في التأريخ الديني للإسلام: مقدمة نظرية
بين الدين والتدين
لعل أحدًا لا يماري في أن ثمة فروقًا معتبرة بين الدِّين في صورته النظرية المجردة (التي يجسِّدها الوحيُ بوصفه بنية نصية ثابتة متعالية على حركة التاريخ ومُفارِقة لزمنية أحداثه)، والدِّين حين يُمارس عمليًّا في التاريخ، أي حين يتحوَّل إلى عمل من أعمال الاجتماع البشري، فتنشأ عن هذه الممارسة صورٌ من التدين أو التجارب الدينية، التي تتفاوت في مقدار اتساقها مع حقائق الوحي ومقولاته الآمرة؛ مما يعني أننا بإزاء تمثلات متنوعة ومستويات شتى للتجربة الدينية التي يغلو بعضُ علماء الاجتماع فيعدونها «الشيء الوحيد الثابت في الدين»[1]. ومن المحقق أن هذه التجربةَ لا تنشأ في فراغ، ولكنها وثيقةُ الصلة بما يكتنفها من سياقات سياسية واجتماعية وثقافية؛ انطلاقًا من أن التدين يَعْني في المقام الأول: الممارسة الاجتماعية للعقائد والمُثُل الدينية، وهي ممارسة نزَّاعة إلى الهيمنة على «الدين» نفسه والسيطرة عليه، كما يقرر عالم الاجتماع الألماني جورج سيمل [2].
ويتحدَّد شكلُ الدِّين حين يُدمج في حركة الاجتماع الإنساني، في ضوء جملة مستويات أو عوامل أساسية، أهمها: المعتقد (أو اللاهوت)، وممارسة الشعائر والطقوس (العبادات)، والتشريع (الذي يُصطلح على تسميته في الإسلام بالفقه). ولا ريب في أن اختلاف أبناء الدين الواحد في هذه المستويات أو العوامل هو السبب في تشعبه (أي: الدين) إلى مذاهب متباينةٍ؛ تتصالح حينًا، وتتصارع في أكثر الأحيان، انطلاقًا من أن «الذوات المدرِكة للنص الديني تتأثر تلقائيًّا بإكراهات الواقع الاجتماعية»[3]؛ «فتتراكم حول النص منظوماتٌ من الرؤى والمفاهيم والأحكام، مكوِّنةً ثقافة دينية أوسع من منطوق البنية الدينية التي يحملها النصُّ»[4].
ويدلنا تاريخُ الأديان وواقعُها المشهود على أن عنصر الاعتقاد في البنية الدينية أشدُّ صلابةً من عنصر الممارسة الشعائرية، ومن عنصر التشريع الناظم لسلوك الإنسان أيضًا؛ إذ لا تنتفي عن الإنسان صفةُ الإيمان بالدين (بمعنى مطلق الانتساب إليه)، وإن اعترى سلوكَه الظاهرَ (البراني) شيءٌ من الانحراف عن الشعائر وألوان السلوك التي تفرضها الجماعةُ أو المؤسسة الدينية استنباطًا من نصوص الوحي [5]، وإن كان ذلك لا ينفي أن ممارسة الشعائر والطقوس الظاهرة ركنٌ أساسيٌّ في التجربة الدينية، وخاصة في المجتمعات التقليدية [6].
ولعلنا نلاحظ ــــ في خصوص الحالة الإسلامية ــــ أن المسلم في حركته الدائبة على الأرض قد يبتعد قليلاً أو كثيرًا عن المثال أو النموذج المعياري الذي يلزمه الوحيُ به، غير أنه يظل مرتبطًا بهذا النموذج ارتباطًا نفسيًّا حميمًا، فيتطلع إليه، ويحاول ضبط سلوكه بلوازمه ومقتضياته؛ فينجح مرةً، ويخفق مراتٍ، ولكنه في الحالين جميعًا واجدٌ في انشغاله بالوحي اطمئنانًا ورضا. ويترتب على ذلك ـــ حتمًا ـــ أن غياب الوحي عن الممارسة العملية ــــ جزئيًّا أو كليًّا ــــ لا يقترن في ضمير الفرد المسلم غالبًا ــــ إلا إذا أُفسدت فطرته ــــ بالتمرد على داعي السماء؛ لأن الوحي يظل كامنًا في ضميره ينتظر فقط مَنْ يوقظه؛ ولذلك فإن المسلم قد لا يستوقفه تعارض سلوكه الظاهر مع لوازم الوحي أمرًا ونهيًا، ولكنه يغضب ويثور إذا تجرأ أحدٌ على تشويهه أو رماه بالنقصان ونعته بالقصور عن الوفاء بمطالب الحياة.
في ضرورة التاريخ الديني للإسلام
وفي الحق أنَّ تحسين معرفتنا بديننا رهينٌ بدراسة الأفكار والمذاهب والحركات الدينية نظرًا موصولَ الأسباب بالسياق التاريخي الملابس لها، وتحقيق العلاقة بينها وبين المجتمع الذي استوعبها، والسُّلْطة السياسية التي بسطت لها يدَ الدعم والمعونة حينًا أو ضيَّقت عليها وحالت بينها وبين التمدد والانتشار حينًا آخر، وهو ما يعني بعبارة أخرى: أنه ينبغي علينا أن نحذر من النظر إلى الإسلام بوصفه كتلةً صمّاء من النصوص، ومن التعامل مع المسلمين باعتبارهم مجموعات متطابقة أو متماثلة، ولو كانوا أبناء مذهب واحد. وإلى الغفلة عن هذه الحقيقة ــــ أو التغافل عنها ـــ
يمكن أن نعزو ما يصادفنا من أحكام عامة يرسلها هذا الباحثُ أو ذاك غيرَ مبالٍ بمناقضتها لوقائع التاريخ الذي عاشه المسلمون، ولنصوص المصادر التي حفظت لنا جزءًا من هذا التاريخ. وليس من العسير أن نتبين خطأ هذه الأحكام المطلقة التي تتعامل مع التراث الديني الإسلامي بوصفه شيئًا ثابتًا أو نمطًا واحدًا، في حين أنه امتاز بقدر هائل من التنوع والثراء، حتى ساغ لأحد الباحثين وصفه بأنه أشبه «بنهر كبير تدفقت فيه روافدُ وفروعٌ نهرية عديدة»[7].
ولئن كان من غايات الدرس التاريخي ـــ في السياق الإسلامي ـــ تحقيقُ الصلة بين حاضر الإسلام ــــ ولا سيما حاضره الديني المتشعِّب ــــ وماضيه الممتد على مدى أربعة عشر قرنًا، فلا جدال في أن التغيير الذي يطرأ على هذا الحاضر ينعكس بالضرورة على طبيعة نظرتنا إلى الماضي وطرائق فهمنا له وإدراكنا لمفرداته؛ حتى إنه لم يعد بإمكاننا كما يقول جون ليشته (John Lechte) «أن نفهم الماضي كما هو في حد ذاته؛ لأنه الآن أصبح يُفْهَمَ من خلال اهتمامات وهموم الحاضر»[8]. ويرى ماكس فيبر (Max Weber) «أنه في كل عصر تتجدَّد الأسئلة التي يطرحها المؤرخون على نفس الماضي؛ ومن هنا فلا يمكن أن نتصور أبدًا وجود دراسة تاريخية نهائية»[9].
ومن بين التطورات التي طرأت على الحاضر، فأوجبت على المؤرخين والباحثين النظر في وقائع الماضي نظرًا جديدًا، تلك الطفرة الهائلة التي شهدتها العلوم الإنسانية (أو العلوم الاجتماعية)، وتقدُّم منهجياتها في التفسير والتأويل تقدمًا لا يسع باحثًا جادًّا التغاضي عنه أو الزهد في الإفادة من ثماره النافعة، وهو بسبيل دراسة الماضي. وتحضرني في هذا السياق واقعة طريفة (بقدر ما هي مؤسفة) حكاها وجيه كوثراني (المؤرخ والمفكِّر)، وهي أن مدرِّسًا للتاريخ بالجامعة تساءل مستنكرًا وبلهجة لا تخلو من غضب: ما علاقة علم الاجتماع بالتاريخ؟[10]. وفي مقابل هذه النظرة، يقرر كارل ج. فابر (faber) في معرض حديثه عن وثاقة الصلة بين التاريخ والعلوم الاجتماعية بوصفها علومًا مساعدة: «أن هذه العلوم لا تستطيع تناول الظواهر إلا في الزمان والمكان؛ ولذلك تحتاج إلى التاريخ، كما يحتاج علم التاريخ نفسه إليها؛ ولهذين السببين فإن الفواصل بين علم التاريخ والعلوم الإنسانية الأخرى تبدو نسبية وسهلة التجاوز»[11].
المستشرقون والتاريخ الديني
ويحتاج الباحث في حقل التاريخ الديني للإسلام ـــ فوق الاطلاع على العلوم الاجتماعية ومحاولة توظيف مفاهيمها ومنهجياتها في إنتاج خطاب تاريخي رصين ـــ إلى متابعة ما أنتجه المستشرقون في هذا الباب متابعةً دقيقةً، والتوفر على قراءة أعمالهم قراءةً ناقدةً تتجاوز ذلك المنطق البائس الذي إما أن يقنع من تقييم الخطاب الاستشراقي بإدانته والتشكيك في نزاهة بواعثه مطلقًا، وإما أن يركن إلى نظرياته ركونًا كسولاً ويثق فيما يقرره من أحكام وآراء ثقة عمياء، عوضًا عن النظر إليه بوصفه منتجًا معرفيًّا يُؤخذ منه ويُرَدُّ عليه.
وليس مما يجافي انحيازنا إلى تراثنا واعتزازنا بثقافتنا أن تتردد في بحوثنا أسماء طائفة من أعلام المستشرقين في الدراسات الإسلامية، ولا أراني مبالغًا إذا قلتُ: إنه ليس مقبولاً أن تخلو مراجعُ مَنْ يتصدى لتاريخ التشريع الإسلامي ـــ مثلاً ـــ من أعمال جوزيف شاخت (Joseph Schacht)، وكولسون (Coulson)، أو أن يهمل من نصب نفسه للاشتغال بالتصوف أعمالَ لويس ماسينيون (Louis Massignon)، وهنري كوربان (Henry Corbin)، وآنا ماري شيمل (Annemarie Schimmel)، أو أن يتعامى مَنْ عكف على دراسة المذهب الحنبلي عن أعمال هنري لاووست (Henry Laoust) وجورج مقدسي (George Makdisi) ووالتر باتون (Walter Paton)، أو أن يغفل مَنْ آثر المذهب الأشعري ميدانًا لتخصصه أعمال دانيال جيماريه (Daniel Gimaret)، أو أن يجهل مَنْ جذبه الفقه الشيعي الإسماعيلي أعمالَ ماديلونغ (Madelung)….إلخ. وبعدُ فهذه مجرد شواهد وأمثلة، وإلا فلو ذهبتُ أستقصي أسماء المستشرقين الذين لا يحسن تجاهل أعمالهم في بحوثنا عن التاريخ الديني للإسلام لاتسع الأمر وخرج بنا عن مقصود هذه المقالة.
وفيما قدَّمه هؤلاء وغيرهم من الآراء والأفكار عن تاريخنا الديني ـــ وفي غيره من فروع التاريخ ــــ ما يستحق التقدير والإشادة، وفيه أيضًا ما يتعيَّن نقدُهُ وبيانُ تهافته؛ إما لانحراف صاحبه عن جادة الموضوعية والإنصاف، وإما لكونه أجنبيًّا عن روح الإسلام ولغة نصوصه الأولى. ولعلنا واجدون فيما نخالفهم فيه من النفع والفائدة أكثر مما نجنيه في حال الموافقة والتسليم؛ لأن الخلاف يدعونا إلى إعادة النظر في موروثنا والعمل على التماس أسانيد جديدة لما نؤمن بصحته على نحو أكثر صلابة وأعظم تماسكًا.
استثمار كتب التراجم والطبقات في التاريخ الديني
إن التأريخ للتيارات والمذاهب الدينية ليس إلا دراسةً للدين في الواقع الاجتماعي المتعين، وللمعرفة الدينية في تحققها التاريخي، وفحص أصولها وعناصرها؛ من حيث إن للبشر دورًا في تشكيلهما (أي: الدين والمعرفة به)، والتأريخ ــــ في أبسط تعريفاته ــــ إنما هو دراسة للفعاليات البشرية على الأرض في الزمن الماضي؛ ولذلك فلا يدخل في صلب هذه العملية دراسةُ الدين النظري من حيث هو عقائد وشرائع منبتة الصلة بسياقاتها الزمانية والمكانية. ولعل من نافلة القول أن نذكر أن دارس الحياة الدينية في الإسلام لا ينبغي أن يستغرقه تقييمُ الأفكار والمذاهب الإسلامية، أو إصدار أحكام قيمية على عادات المسلمين في التدين انطلاقًا من البنية النَّصِّية الصُّلبة للإسلام والمتمثلة في نصوص القرآن الكريم وما صحَّ من نصوص الحديث الشريف، وترجمة هذه وتلك في أفعال السلف وممارساتهم، فذلك النظر المجرد مما يُعنى به دارسُ الفقه والشريعة أو علم الكلام، في حين أن دارس التاريخ يتغيا ـــ في المقام الأول ــــ إبراز تجليات الدين العملية في حركة المجتمع.
وتمثل كتب التراجم والطبقات ــــ بالإضافة إلى مصادر التاريخ الأخرى ـــ أداةً نافعة في تحقيق هذه الغاية؛ ذلك أن لها كما ـــ يقرر جاي بوراك (Guy Burak) ــــ أهدافًا أخرى تتجاوز توثيق الطبقات الفكرية والسلاسل الروحية؛ حيث دأبت مختلف الجماعات الدينية على استخدامها بوصفها وسيلةً تجمل الخطوط العريضة للدين القيِّم (orthodoxy)، كما تتمثله هذه الجماعات، فضلاً على تصويرها جانبًا مما وقع بين جماعة العلماء من مجادلات داخلية حول ما يندرج تحت «المذهب القويم» وما يدخل تحت «الابتداع»[12]. وفضلاً على ذلك، فإن هذه الكتب ـــ كما يومئ نورمان كالدر (Norman Calder) ـــــــ تسرد تاريخ العلوم والمعارف الدينية وتبين كيفية انتقالها عبر الأجيال، كما أنها تقدِّم تحقيبًا تاريخيًّا للإسلام يسهم في فهم مراحل تطوره [13]. وكذلك فقد أكد جورج مقدسي أهمية مؤلفات هذا الجنس من أجناس الكتابة التاريخية في التأريخ الديني للإسلام، وإن حذَّر من الغفلة عن تحيزات مؤلِّفيها، وهي التحيزات التي سنعرض لبعض شواهدها في مقالٍ لاحق بإذن الله.
وبعدُ، فقد أردنا لهذه المقدمة النظرية الموجزة أن تكون مهادًا للحديث عن نمطين متقابلين للإسلام، بينهما فروقٌ نوعية في مستويات التدين التي ألمحنا إليها آنفًا (وهي الاعتقاد والممارسة الشعائرية للطقوس، والتشريع)، وهما: الإسلام النَّصّي، والإسلام الشعبي، وذلك هو موضوع المقال التالي الذي سنعرض فيه للملامح الرئيسة للإسلام السُّني/النصي، مع محاولة الإجابة عن تساؤل مركزي ما فتئ يراودني وأنا أعد مادة هذه المقالات، وهو: هل كان ثمة مذهب رسمي داخل الإسلام النصي في المجتمعات السُّنية أم لا؟ وما دور الدولة في تشكيله وضبط حدوده؟ وما طبيعة علاقته بالإسلام الشعبي؟ إلى غير ذلك من تساؤلات ستكون محور المقال التالي بإذن الله، فإلى الملتقى.
[1] سابينو أكوافيفا، إنزو باتشي، علم الاجتماع الديني: الإشكالات والسياقات، ترجمة: عز الدين عناية، (الإمارات: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة، الطبعة الأولى، 2011م)، ص 9.[2] السابق، ص 63.[3] عبد الجواد ياسين، الدين والتدين: التشريع والنص والاجتماع، (بيروت: التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2012م)، ص 9.[4] السابق، ص 10.[5] سابينو أكوافيفا، إنزو باتشي، علم الاجتماع الديني، ص 78، 83.[6] أنتوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة: فايز الصُّيَّاغ، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الرابعة)، ص 570.[7] عزيز إسماعيل، مقدمة كتاب: المناهج والأعراف العقلانية في الإسلام، تحرير: فرهاد دفتري، ترجمة: صالح ميرزا، (بيروت: دار الساقي، بالاشتراك مع معهد الدراسات الإسلامية، الطبعة الأولى، 2004م)، ص 30.[8] جون ليشته، خمسون مفكرًا أساسيًّا معاصرًا من البنيوية إلى ما بعد الحداثة، ترجمة: فاتن البستاني، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، 2008م)، ص 19.[9] الهادي التيمومي، المدارس التاريخية الحديثة، (بيروت: دار التنوير، الطبعة الأولى، 2013م)، ص 110.[10] وجيه كوثراني، الذاكرة والتاريخ في القرن العشرين الطويل، (بيروت: دار الطليعة، الطبعة الأولى، 200م)، ص 11.[11] كارل فابر، ما هو التاريخ، الفكر العربي، العدد 27، 1982م، ص 21، نقلاً عن: وجيه كوثراني، تاريخ التأريخ: اتجاهات -مدارس –مناهج، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2012م)، ص 387، 388 .[12] Guy Burak, The second formation of Islamic Law, p.70.[13] نورمان كالدر، حدود العقيدة القويمة والراشدة، ص 129، 130.