في نقد الذات: هل نحن حقا أمة الإسناد؟
من البديهي أن كل مشتغلٍ بعلمٍ ما يكون عنده حظٌ وافرٌ من أسسِ أو متطلباتِ ذلك العلم أو الفن. فالمشتغلُ بالقراءات ِ يكون مجوداً و عين الصيادِ حادةٌ لا تخطئُ الرميَّة و الفيزيائيُّ ملمٌ بحقائقِ و نظرياتِ الفيزياء و هكذا دواليك. سأحاول التركيز في هذه العجالة عن مقولة: «نحن أمَّةُ الإسناد».
«نحن أمة الإسناد»، عبارةٌ عادةً ما تقال في مواضع الفخر و المباهاة. قال «أبو عليٍّ الجيانيّ»: «خص الله تعالى هذه الأمة بثلاثةِ أشياءٍ لم يعطها من قبلها الإسناد و الأنساب و الإعراب». و قد قامت معظم العلوم الإسلامية في نقلها من جيل لآخر على مبدأ التلقي من عدل ضابطٍ عن مثله. و كان للإسنادِ قويُّ الأثر في حفظ تلك العلوم. قال بعضهم:
و أكثر من اعتنى بالإسناد هم المشتغلون بعلم الحديث الشريف و هم أكثر من يشنفون آذاننا بهذه المقولة في كل فرصة.
كان أحد أصدقائي الفيسبوكيين يعرج كثيراً على صفحة أحد المشايخ (المحدثين) الطوافين في سائر الأقطار و الأمصار بحثاً عن سندٍ هنا و إجازةٍ هناك. و الذين ما فتئوا يتفاخرون بقراءتهم صحيح البخاري على العلامة الفلاني و إجازتهم من الشيخ «العلاني». كانت كثيراً ما تقع عيني على منشوراته التي يتباهى فيها بنسبته لهذا العلمِ الشريف القائمِ بالإسنادِ الصحيح إلى سيد الخلقِ محمدٍ (صلى اللهُ عليهِ و سلم).
عندما وقع الانقلاب الفاشل في تركيا لمحت تعليقاً لصديقي على صفحةِ ذلك الشيخِ (المسند) يناقشهُ في أمرٍ ما يخصُ مقالاً شاركه حولَ الرئيس التركي.
ولجت إلى صفحة الوارث النبوي لأرى أن الشيخ المبجل المسند قد شارك خبراً في أمرٍ جلل يقدح بشخصِ الرئيسِ التركيّ و قد تقاطر العشراتُ من المعلقين على هذا الفتحِ المبين. و عزفوا جميعاً سيمفونية التطبيل و التزمير دون أن يحاول واحدهم التأكد من صحةِ خبر كهذا. عزفوها -أي سادتي- كجوقةٍ محترفةٍ و صدقوني لكل شيخٍ جوقة.
أُخذتُ بالصدمة من هولِ ما قرأت ثم تمالكت نفسي و هممت مباشرةً بالبحث عن أصلِ الخبر. بحثتُ مطولاً باللغةِ العربيةِ حتى مللت. ثم إني أردفت ذلك بالبحثِ باللغةِ الإنجليزية فما وجدت الخبرَ إلا في موقعين تونسيين هابطين من تلك المواقع الصفراء التي تعتاشُ على نهش لحوم البشرِ و نشرِ الإشاعاتِ و الأكاذيب. تلك المواقع الإلكترونية التي لا ترقب في المؤمنين إلاً و لا ذمة. و يبدو أن أحد الموقِعينِ قد نقلَ تلك الفريةَ من اللآخر.
قلت في نفسي سبحان الله إنَّ المحدثَ يقطع آلاف الأميالِ و يدور الأمصارَ و الأقطار و يتكلفُ المالَ و الجهدَ لكي يحصلَ على (سندٍ) عالٍ أو على إجازةٍ من عالم, ألم يكن بوسع الشيخ المحدث أن ينفق من وقته الثمين دقائقَ للتأكد من صحةِ خبرٍ ما قبل الوقوعِ في عرض أحدِ المسلمين؟ أم أنَّ الإسناد يتوقف تلقائياً عند الخروج من قاعة الدرس؟
و إن كان أولوا العلم و البصائر و أرباب العلم و صنائعه غير قادرين على الانضباط بما تعلموه و بما يعلموه للناس فما حال عوامِّ الناس و أنا منهم؟
للأسف قد تكررت حوادث كثيرةٌ من القبيل ذاتهِ مع من نحسبهم علماء أجلاء.
قد منَّ الله عليَّ فأمضيتُ ما يقربُ من أربعةَ عشرَ شهراً في مدينةٍ يقصدها طلابُ العلمِ من شتى بقاعِ الأرض. أرضٌ مباركة و أهلها طيبون. لكن شيوع الأحاديث الموضوعة على لسان علمائها قبل عوامها و استشراء القصص الخرافية التي لا سند لها و لا صحة تنغص من متعة طلب العلم فيها.
فليحاول أحدنا أن يمضي يوماً واحداً على وسائل التواصل الاجتماعي و ليتتبع الكم الهائل من الأحاديث الموضوعة التي يتداولها الناس, في عصرٍ أتاحت لنا فيه التقنية ذاتها التأكدَ من صحةِ أيَّ حديث في ثوانٍ. أين الخللُ إذاً؟ ناهيكَ عن المعلوماتِ الطبيةِ و العلميةِ المغلوطةِ و آلافِ القصص التاريخيةِ المكذوبة التي تروج على صفحات الخواصِّ و العوام, المثقفين و غيرهم.
طف أيها القارئ العزيز على صفحات أصدقائك من الأطباءِ و المهندسين و الأساتذة و الجامعيين ممن تظن أنهم صفوة المجتمع لترى مدى تراخيهم في طلب السند للمعلومات التي ينشرونها.
لقد استشرى هذا الداء في الأمة و الثغرة التي حسبناها يوماً ثغرةً اتسعت لتصبح هوةً. إن العناية الفائقة التي أحاطها علماؤنا السابقون بالإسناد و الجهود الجبارة في التحقيق و التمحيص قوبلت اليوم ببلادة و برودةٍ مع أن التقنية سهلت العسير و قصرت الجهد و الوقت. لكن يبدو جلياً أن الروح العلميةَ التي كانت حيةً يوماً دثرها التراب وأن المبادئ التي قامت عليها استحالت دندناتٍ فارغةٍ تتلى في الاجتماعات و المؤتمرات و قاعات الدرس و تموت أصداؤها خارج تلك الجدران الصماء.
أخيرا فلنسأل أنفسنا و لنجب بصدق هل نحن حقاً أمَّةُ الإسناد؟