وثائقي «في سبع سنين»: هوامش على متن المراوحة بين الأفكار
في صورة تخيلية مرسومة عن الحقيقة؛ يعتنق أحد المتشرعين أفكارًا وأنساقًا معينة ينافح عنها دهرًا، ويقاتل من أجلها في الفضاء المعرفي صنوفًا من المختلفين معه، من أجل ترسيخ مبدأ «نصرة الحق وأهله ودحض الباطل وحزبه».
على الجانب الآخر؛ تنتقل إحداهن من سترة الحجاب/ النقاب الذي تحتمي فيه من «عذاب الإله» وتطلب من ورائه «رضا الرب» إلى أرض أخرى تراها متنفسًا مشروعًا «إنسانيًا» للحرية وطلب تفعيل إرادتها في البحث عن إجابات مختلفة لما كانت تتلقنه في محاضن نسقية مغلقة بين الإسلاميين.
لماذا إذن ينتقل المرء هذه الانتقالات الحادة بين الأفكار المتناقضة؟!
ولماذا تبدو أحيانًا إجابات البعض عن سبب هذه المراوحات المفاجئة؛ إجابات تبنى على الشك والتردد أكثر من كونها إجابات حقيقية وافية عن هذا الترحال الجديد؟!
وسائل التواصل الاجتماعي كـ«عمليات عقل مفتوح»
مثلت لحظة الانفجار الثوري عام 2010 مرحلة مهمة في دور وسائل التواصل الاجتماعي كمنصات معبرة عن أجيال من الشباب العربي المتشوق للتعبير عن رأيه. لكن الحقيقة أن الانفتاح الذي صاحب ثورات الربيع العربي كان معبرًا عن انتقال تعبيري جديد من «التعبير المقيد» داخل محاضن الأسر والتجمعات الإسلامية، أو ندوات ولقاءات المقاهي لدى غير الإسلاميين؛ إلى «التعبير الافتراضي الحر» في فضاءات السوشيال الميديا، وأصبحت منصات «فيسبوك» و«تويتر» في مصر تمثلًا صريحًا لما يمكن اعتباره «عمليات عقل مفتوح» لقطاعات كبيرة من الشباب بمختلف أجيالهم.
تداعت أحداث ثورة بناير وما تلاها من سنوات التيه التي عاشها شباب هذه الثورة، ومثّل الجدل الإسلامي – العلماني واجهة لطرق جيل الشيخوخة الفكرية في كلا الطرفين في تدبير الاختلاف الفكري في المرحلة الجديدة، لكنها للأسف كانت تسير بوقود آلاف الشباب المسير وفق الرؤى التنظيمية والفكرية التي اشتدت في حرق طاقاتهم وأفكارهم دونما اختيار حقيقي من أكثرهم.
عبرت منصات السوشيال ميديا عن عقول بعض الشباب ممن تجرأ على الكفر بالأنساق التنظيمية أو الولاء الفكري لتوجه ما، وشجع هذا غيرهم من الشباب على تنشيط مجرد التأمل في إمكان ذلك ومشروعيته.
وما لبثت دماء الكثيرين من الشباب الطامح لقطف ثمار الثورة أن أشعلت وهج الرغبة في التعبير الصريح عن أفكاره القابعة في وعيه، لكنها كانت وجلة من سياج الأطر التنظيمية والولاءات الدينية والفكرية التي كانت لها طقوس تقديسية خاصة إلى ذلك الحين.
جاءت لحظة الحاجة الشديدة للكلام والتعبير الحر عن الرأي متسقة مع تراجع متكرر لخطابات المحنة والصبر، وفشل مستمر لرموز التنظيمات والتيارات المختلفة في تقديم إجابات واقعية لتبرير الفشل الذي يصيب الثورة ومكتسباتها، فانطلقت موجات المتشرعين الجدد تفتش بنفسها في بطون الكتب مختبرة هذا التراث التلقيني الذي روجته رؤوس التيارات لسنوات طويلة.
وراح عدد آخر يشتبك مع «آخر» من شباب جيله ممن شوهتهم خطابات التلقين التربوي الذي مر به في مراحل انتمائه المختلفة لتيار فكري أو ديني، واكتشف أن العقول متفاوتة، وأن الصورة النمطية التي تعلم أن يصف بها هذا «الآخر» بغض النظر عن مكنون عقله؛ هو محض افتراء وتضليل.
منذ العام 2010 وحتى العام 2018؛ كانت منصات التواصل الاجتماعي عمليات إلكترونية حقيقية تمثل لسان الكثيرين ممن اختاروا لعقولهم أن تتكلم بكل صراحة وحرية، وكانت شاهدة على تحولات قطاعات من المتشرعين والمتدينين داخل الحالة الدينية، كما عبرت عن مراوحة البعض منهم لمنطقة القناعة بالدين والإله من أساسها إلى فضاء الشك الوجودي والإلحاد المعلق إلى حين الحصول على إجابات للكثير من الأحداث التي جرت وصدمت الكثير منهم في هذه الفترة.
سؤال الدين
ربما أحدثت ثورات الربيع العربي تقدمًا في الوعي السياسي لدى الكثير من الشباب العربي، بل ورفعت بصورة مبالغ فيها لفترة من الزمن طموحهم لواقع أفضل، لكن الواضح أن انتكاس هذه الثورات تسبب في تحولات حادة في طبيعة الإجابة عن «سؤال الدين والوجود»، إذ طالت التحولات عدة مستويات فكرية لدى الشباب العربي، فمنهم من تحول داخل حالة التدين نفسه من انتماء صلب لتيار ما ونظرة حادة للآخرين إلى انتماء متوازن للدين دونما تطرف في النظر للآخر بمختلف تنوعاته، كما تراجعت الكثير من الرؤى والقناعات الفقهية والعقائدية نحو قناعات أكثر توازنًا وتوسطًا وأقل حدة من سابقاتها.
على مستوى آخر؛ تجرأ عدد من الشباب بصورة أكبر لتجاوز الدين من أساسه، والانتقال مما كانوا يرونه مكبلات التقاليد الدينية، إلى مساحات يرون فيها حرية الفكر والتصرف بعد حقبة الالتزام الشكلي أو التنظيمي الخانقة بالنسبة لهم.
أثار الفيلم الوثائقي «في سبع سنين» حفيظة الكثيرين ممن عاصروا وعايشوا ما شكا منه شباب الفيلم؛ إلا أن الفيلم عالج بصورة أخرى أثر العدمية السياسية التي كبلت الفضاء الاجتماعي المصري بين سنوات الثورة إلى حقبة ما بعد رابعة والنهضة، إذ رأينا نموذجًا لجهاديين غير جهاديين فكريًا، أو جهاديين لم يجدوا متنفسًا غير تنفيس ما بداخلهم إلا من خلال البندقية والرصاص، وشاهدنا ملحدين لا يعلمون لماذا اختاروا الإلحاد، غير أن العامل المشترك بينهم هو حالة «القلق الوجودي والنفسي».
إن المدقق في إجابات الشباب، الملحد والجهادي، في هذا الفيلم يرى بين شفاههم قلقًا حقيقيًا نابعًا من العجز عن إجابة أسئلة فشل الكثيرون عن تقديم إجابات لها؛ خاصة سؤال وجود الشر وتراجع الإله عن صرفه عن الناس، وفقما يرى البعض.
لطالما كانت محاولة تفسير مسألة «القضاء والقدر» في الإسلام من معضلات المسائل الاعتقادية التي واجهها المتخصصون والمتصدرون والدعاة، إذ إن صيغة تقريبها لعموم الناس تمثل أكبر عقبات الخطاب التفسيري لهذه المسألة، حتى لخصها البعض بكون «القدر هو سر الله» لكثرة مساحة الغيب فيها.
تتعمق إشكالية ضعف حجاجية خطاب التبرير الشرعي في مسألة القدر حينما تواجه شبابًا طموحًا بصورة كبيرة يرى موجة حادة من تفشي الظلم والقتل والحبس، ولا يجد تفسيرًا منطقيًا لهذه الحالة، خاصة مع غياب خطابات التصفية والنقاء الروحي، وتزايد الخطاب السياسي والاجتماعي المادي الطامح والمبني على مكتسبات الثورة «الملموسة».
محنة جيل فقد الأمل
لا يبدو أن الأجيال التي عايشت ثورة يناير وما تلاها من انتكاسات قد يخرج من أزمته بصورة سلسلة، ولا يلوح في الأفق أي ملمح لانفراجة قد تجدد بواعث الأمل في شباب اعتنق العدمية من دون اختيار حقيقي .
لطالما تبين بالاستقراء أننا بصدد أجيال صاعدة ترهقها أسئلة ملحة أكثر عمقًا وتعقيدًا مما كانت عليه أجيال الكهول والشيبان. لقد اندرست أسئلة «أكل العيش» و«نعيش مستورين» بصورة كبيرة مع صعود أجيال تبحث عن أسئلة مشروعة وفاعلة كأسئلة الحرية والكرامة والعيش الكريم والإنساني، خاصة وأنها كانت قاب قويسين أو أدنى من تذوق رشفات العيش الكريم المشابه لذلك الموجود في دول العالم الأول.
إننا نواجه اليوم أجيالاً تفتقد المرجعيات، إما غيابًا لها أو كفرًا بها، وهذا الغياب يعتبر مؤذنًا بتشكل صور أخرى، إما افتراضية أو جديدة، لمرجعيات لا يعلم عنها الكثير من أجيال المربين والمرشدين شيئاً، وهو ما يصنع فجوات جيلية كبيرة وعميقة بين الأجيال.
ستتسع هذه الفجوات بقدر اتساع وعمق الأسئلة المطروحة، وتزايد غياب الإجابات المرضية عنها، وبقدر كفر قطاعات من الشباب بتقاليد الدين والأخلاق والمجتمع الراهنة؛ سنلحط تمددًا عرضيًا أكبر في مساحات التوجه نحو الأطراف، التطرف الديني واللاديني، بحثًا عن إجابات أو طلبًا لتسكين النفس والعقل، كما وجدنا في جهاديي أم كلثوم العدميين في الفيلم، على سبيل المثال.
لا جرم أن الواقع مؤلم والتحولات مفجعة، لكننا ينبغي أن نحسن وصف الحالة وندرك حقيقتها ونجود تشخصيها حتى يمكننا أن نرى مواضع أقدامنا على حقيقتها.
المفجع حقيقة أن ثمة إشكالاً قليلًا ما ننتبه إليه في رصدنا وتشخيصنا لحالنا ومشكلاتنا؛ ألا وهو أن جزءًا كبيرًا من أسباب التطرف الذي نراه في التحولات الدينية أو الفكرية مرده إلى نفس الشخص، عقله وروحه وأحلامه، إذ كثيرًا ما يتعلق البعض بأفكار أو أشخاص أو جماعات تعلقًا مرضيًا مشوهًا، وتكون حالة الطموح الوهمي والتعلق الزائد هذا هو مورد الطاقة السلبية التي يختزنها أحدنا داخله لتنفجر حينما يصطدم بالواقع وحقيقته، وهذا الانفجار يولد صورًا من التحولات الحادة التي نراها اليوم، فلا يمكن الاقتصار على تحميل أفراد أو رموز أو أفكار ما مسؤولية ذلك، لكن الواقع يشهد بتحمل الواهمين جزءاً أكبر من مسؤلية تصديقهم للوهم وتقصيرهم في انضاج الوعي.