن تحت سريره حذاءً إنجليزيًّا، يقول بومر:
ثم ذهبوا إلى الممرض وطلبوا منه إعطاء زميلهم كمريخ حقنة مُخدرة كي ينام، ويأخذوا الحذاء، رفض المُمرض، فما كان من بومر إلَّا أن أعطاه رشوة سيجارة، رفض المُمرض، فرفعها بومر إلى بضع سجائر.
تنزع الحرب من صدور جنودها الإنسانية، حتَّى الفراشات، تلك الكائنات الجميلة والرقيقة، فقد رأى بومر وزملاؤه فراشتين تحومان حول الخندق، تملكهم العجب لانعدام النباتات والأزهار في محيط يبلغ بضعة أميال، ثم استقرت الفراشتان حول إحدى الجماجم.[12]
بينما تدور عجلة الحرب تدوس المبادئ، تسحقها، في النهاية يصل المُحارب إلى قناعة بأن الموت راحة، الموت أفضل. يأتي ذلك المشهد، حينما أصيب زميل جديد في غارة، وغطى الدم فخذه وكانت إصابته بالغة:
تنتهي الرواية بما يجب أن تنتهي به جميع الحكايات؛ موت البطل، هذه المرة كان الموت والمؤلف والقذائف جادون في الإيقاع بـ «بول بومر».
- إريك ماريا ريمارك، “كل شيء هادئ في الميدان الغربي”، ترجمة: محمود مسعود، القاهرة، دار الهلال، 1981، ص 26.
- المرجع السابق، ص 123.
- المرجع السابق، ص 27.
- المرجع السابق، ص 27.
- المرجع السابق، ص 27.
- المرجع السابق، ص 28.
- المرجع السابق، ص 81-82.
- المرجع السابق، ص 24.
- المرجع السابق، ص 133-134.
- المرجع السابق، ص 136.
- المرجع السابق، ص 29.
- المرجع السابق، ص 84.
- المرجع السابق، ص 62.