في الظاهرة السياسية ومركزيتها
للظاهرة السياسية مركزية كبرى في حياة الناس، على اختلاف اهتماماتهم ومشاغلهم، تحتل المساحة والحيّز الأكبر من تفكيرهم وجدالاتهم، يختلفون فيها، ويتدابرون بسببها.
وعادةً، يحيط بالشأن السياسي هالة من القداسة والعجائبية، فتجد من الناس مَن يتبارون في تفسيره، متظاهرين بمظهر المعرفة والعلم بما وراء الحدث، وتجد منهم من ينحو المنحى المعاكس فيكتفي بالتعليق: لا أحد يعرف! وقد يصل الحال بالبعض إلى اتقاء السياسة والحذر منها، والقول: “أن من السياسة ترك السياسة”![1].
وبَدَهي أن سبب هذه المركزية عائد إلى كون السياسة متعلقة بـ “السلطة” و “القوة”، وبالتالي ارتباطها بجوهر الإنسان، ولكنها فوق ذلك، بما تمثله من توزيع لعلاقات القوة والسيطرة والنفوذ في المجتمع[2]، تتعلق بانفاذ القرارات والتدبير والتحكم بالشأن العام، سواء فيما يتعلق بالشأن الداخلي أو الخارجي، وبذلك تمس مختلف شؤون حياة الأفراد، وتكون مرتبطة بمصالحهم ووجودهم المادي والمعنوي، من أمن الإنسان ورزقه، إلى حقوقه وحرياته.
هذا فيما يتعلق بالإشارة إلى مدى أهمية ومركزية الظاهرة السياسية، ومدى الحساسية التي يتعاطى الناس بها إزائها. وسنحاول في هذا المقال تقديم مساهمة لتوسيع مجال المعرفة السياسية وجعلها مركزًا في التفسيرات والتحليلات لمختلف حقول المعرفة، من خلال الإشارة إلى مجموعة من الملاحظات الموجزة.
أولوية “السياسي” على “الفكري”تكمن أولوية ما هو “سياسي” على ما هو “فكري” في وجهين: الأولى: في كَوْن الحدث السياسي سابق على التنظير، حيث يحدث “الحدث”[3]، ثم تأتي المحاولات الفكرية والنظرية لتفسيره، ولتحاول موضعته في سياقات وأطر وبُنى تحليلية، ثم ما يلبث أن يأتي حدث آخر، غير متوقع، من خارج البنية النظرية التي رسمها المحللون والمنظّرون، ليعودوا من البداية، لتقديم تفسيرات جديدة. وهكذا، حيث يكون الحدث هو المركز والموجِّه، والفكر هو التابع، وهو المحاوِل لضبط الحدث والتقاطه وتجميده في لحظة ثابتة.
وأما الوجه الثاني لأولوية “السياسي” على “الفكري”: فهو أنك تجد الناس يختلفون في الحدث السياسي وينقسمون على إثره، ومع توالي الأحداث، تتراكم الانقسامات، وتنتهي إلى تكوين النظريات والمدارس المتباينة، مما ينتهي إلى نشوء الاتجاهات الأديولوجية المختلفة، والتي عند الوقوف على مواضع الخلاف بينها، يتضح أنها في جلّها عبارة عن وجهات نظر متباينة إزاء قضايا سياسية محضة، كما تجد في اختلاف الإسلاميين فيما بينهم ومع العلمانيين فيما يتعلق بالخلافة، منذ سقوطها، أو في اختلاف القوميين مع غيرهم في مسألة “الوحدة”، أو في اختلاف اليساري مع الليبرالي حول “الثورة”. وحسبك بأحداث مثل أحداث فلسطين، كم قسمت الناس والآراء، وكم أعادت صياغة وتوجيه الوعي العربي، ومثل ذلك ما كان مؤخرًا مع أحداث “الربيع”.
أولوية “السياسي” على “الديني”يتبع التفسير والحكم الديني الواقع والمصلحة السياسية، وتأتي الفتاوى إسباغًا للشرعية على الطموح والسلوك السياسي، وحتى من يريد أن يعتزل السياسة سيجد في الدين من النصوص ما يبرر مسلكه، وذلك راجع لطبيعة النصوص الدينية الكثيرة والمتنوعة، والقابلة للتأويل، خاصة بعد فصلها عن سياقاتها التاريخية، وإزاء نفس الحادثة (ثورة مثلًا) ستجد من يخبرك بأنها فتنة، وستجد من يعتبرها فتحًا وبداية للتمكين، وكلاهما سيسوق ويحشد لك الأدلة من النصوص والأحكام، وربما استُدِل بالنص ذاته مع اختلاف التأويل، أما الحدث السياسي، فيبقى هو، كما هو.
الأمثلة على هذه التبعية كثيرة من واقعنا المعيش، وحسبك فتاوى التبرير التي تصدرها دوائر الإفتاء الرسمية في البلدان العربية، وإن عدنا إلى الأزمان الماضية سنجد الكثير منها، حتى أن من الباحثين من أحال معظم الكلام والعقائد الإسلامية إلى أصول وعوامل سياسية (مدرسة الاستشراق الفرنسي خاصة)، من مسائل الإمامة، إلى العدل، والمنزلة بين المنزلتين، إلى الإرجاء، إلى العقائد المهدوية، حتى البحث في “الأسماء والصفات”، وهو ما يظهر لأي ناظر في أسباب وأصول الانقسام بين المدارس الكلامية الكبرى، من المعتزلة والخوارج إلى الشيعة والسنة. ونجد مثل ذلك بالطبع في التراث اليهودي – المسيحي، وما حكاية الشعب المختار والأرض المقدسة إلا تغطية بائنة لمصالح سياسية فجّة.
أولوية (السياسي) على (الاجتماعي)الجدال بين ما هو “سياسي” و “اجتماعي” مشتبك للغاية، وفي ظل التغيرات الاجتماعية المتسارعة في الحقبة الزمنية المعاصرة، نتيجة سرعة التغيرات الاقتصادية والتقنية؛ فإن العلاقة بينهما لا تزال غير جليّة، ولكن المؤكد أنه لا يمكن إحداث أي تغيير اجتماعي نوعي من دون إرادة سياسية، ومن دون مشاركة سياسية فاعلة، أما بانفصالها عن الفعل السياسي فستغدو الأفعال الاجتماعية أقرب إلى المبادرات ذات الأثر الشكلي والعَرَضي، وستفتقد إلى طابع الإنجاز والمراكمة، وهو ما تعاني منه وتفتقده جماعات المصالح والضغط.
هذه ملاحظات سريعة موجزة، تحتاج لمزيد من النظر والبحث، وليس المقصود منها اختزال الواقع في بعده السياسي، وإنما الإشارة إلى ضرورة إعطاء هذا البعد الأولوية والاعتبار.
[1] وهي جملة اشتهرت عن الشيخ ناصر الدين الألباني، والسلفية العلمية في زماننا. ويقصد بالسياسة الأولى حسن التدبير، وأحب أن أعكس المقولة لتصبح بمعنى أنه حتى ترك السياسة فعل سياسي بحد ذاته.[2] وهذه الجملة هي ما تدور حوله التعريفات الأكاديمية للظاهرة السياسية.[3] وللتوسع في هذه النقطة، يمكن النظر في كتابات آلان باديو و”فلسفة الحدث” عنده.