في قبضة النماذج
يتصور البعض أن ما يقوله أو يفعله هو تعبير دقيق عن موقفه الذي هو بدوره انعكاس لظروفه وشروطه الخاصة، وربما يعود ذلك إلى أننا لا ندرك أن إدارة حياتنا فعل معقد في الواقع. فنحن نتخيّل أننا نرصد الواقع بموضوعية عن طريق عقل هو أشبه بصفحة بيضاء تدون عليها معطيات ذلك الواقع ومن ثم يتخذ القرار بصدد ما هو معني. أن يكون الأمر بهذه البساطة شيء يدعو للاحتفاء والانطلاق نحو العيش بطريقة سعيدة، حيث إن معظم الأمور تصبح قابلة للتفسير والتحليل والخروج ليس بأفضل النتائج وحسب، وإنما بالنتيجة الوحيدة الصحيحة.
إنّ قراراتنا واختياراتنا وتفضيلاتنا هي امتداد لسلوك وتصرفات الجنس البشري عبر التاريخ. إنك في الواقع عندما تقوم بتحديد مصيرك إبان حدث ما، أو تقرر التغيير، أو تبدأ بممارسات محددة تجاه أمر ما، فأنت في الواقع تستدعي التجربة الإنسانية والذاكرة الثقافية والعبرة والتاريخ، والتي استقرت كخبرات ومنظومات أخلاقية وذكريات ورموز في الوعي واللاوعي، لتتخذ موقفك.
فمواقفنا تجاه ما يطرأ علينا من مستجدات ليست مواقف شخصية خالصة، حتى لا يتطاول علينا الذين يظنون أنفسهم خارج التاريخ، إنها مواقف التجربة الإنسانية من زوايانا الخاصة. هذه التجربة الإنسانية تشكلت عبر مسارات مختلفة باختلاف المحددات والظروف والطبيعة والنظرة إلى الذات الإنسانية وجدلية الغيب. أنتجت في نهاية الأمر نماذج إدراكية تحكي إجابات التجربة الإنسانية عبر مساراتها عن الأسئلة الكونية.
ما يهمنا هنا هو أن ندرك أن تلك النماذج الإدراكية قادرة على صياغة أعراف وتقاليد مجتمع ما بحسب عناصر ذلك النموذج وطريقته في الربط بين الموضوعات. ومن ثم تصبح جماعة من الناس قادرة على تكوين مجتمع متناسق يخضع لنفس نظام القيم والأعراف المنتجة من نماذج إدراكية متماثلة، وتصبح نفس الجماعة في الوقت نفسه قادرة على هزّ ذلك النموذج وتغييره على مدى طويل عن طريق تمرد أفرادها على تفضيلات مجتمعاتهم وانقلابهم على بعض مسلماته.
يخبرنا الدكتور المسيري أن أعمال عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر التي تميزت بمحاولة الوصول للوحدة الكامنة خلف التفاصيل الفكرية والنقدية بالإضافة إلى رفضه لمقولة العقل السلبي والموضوعية الفوتوغرافية (نقل تفاصيل الواقع كما هو) قاداه إلى فكرة النماذج التي يتحدث عنها مفصلاً في كتاباته، وكعادة الدكتور في تبسيط المفاهيم عن طريق تفسير اليومي فلسفياً، يمكن أن نتناول أمثلة تبسيطية تتضح بصورة مباشرة من خلالها مقدرة النماذج التفسيرية وكيفية تقمُّصها للذات أوتوماتيكياً بلا وعي وسيطرتها على حياة الأفراد الشخصية من خلال إدارة حياتهم وتحديد اختياراتهم.
إن أكثر رغباتنا العفوية أو إراداتنا الخاصة والتي نتحدث عنها كأقل الأشياء غموضاً تمتلك عن طريق نماذج المسيري تفسيراً بدرجة معقولة، فالحب عندنا يصبح وهَم السياقاتِ الاجتماعية، فالأكثرُ تماهياً مع قيم المجتمع وتفضيلاته يستحق الإعجاب، وعلى الرغم من ظننا أننا نختار بإرادة حرة من نحب، بدليل التجربة الخاصة التي نعيشها أثناءه .. إلا أننا في الحقيقة، مسلوبون لا محالة.. تنتقي بلا وعي قلوبنا أكثر الأفراد تمثلاً لتصوراتنا المثالية عن الآخر، وهي تصوّرات بنت مجتمعها وإنتاج نموذجه الإدراكي.. فما يحدث في الواقع أنك تركض مع المجتمع في نفس مضماره لتسبقه في تحصيل أفضل ما يرغب به.. هذا التسابق يضفي على حياتك دافعاً لا مركزياً وشعوراً بالإثارة والرغبة في سبق تحصيل تفضيلات المجتمع، لكنّه في الوقت نفسه قد يجعل منك فرداً مثيراً للشفقة في مجموع مثير للسخرية.
تحكُّم النماذج المعرفية في إدراكنا للأشياء يَمتد ليطال الفلسفي نفسه. ومن أوضح ما يمكن الإشارة إليه تعريف ماركس – بنموذجه المادي – للزواج على أنه علاقة اقتصادية مفعمة بالحب. أما الفيلسوف الألماني نيتشة فيمثل ظاهرة فريدة في التمرد على النماذج. فمن بين مجتمع مسيحي يعلي من شأن القيم الأخلاقية والمُثل – أحياناً حتى على حساب مادية الإنسان – خرج هو ليسخر من أخلاق الرحمة والتسامح. رأى أنها مجرد امتداد للمثال والأخلاق المسيحية التي يكفر بها تماماً، وانطلق ليؤسس نموذجه الخاص عن الإنسان «السوبرمان» وأطلق مقولته الشهيرة «لقد مات الإله».. هل يمكن لنيتشه كفرد أن ينساق وفق إرادة مجتمعه وخياراته؟ الإجابة بالطبع لا.. ولن يكون الأمر مستغرباً عندما ندرك أن نموذجه المختلف عن مجتمعه قد كلفه آلامًا كثيرة، بل وحياة عاطفية وعملية فاشلة جداً، وانتهى الأمر به في قرية سويسرية هادئة اعتزل فيها ليكتب أهم كتبه التي شكلت فيما بعد أهم أفكار ما بعد الحداثة وأنتج نموذجًا إدراكيًا أُلهمت به وتبنته حركتان كان لهما أكبر سهم في كتابة القرن العشرين؛ النازية والفاشية.
مرة أخرى نعود لنفهم دوافع اختياراتنا، الأمر أشبه بالقصور الذاتي، وأننا كائنات ظرفية مدفوعة بالتاريخ، مهمتها المشاركة في عملية تكامل التجربة الإنسانية، ولا تستطيع أن تبدأ من لا شيء (بدون نموذج)، لتكمل إرادة الحياة واستمراريتها. وبحسب تضمينات نظريات شوبنهاور تصبح قُدرة إرادة العيش هي دافع ومرجعية اختياراتنا، وهي قدرة يزعُم أنها أقوى بكثير من إرادة الفرد. وعلى النقيض من شوبنهاور وإخوته العدميين الذين ينحون الإنسان إلى هامش مسيرة الحياة، تأتي الأديان بمعالجة تجعل من الإنسان أكثر مركزية ولا توفر له ما يدفعه وتحمله الأمانة وحسْب، بل تضع له غاية تجذبه كذلك.
وبين فلسفة شوبنهاور والأديان يتوفر عزاءان بشأن المسؤولية تجاه اختياراتنا الخاطئة ومن ثم مصائرنا القاسية، فالأول تقدم نظرته العامة للوجود – باعتبار أن جوهره إرادة عمياء قاسية – حلاً مفاده أننا جزء غير أساسي من المسرحية الكبرى، أي بالتالي ليس علينا الندم، فليس بوسعنا التصرف على أي نحو آخر لأن الأمر ببساطة لم يكن خيارنا، إنما هو إرادة الطبيعة، إرادة العيش والحياة، التي لا تتوقف لتسألك عن رأيك أو لتُعنى برغباتك الخاصة. أما الأديان فبجانب أنها تدعو للاعتزاز بالذات الإنسانية وتحمِّلها مسوؤلية خياراتها – بعد أن تقوم بطرح مُثلها – تقدم لها العزاء بشأن انكساراتها عن طريق مفهوم الجبرية أو «القدر». ففي كلتا الحالتين (النموذجين) هناك يد تدفعنا لمواصلة الاختيار ، وأخرى تربت علينا للعزاء.
يمكننا تخيل أن يظل دورنا في أكثر الأحيان – في هذا الاختيار الممتد على الدوام والمستمر منذ أمد – بسبب رِقّة إراداتنا وضعفنا العميق أمام ما هو مغامرة وركوننا دوماً إلى ما هو سائد، أن نكون مجرد آليات اختيار تحت سلطة النماذج تكاملاً للتجربة الإنسانية. إلى أن يخوض الإنسان تجربة إدراكه الشخصية ويقرر أن يتجاوز النموذج المعرفي الغارق فيه، وبذلك يكون قد حقق قدراً أكبر من المسؤولية الفردية والوعي وحرية الاختيار، أي قدراً أكبر من إنسانيته. أما التاريخ فبدوره يخبرنا أنّ شدة إدراك المرء بحيث يتجاوز نموذجه تكلفه إما عقله أو دمه؛ ليهدي الإنسانية نموذجاً أو فتحاً جديدًا.