في تهافُت المعارضة
وقد ينتقد بعض مظاهره في غمرة التأسيس الجديد؛ لكنه لا يستفرغ جهده أبدًا ويبدد طاقته في النقض العاطفي المجرَّد والمعارضة لوجه المعارضة أو لوجه الأيديولوجيا. وبعبارةٍ أخرى؛ فقد آليت على نفسي أن يكون التفكيك بغرض رد الإنسان، والظواهر التي تتمخَّض عن حركته؛ إلى المركز المتجاوز، ليس لمحاكمتهما بقدر ما هو فعلٌ مساعدٌ لتقويم حركتي الذاتية، التي بدأت أصلًا قبل ذلك التفكيك؛ ومن ثم المساهمة في تقويم حركة المجتمع في صيرورتها.
ولهذا؛ صار نقدي/تفكيكي لا يصدُر إلا مصحوبًا بالقدر اللازم من التركيب، حسب كل حالة؛ بل تسبق أولوية ذلك التركيب أي تفكيكٍ في وعيي، ذلك التفكيك الذي يصدُر في أنساقي عن رؤية كونية تركيبية في جوهرها.
وصحيحٌ أن الكثيرين يتعاملون مع ما بعض أكتُب باعتباره «نقدًا مُجردًا» لا يطرح حلولًا؛ لكنها رؤية قاصرة، وإن شابها بعض الحق؛ ومصدرها اعتياد هؤلاء على الوصفات الجاهزة «الكاملة» «الجامعة» «المانعة»، التي يودعونها حواشي الوعي لتطمئن بها قلوبهم، لكنك لا تجد منهم من يسعى لتمثُّلها أبدًا في واقعه، فهي أوهامٌ نظريّة وسفسطاتٌ لاهوتية، وديباجات سطحية يلوكها المتثاقفون الفارغون في مناقشاتهم العقيمة.
وبرغم ذلك العجز الحركي الفاحش، فإذا انعدمت الحلول النهائية الكاملة الشاملة في نسقٍ ما؛ صار في روع هؤلاء المناكيد منقوصًا، برغم أنها طريقة القرآن الوحيدة في بناء الإنسان: تزويده بالقيم الأساسية، وبأمثلة تُحتذى من حركة الأنبياء والأمم السابقة في أطوارها المختلفة، وإيكال البقية لاجتهاده في تمثُّل تلك القيم، وتفادي زلات الأمم السابقة مُحتذيًا الأنبياء.
أما الحق الذي يشوب رؤية هؤلاء لما أكتب؛ فمصدره كفري العميق بالحلول الفكرية والحركية الجاهزة، ونفوري من إلزام الناس بتفاصيلٍ لم يُلزمهم بها خالقهم.
ومن ثم كان أقصى قدر من التركيب، النظري الثابت؛ الذي يُمكنني الإحالة عليه مطمئنًا، هو مركزيّة وأبدية المكابدة الجوّانية الواعية للنفس، لاستقامتها هي والمجتمع برانيًا على المعايير والقيم الأساسية التي تنزَّل بها الوحي.
وما عدا ذلك فموكولٌ لمشيئة الرب العلي، لتُثمر تفاصيله التنفيذية حسب مُقتضى الحال، توجهها المكابدة المخلصة وصدق العبودية.
ومن ثم؛ فلا يُمكنني الولوغ في مشروعاتٍ نظريّة تفصيليةٍ إصلاحية لوذعية كما تفعل الأحزاب والتنظيمات و«كبار» المفكرين؛ فهو زبدٌ طالما سألت الله النجاة منه.
وقد طوّرت فكرة تهافُت المعارضة (الفكرية والسياسية والاجتماعية) وابتذالها من خلال فهمي للفارق بين طبيعة الرسالة الخاتمة للمصطفى، صلى الله عليه وسلم؛ وطبيعة رسالات من سبقه من الرسل والأنبياء بوجهٍ عام، وطبيعة رسالة المسيح، عليه السلام؛ بوجهٍ خاص.
ومن ثم أدركت مصدر جرثومة القلق الرومانتيكي التي حملتها كافة الحركات والمذاهب الفلسفية واللاهوتية في الغرب، خصوصًا منذ ما سمي بعصر الإصلاح الديني.
وثمة مقولة لكارل ماركس، تُجلّي جوهر هذا النمط الرومانتيكي؛ لا تُفارق ذهني أبدا: «الماركسية هي نقد الرأسمالية». أي أن الماركسية ليس لها وجودها المستقل، مثلها مثل أي نسق رومانتيكي آخر؛ بل هي حاشية احتجاجية على متن لم تكتُبه. لذا؛ كان سقوط الممارسة الرأسمالية، يعني بالضرورة أفول الفكرة الماركسية وانسحابها، وقس على ذلك.
صحيح أن الفكر المجرَّد قد يعيش طويلًا جدًا بعد انسحابه من الواقع، وقد ينشغل به الأكاديميون لفترة أطول من ذلك، إلا أن انسحابه من بؤرة التحقُّق العملي إلى هامش الكمون النظري هو مناط حديثنا.
إذ أن الأفكار والفلسفات الإنسانية لا تموت بالكُليّة، بل تترك اﻵفلة منها بعض بذورها في رحم الوعي التاريخي، الذي يستنبت أفكارًا «جديدة» من هذا الهجين.
وقد كان لتعريف المسيري، رحمه الله؛ للصهيونية، باعتبارها حركة رومانتيكية؛ دورًا في أن يمتد هذا الإطار عندي، متبلورًا؛ ليشمل كثيرًا من حركات الخروج والمذاهب الإسلامية المعروفة، بل ليشمل غالبيتها العظمى إن شئت مزيدًا من الدقة.
وهي آفة لم تنتقل للمجال المعرفي «الإسلامي» بسبب أثرٍ أجنبي فحسب، بل بقصور الفهم عن إدراك طبيعة التحول المعرفي الذي تسبب به ختم الرسالة، ناهيك عن الاستسلام لضغوط الواقع السياسي والاجتماعي والديني.
إن النمط المعرفي الذي شاع في سياق الحضارة الغربية، وفي جُلّ المذاهب الكلامية الإسلامية؛ نمطٌ مخالفٌ بالكلية للنمط الذي جاء به الإسلام.
ففي حين تنتمي تلك الحضارة، نظريًا على الأقل؛ لسياقٍ معرفيٍ ولاهوتيٍ لم تُختم فيه النبوة، ومن ثم كانت كل رسالةٍ فيه هامشًا على ما قبلها واستكمالًا لها واستدراكًا لبعض نقصها (وهي الجرثومة التي انتقلت، في صورةٍ بشريةٍ مبتذلةٍ؛ للمذاهب الفكرية والفلسفية منذ عصر «العقل» و«الاستنارة»).
فإن النمط المعرفي الذي تنزَّل به الوحي على محمد، صلى الله عليه وسلم؛ لختم النبوة، لم يكن نمط استكمال أو استدراك على شيء سبقه، ولا نمطًا إقليميًا أو قوميًا يلزم استكماله أو الاستدراك عليه فيما بعد؛ بل نمط تأسيسٍ لمجالٍ معرفيٍ «مُستقلٍ»، من لدن حكيم خبير.
نمطٌ يواكب النضج والتطور العقلي والروحي الذي علم الله بلوغ خلقه منه غاية استحقوا معها رسالة يعولون بها أنفسهم، بعد أن استوت قدرات بني آدم للدرجة التي تُمكنهم من العروج إلى الله اعتمادًا على كتاب يُنزِّلهُ إليهم، قبل توقف إرسال السماء وختم النبوة.
وهو نمط جديدٌ قدِّر له أن ينبسط فوق الأرض، بمصدرٍ محفوظٍ معصومٍ؛ ليغمُر عقول بني آدم بنورٍ جديد. جديد في طريقة عرضه وفي طريقة تكوينه وفي طريقة حركته، ومن ثم في طريقة إنتاج من يتمثله للمعرفة؛ وإن كان جوهره موافِقًا لصحيح ما أنزِلَ على الرسل من قبل.
إن نمط المعرفة التي تولَّدت وتتولَّد وستتولَّد عن هذا المركز الجديد والمتجدد هو نمطٌ تأسيسي ابتداء؛ نمط له قوانينه وأساليبه وطرائقه الخاصة في معالجة الإنسان ورسم مسار حركته، وهو ما أهَّل شريعته لدور الختم، ومنحها الصلاحية المطلقة إلى نهاية التاريخ.
ولهذا كله؛ فهو نمطٌ مُهيمنٌ على ما سبقه، معرفيًا وحركيًا؛ لم يتنزَّل ليوافق ما سبقه في التفاصيل ولا اﻵليات ولا الأنماط، وهو ما قد يحدث أحيانًا بسبب وحدة المصدر الإلهي واشتراك كل رسالات الأنبياء في الجوهر التوحيدي؛ بل ليُنشئ عالمًا جديدًا على أسسٍ جديدة ومنطلقاتٍ جديدة، وبطريقة جديدة، وقابلةٍ للتجدُّد كلما اجتمع تغيَّر الزمان والمكان مع إخلاص الوجهة.
وقد كان إدراكي لارتباط ختم الوحي والنبوة بتغيُّر نمط المعرفة وتغيُّر طريقة إنتاجها وتغيُّر طرائق التفاعُل الحركي معها، في الرسالة المحمّدية؛ مقرونًا بإدراكي أن رسالة الختم لم تكُن بداية للتاريخ، ولا مثّل مبعثه، صلى الله عليه وسلم؛ نهاية له.
بل كانت الرسالة بداية لتغيُّر نمط الحركة الإنسانية التاريخية، وبعض نواميسها التأسيسية؛ مع الاحتفاظ بروح الاستمراريّة التوحيدية، التي تجعل من احتذاء الأنبياء السابقين، وحوارييهم؛ فعلًا ممكنًا، بل مرغوبًا؛ لاستقامة الإنسان في صيرورته على مراد الله.
وقد أدى هذا الإدراك التأسيسي، من ثم؛ إلى ترقّي الفكرة المجرَّّدة لتصير مُسّلَّمةً أؤمن بها، ثم قيمةً توجِّهُني أتمسَّكُ بها.
هذا النمط الجديد للوحي والنبوة، والتاريخ؛ اقتضى أيضًا تأسيس نمطٍ جديدٍ في إنتاج المعرفة الإنسانية. اقتضى أن تكون المعرفة التي يُنتجها هذا السياق الإيماني، «العلم النافع»؛ صادرة عن نفس المنطلق.
فلا تصير المعرفة «إسلامية» في هذا العالم، أي مُعبرة عن فهمٍ وتمثُّلٍ تاريخي مُعينٍ للإسلام، وليست تجسيدًا له؛ لا تصير «إسلامية» إلا بصدق مكابدة مُنتجها لمراد الله في نفسه ومجتمعه، وعمق تعبيرها عن إيمانه، وتعبيرها بالقدر نفسه عن حركة مجتمعه المؤمن.
أما محاولة «الأسلمة» النظرية والاعتسافية للمعارِف والعلوم والمنتجات المادية الغربية والشرقية، ومحاولة إنتاج علوم ومعارف وآلات «إسلامية» نواجه بها تحديًا حضاريًا/ماديًا مُعينًا؛ فهو خزي لا يُثمر إلا هراء يقتات به العاطلون والقاعدون والمهزومون؛ الذين لم يعرفوا الإسلام حق المعرفة.
إن المعرفة «الإسلامية» لا يُنتجها إلا فردٌ مُخلص الوجهة، صادق المكابدة، في سياق اجتماعي، يكبُر أو يصغُر؛ سياقٌ تصدُق فيه مكابدة قسمٍ ما منه، قسمٌ يكفي، في علم الله؛ لحمل تبعة مجتمعه بالكامل، وتغيير وجهته بهذه المعرفة وحدها؛ تغيير وجهته ليستقبل القبلة: وجه الله.
ولكل ما سبق؛ فإن الأيديولوجيات «الإسلامية» ليست إسلامية بقدر ما هي حداثية/إلحادية. أدواتٌ صراعيّة ممسوخة تعبِّر عن هزيمة المسلمين الداخلية أمام نفوسهم، ومن ثم هزيمتهم أمام هجمة الأيديولوجيات الغربية.
إن الإسلام لا يتصارع مع أوهام البشر وظنونهم وأساطيرهم، التي تُجسِّدها الأيديولوجيات؛ بل هو مُهيمنٌ على كُل ذلك ابتداءً.
لا يعبأ بهذه التخبُّطات ولا يكترث لها، وإنما قد يعبأ بها المسلم ويكترث لها، بشرط ألا يُعالجها برانيًا بأدواتها الفاسدة، بل يُعالج دخائل النفوس بأدوات الوحي وطرائقه.
وشتان! إن هذه الأيديولوجيات «الإسلامية» ليست دليلًا على تشوّشٍ معرفيٍ/عرفانيٍ فحسب؛ بل هي أيضًا مؤشرٌ مهمٌ على اختلال نواميس الحركة الإنسانية في روع المسلمين.
فجهاد الطلب، مثلًا؛ أداة من أدوات الدعوة، لكنه أداة يستخدمها مجتمعٌ مسلم يُكابد واقعه لتستقيم وجهته، وأهم شروطها الدعويّة-الحركيّة أن يكون هذا المجتمع (أو قسم معتبر منه يُمكنه لعب دور عربة الجرّ) قد بلغ في مكابدته مرحلة تسمح لكل فردٍ من أفراده، أو لكل مجموعة محدودة من الأفراد؛ بحمل تبعة مجتمع جديد بالكامل.
وغني عن القول أن مثل هذا المجتمع المجاهد يجب أن يكون قد انطلق أصلًا من رضاه بذات الوجهة (الإله) واتفاقه عليها، وتسليمه له سبحانه ونبذ ما دونه ابتداءً.
لهذا؛ فتلبُّس كثير من الإسلاميين بأيديولوجية الجهاد لا علاقة له بحقيقة الجهاد في الإسلام، فهمًا أو ممارسة، ولو روعيت بعض أحكامه الفقهية/القانونية في واقعهم؛ بل هو مُجرّد رد فعل مهزوم على نكول طواغيت الدول ما بعد الكولونيالية، وتأصيل عبيدهم من المعممين لذلك الخزي.
إن كل قيمة عطلها هؤلاء الطواغيت، بسبب دورها في مواجهتهم ومواجهة القوى الكولونيالية الغاصبة؛ وجدت طريقها إلى الأدلجة حتى تظل محتفظة بقدرٍ من الفعالية في عالم الشهود. قدر يحفظ على المؤمن اتزانه العقلي … وبقايا إيمانه!
لهذا أيضًا لا أكترث بالمحاولات التافهة المسماة ب«الاستغراب»؛ في محاولة لتأسيس «علم» يواجه الاستشراق. بل وأضحك ملء شدقيّ حين أسمع بعض السُذج ينسب للمسيري، رحمه الله؛ ريادة في ذلك.
وحقيقة الأمر أنها فكرة قديمة مبثوثة في ثنايا كتابات المفكر الإيراني العبقري جلال آل أحمد، الذي تأثر فيها بأستاذه الفيلسوف الشفاهي أحمد فرديد، رحمهما الله؛ ثم سرقها حسن حنفي في الثمانينيات، إبّان تلفيقه لخرافة «اليسار الإسلامي» وسطوه على بعض أفكار علي شريعتي، بغير تطويرٍ ولا عزو؛ وقد تلقَّفها منه، قبل عدة سنوات؛ بعض مؤدلجي الإسلاميين، الذين لا يُدركون أبعادها ولا مضامينها؛ بل يتوهّمون فيها سلاحًا حقيقيًا!
إن هذا النمط الجديد، للوحي والنبوة والتاريخ؛ وثيق الصلة أيضًا بفكرة المجدد في الإسلام. فهذا المجدد لا يختلف دوره فحسب عن المهدي/الماشيح المخلص في العقائد الحلولية؛ بل هو توثيقٌ لنمطٍ جديد في تكوين المجتمعات الإسلامية، بقدر تعبيره عن نمط جديد في إنتاج المعرفة الإنسانية.
إن دور المهدي/الماشيح المخلص هو إيقاف تدفق التاريخ وإنهاؤه بمعرفةٍ نهائيةٍ لا نقض لها، وهو جوهر النمط المعرفي المرتبط بصورة النبوة قبل محمد، صلى الله عليه وسلم؛ إذ المعرفة المطلوبة نهائية، وهي في نفس الوقت تعبيرٌ عن حركةٍ نهائيةٍ وأخيرةٍ يتوقف بها الجدل وينتهي التاريخ، نظريًا وعمليًا؛ خصوصًا بالإهلاك العام للكافرين والمكذبين، ثم تأسيس فردوس المؤمنين الأرضي.
لكن دور المجدد الإسلامي أصلًا هو إزالة العوائق والحواجز المعرفية التي تحول دون جريان نهر التاريخ. إنه يفتح الباب للمكابد أسير التاريخ، والذي لا يعرف هو اﻵخر موعد انتهاؤه؛ حتى يستمد زاده من الوحي المتجاوز، ليُبحر مُستهديًا بسلامٍ في نهر التاريخ الذي لا يعرف له مصبًا. إن النمط الجديد يُفرز مُجدِّدًا يُوجِّه كل طاقته الروحيّة، قبل المعرفية؛ لدفع الحركة الإنسانية التاريخية، في العروج إلى الله؛ إلى منتهاها، وذلك بعد تخفُّفها مما ران عليها من قيود التقليد.
إنه لا يفعل ذلك بسيفٍ أو بدرّة أو بوجهٍ مُتجهمٍ تتدلى منه لحية كثة؛ بل باستعادة النمط الأصلي لإنتاج المعرفة القرآنية، ولمكابدة هذه المعرفة، ومن قبل لنبذ التقاليد البالية التي صدأت بالجدل الكلامي وانحراف الحركة وتدهور الواقع.
وبعبارةٍ أخرى، أكثر حداثة؛ فإن المُجدد هو رأس «الثورة» الثقافية، التي تسبق «الثورة» الاجتماعية وتُمهِّد لها، ومن ثم تُؤدي لإعادة صياغة الواقع السياسي. لكن المخلِّص يختزل كل ذلك في وجوده المحض. فهو «الساحر» المتمكِّن الذي سيُنهي وجوده كل شر ويجلب كل خير.
ومن ثم فهو يخلُد بالمجتمع إلى الأرض، نازعًا عنه التكليف؛ ففي أرضه أو في أهلها قد كمُن المقدّس وجاء هو ليستخرجه، وفيها يُقام الفردوس أو يتنزل عذاب الجحيم؛ فقد انتهى التاريخ المدنَّس وبدأت القداسة اللاتاريخية.
ورُبّما لهذا السبب أجد جُلّ الحركات الإسلامية المعاصرة مُبتذلة، ضحلة الوعي قاصرة النظر، بغض النظر عن تفاصيل رأيي؛ فهو مبسوط في مواضع أخرى. إنها حركاتٌ تنطلق من الواقع وتعود إليه، فهو مرجعيتها الحقيقية وإن ادعت غير ذلك؛ تحاول تجاوزه من خلال الولوغ فيه! لكنها للإنصاف قد تبدأ، وفي أحوال نادرة؛ من الواقع وتعود للوحي بحثًا عن تأصيل لعبثها الصبياني.
وهي في أصلها الحركي والتنظيمي و«النظري» وجود احتجاجي؛ احتجاجٌ على إلغاء «الخلافة»، احتجاجٌ على بعثات التنصير، احتجاجٌ على شبهات المستشرقين وطعناتهم، احتجاج على محاباة القوى الكولونيالية المحتلَّة لغير المسلمين، احتجاجٌ على قمع أحد الأنظمة ما بعد الكولونيالية لبعض الأتقياء، احتجاجٌ على تعطيل بعض أحكام الإسلام … إلخ.
إنها دومًا في حالة احتجاج على الواقع الذي تبدأ منه وتعود إليه، لكنها أبدًا لا تبدأ من الإسلام، بغير كبير اكتراثٍ بالواقع، مُتخففة من ثقله؛ لتنظر ماذا يُريد منها هذا الدين الذي تدعيه وتدعي تمثيله والحرص عليه والرغبة في خدمته.
إنها تُطوّع الدين لخدمة واقعها المتردي، الذي تُريد التصالُح معه؛ بدلًا من مشقة مكابدة النفس والواقع لتُقيمهما على أمر الله. وهذا التطويعُ الساذج من موقع المعارِض لا يُثمر تحقُّقًا بالإسلام، بل يُثمر إساءة توظيف محققة للإسلام.