في حضرة الموقف المهيب
كنت خارجاً من أحدِ المباني الحكوميةِ هنا في بلجيكا قاصداً موقفَ الحافلة. مررتُ بجانبِ تلكَ الكنيسةِ البديعةِ التي بُنيت على الطرازِ القوطيِّ. لقد كانت بديعةً حقاً. امتزجَ فيها جمالُ الهندسةِ معَ رشاقةِ التصميم. و أكسبها موقعها في مركز البلدةِ شيئاً من الفخامةِ والرزانة. زادَ من ألقِها هذهِ المرة تلك المعزوفةَ الحزينة التي تلتها أجراسها على نغمٍ بطيء متقطعٍ حزينٍ لا يمكن أن ينبِأكَ إلا بأمرٍ واحد.
كنتُ مأخوذاً بروعةِ الهندسةِ مصغياً لتلكَ الترنيمةِ الحزينةِ. بدت كأنها رسالةٌ ما فتئت تلكم الأجراسُ العتيقةُ تمررُها لأهلِ هذه البلدةِ منذُ مئاتِ السنين. لا أبالغُ إن قلتُ أنَّي شعرتُ أنَّ تلك النواقيسَ كانت تتكلم. نعم، تتكلمُ وبلغةٍ مفهومةٍ مع شيءٍ منَ الجلالِ ومسحةٍ من الحزنِ. حزنٌ أبديٌ على المصيرِ المحتومِ لبني البشر. حزنٌ يخرجُكَ من فضاءِ المكانِ إلى سرمديةِ الزمانِ…
ربما تلتِ النواقيسُ الترنيمةَ وفاءً لصانعِها أو ربما إحياءً لذكرى المئاتِ من الكهنةِ والتقاةِ الذينَ دقُّوها مراراً…
في الفرحِ أحياناً…
وفي الخطرِ أحياناً…
وفي الحزنِ أحايينَ أُخرى.
دلفت طلائعُ المكلومينَ خارجَ الكنيسةِ يتقدمُهم ذلكَ النعشُ الخشبيُّ المزين. كان الجمعُ يمشون خجالى ببطء على وقعِ النواقيسِ التي شاطرَتهمُ الألم. هناكَ توزعَ عددٌ منَ الرجالِ المتَّشِحِينَ بالسوادِ والذينَ ترسموا بزيٍّ مميز. كانَ مُعظمهم من الكهولِ والشيوخ. كانت خطواتُهم الواثقةُ وإطراقاتُهمُ المشبعةُ بالتأمُّلِ تضفي على جمعِ المكلومينَ هيبةً باديةً و وقاراً لا تُخطِئُه العين.
استحالت الألوانُ الزاهيةُ رماديِّةً. بدا كلُّ شيءٍ رمادياً. الأشجارُ والأحجار. البشرُ والصور، بل حتى قطراتُ المطر. لقد شاركت الطبيعة مصابَ القومِ ونعت فقيدهم بل إنَّها بكت عليه ثكلى. وكم بكت السماءُ على بني البشر.
اقتربت السيارةُ الفخمةُ لتحملَ الميت إلى مثواهُ الأخير. لا أدري ما هو سرُّ الاهتمامِ بسيارةِ نقلِ الموتى. ولم تُختار عادةً من أفخم الأنواعِ و أكثَرِها أبَّهة؟ ربما هو نوعٌ من التكريم للميت في رحلته الأرضيةِ الأخيرةِ. أو ربما أُريدَ التكريمُ لذوي الميت. أو ربما هي عادةٌ درج عليها القومُ وما استطاعوا منها انفكاكاً لا يُهم. لكنَّ الملفت للنظرِ حقاً هو أن السيارات من النوعِ ذاته تستخدم عادةً في حفلاتِ الزفاف. وهذا ما قد يسترعي انتباهَ البعضِ ليُلهمهم أنَّ ثنائيةَ الموتِ والحياةِ الخروج من رحم المجهول والدخول في بطن المجهول عادةً ما تتأتي بالوسائل ذاتها. أو ربما أن المسافة بين الخروج والدخول قصيرةٌ جداً.
تقدمَ الرجالُ ذوو الزيِّ الأسودِ بتؤدةٍ واحترام وحملوا النعشَ بخطواتٍ رصينةٍ نحوَ السيارةِ الفارهة. بينما توزعَ آخرون في الطرقاتِ المحاذيةِ ليوقفوا السير ويفسحوا الطريقَ لذلك المغادرِ إلى اللاعودة.
توقف نبضُ الحياةِ لدقائق وسارت أمامي تلكَ المشاهدُ ببطء…
وقف الناس الراكبون منهم والراجلون ووجهوا جميعاً أنظارهم نحو ذلك النعش الخشبي الذي يُوضعُ في السيارةِ الفارهةِ. حاولت أن أدرسَ تفاصيل تلك الوجوه.
كانوا جميعاً مأخوذين بعظمةِ الموقف. من جميع الألوانِ والأطياف. المسيحيون منهم والمسلمون… بل حتى أولئك اللادينيين. تلاشت الفوارق وانعدمت الاختلافات… آمنوا جميعاً حينها وتسلل إلى نفسِ كلٍ منهم ذلك الشعورُ الفطريِّ. أولئك جميعاً ابتلعهم جلال تلك اللحظات… لحظاتُ اليقين والحقيقة.
الحقيقةُ المطلقةُ التي لا يجادل فيها اثنان… الموت.
مرت تلك اللحظات كدهرٍ … أودع أولئك الرجال الأمناء النعشَ داخل السيارة وتحركت هي بدورها باتجاهٍ واحدٍ لا يعرف العكس. وبدا أن سائقها كان ممرناً على قيادتها على الوقع البطيء جداً.
نعم تحركت أمام أعيننا وغادرت وغادر من فيها دون جلبة. كان أولوا الميت يتلون صلواتهم الأخيرة له بينما لم يكف آخرون عن رسم علامةِ الصليب على صدورهم بشكل لا إرادي. بل حتى المارةُ الذين لا يعرفون الميت ارتفعت أيديهم إلى صدورهم تلقائياً.
أما تلك المرأةُ العجوزُ التي كانت تكنسُ فناء بيتها الذي يقعُ قبالةَ الكنيسة فقد أجهشت بالبكاء تماماً كجمعِ المكلومين. لم تكن تلك الدموع على حرارتها أن تخفف من وقع اللهيب الذي يشتعلُ في صدورهم.
غابتِ السيارةُ عن الأنظار وبدأت حركةُ المرورِ تعودُ إلى طبيعتها شيئاً فشيئاً. بينما بدأتِ الجموعُ تنفضُ عن ذوي الميت أفرادٍ وجماعات. لملم أهل الميت الأقربون بقايا ذواتهم وغادروا هم بدورهم…
توقفت الأجراسُ عن التلاوة وتبخرت تلكم الأفكار العميقة من ذهني لتتسرب مكانها تفاهات الحياة لتقحمني من جديد في التدافع في دروب طلب العيش والمتطلبات التي لا تنتهي في المجتمع المادي الاستهلاكي. و أظن أن كل من حضروا ذلك الموقف قد نسوا أيضاً…