قبل عشرين يومًا ناشد أهل مدينة «القصير» بالبحر الأحمر «طارق شوقي» -وزير التربية والتعليم- بتأجيل الدراسة نظرًا لانتشار عدوى غامضة أصابت صغار السن بشكل خاص. وكذلك رفعوا أكف الضراعة إلى مسئولي وزارة الصحة ليخبروهم عن هذا الغامض الذي يفتك بأبنائهم، بعد أن حصل المسئولون على عيناتٍ من المرضى والمياه، إلا أن الأهالي لم يتلقوا ردًا حتى ذلك الوقت، وجاء الرد على المطلبين بالتجاهل؛ فالدراسة في موعدها، والنتائج لم تُعلن.واليوم بعد 20 يومًا من أول ظهورٍ خجول لأعراض المرض، تواترت الأنباء عن حالات وفاة من جراء الإصابة، فصارت نسبة الغياب في مدارس القصير 72%، كذلك فرّ المدرسون من الحضور، وتظاهر الأهالي في الشوارع يطالبون بتدخل الدولة، بعد أن توصلوا إلى أن «الغامض» هو حمى الدنج، أو ما يُعرف شعبيًا باسم «حمى الضنك».


المُتحدث باسم الصحة: الحمى في 100 دولة

كلماتُ حقٍ أريد بها باطل. في حديثه منذ أيام عما يدور في «القصير» حاول المُتحدث باسم وزارة الصحة التخفيف من حجم الكارثة التي يواجهها أهل «البحر الأحمر» ومن يجاورهم، بذكر أن الحمى منتشرة في 100 دولة أخرى، وهو ما أقرته منظمة الصحة العالمية بالفعل.فبعد أن كان الوباء محصورًا في 9 دول استوائية فقط حتى 1970، انتشر ليستوطن الـ100 دولة بما في ذلك أوروبا غير الاستوائية، وسجلت منظمة الصحة العالمية أيضًا في 2010 إصابات في كرواتيا وفرنسا، ثم في 2012 سجلت ما يُقارب الـ2000 حالة في البرتغال. ولكن هل نفهم من عالمية انتشار «حمى الضنك» ما يريد المُتحدث إيصاله للجمهور، هو أنّها أمر سهل وعادي؟الحقيقة المؤسفة أن الأمر ليس كذلك، فحمى الضنك تسير على شعاع، نقطة بدايته أعراض تشبه الإنفلونزا لمدة 5 أيام، وأكثر هذه الأعراض وضوحًا الحرارة المُرتفعة التي تجاوز الـ40 درجة، بجانب الصداع، وألم في العين، وشعور بآلام شديدة في مفاصل الجسم. ثم يمر شعاع تطور المرض بالتقيؤ المُستمر، وآلام في البطن، وصعوبة في التنفس، لينتهي الشعاع عند حدوث حالات نزيف شديد من مختلف أماكن الجسم كاللثة، وتحت الجلد، وعبر الفم. ويُؤدي النزيف إلى تداعي الدورة الدموية، وتبدأ أعضاء الجسم المختلفة في رفع الراية البيضاء أمام الفيروس، فتنتكس وظائف القلب والرئة والكلى والكبد، ثم تحدث الوفاة في النهاية.


ماذا يريد الأهالي من الدولة؟

مواجهة «حمى الضنك» لا تتم عبر عقار مُعين، فلا وجود لدواء ناجع في مواجهة المرض أو في إيقاف أعراضه حتى الآن، لكنّ مواجهته تحتاج من الدولة إلى أمرين رئيسيين:أولًا: الاعتراف بوجود المرض؛ فحتى اللحظة تبدو البيانات الرسمية متضاربة بخصوص وجود الحالات المُصابة من عدمه. فمستشفيات «قنا» تُؤكد وفاة الطفلة «رحمة شاذلي عبده سلطان» التي استقبلها المستشفى قادمةً من «القُصير» نتيجة إصابتها بحمى الضنك، إلا أن الإدراة الصحية بالقصير خرجت لتؤكد أن الطفلة ماتت نتيجة فشل في وظائف المخ، لكنّ الإدارة التي تقوم بإخلاء مستشفى القصير من الحالات من أجل تصوير الأمر على أنّه لا توجد حالات محجوزة، كما ذكر ذلك أحد الأطباء المنُتدبين إليها.فحتى إن سلّمنا بتضارب الآراء حول حالة الطفلة المذكورة، فهناك ما يُقارب الـ3000 حالة موجودة في «القُصير» حاملة لأعراض حمى الضنك المذكورة سابقًا، منها ما هو محجوز في مستشفى «قنا» قادمًا من الغردقة والبحر الاحمر، بشهادة الأطقم الطبية في مستشفى قنا، ومنهم من أُرسل إلى بيته بعد أن تلقى علاجًا تحفظيًا، هذه الحالات تحتاج إلى تقصي حالتها، إن لم يكن ما أصابها هو «حمى الضنك»، فعلى الدولة أن تخبرهم عما أصابهم، وأن تبحث الدولة في كل الأحوال عن سُبلٍ لإيقاف ما يفتك بأهل «القصير».ثانيًا: إذا عدنا إلى الواقع وإلى تقارير وزارة الصحة التي تُقر بوجود «حمى الضنك» في القصير؛ فإن مواجهة انتشار المرض تتطلب جهودًا متكاملة من جميع مفاصل الدولة. فوزارة الزراعة مطالبة بتطهير أماكن وجود البعوض مثل المستنقعات، خزانات المياه، المراكب الخشبية، الأشجار، وأن تبدأ في تطهير السيارات الداخلة إلى محافظة البحر الأحمر، وغيرها من الأماكن التي يمكن أن تأوي البعوضة المسئولة عن المرض.وعلى وزارة الصحة أن تُوفر أماكن مناسبة لمتابعة الحالات المصابة بالمرض، وقياس علاماتها الحيوية، مع توفير كميات من مُسكن «الباراسيتامول» الذي يعمل على خفض الحرارة، والذي ارتفعت أسعاره بشكل جنوني في صيدليات المُحافظة – وفقًا لأقوال بعض قاطني القُصير. كذلك يجب على وزارة الصحة توفير كميات نظيفة من الدماء، وظروف صحيّة لعمليات نقل الدم لمواجهة حالات النزيف الشديد. وليس من المنطقي أن ترسل الدولة جنودها من الأطباء لخوض هذه المعركة دون أسلحة كافية، وهو ما يحدث – وفقًا لشهادةالطبيب «أحمد إسماعيل» المتواجد بالقصير- من سوء السكن، وعدم توافر المياه النظيفة، ما أدى إلى إصابة طبيبين بالفعل.


حريق أم إعصار أم بعوضة؟

دائمًا ما تنظر وسائل الإعلام المصرية إلى أي كارثةٍ طبيعيةٍ أوبشرية على أنّها مؤامرة على النظام؛ ولهذا تنبري تدافع عن الدولة، كما يحدث حاليًا، فوسائل الإعلام تُلقي باللوم كاملًا على المواطنين الذين لم يقوموا بتغطية خزانات المياه. وفي خضم هذا الدفاع الشرس تُبرئ وسائلُ الإعلام الدولة من مسئوليتها البديهية أمام هذه الكارثة.ونحن هنا لسنا بصدد التقليل من كارثة والتعظيم من أخرى، بل الغاية هي التوضيح أن التعامل الصحيح مع الأزمة يقتضي التعالي لحظيًا عن من وراءها، والشروع فورًا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. فحين شهدت الإمارات حريقًا ضخمًا في رأس السنة أثناء احتفالية الألعاب النارية المشهورة، انطلقت السلطات نحو إخلاء البرج، ووضعت جميع الإمكانات رهن إشارة الحريق، حتى تم احتواؤه دون قتيل واحد. وكذلك إعصار إرما المُدمر الذي اجتاح فلوريدا في الأيام الأخيرة، تمكنت الدولة من مواجهته بما يضمن لها أقل عدد ممكن من خسائر الأرواح والأموال.

حتى نفس العدو «حمى الضنك» حين واجهته السعودية في مطلع الألفية، جيّشت المملكة جهودها كاملةً للقضاء عليه، وخصصت لذلك ما يُقارب الـ 8 مليار ريال سعودي، في حرب استمرت من 2006 حتى 2010، ويمكن القول إنها لم تقضِ عليه تمامًا، لكنها استطاعت أن تحد من الإصابات، وأن تطهر نفسها منه ولو حتى إشعارٍ آخر،لا أن تظن «مصلحة الطب الوقائي المصرية» أنّها قادرة على مواجهة انتشار الحمى بـ 50 فردًا فقط، يعملون بإمكانات أشبه بالمزارعين الذين يطهرون أحد حقول القطن، وفي خلال أسبوعين فقط، كما صرّح بذلك الدكتور «عمر قنديل» -رئيس هيئة الطب الوقائي.


الوقاية الشخصية

جنبًا إلى جنب، مع التركيز على دور الدولة في مواجهة الأزمة، على الأفراد أيضًا أن يحاولوا إنقاذ أنفسهم على الأقل، ولكي تنجو بنفسك من «حمى الضنك» عليك اتباع بعض الإجراءات الوقائية المُتاحة كأن تغلق الأبواب والنوافذ بإحكام في العمل أو في البيت، وترتدى الملابس طويلة الأكمام، بجانب رش المبيدات المضادة للبعوض حولك.ولا تنس تجنّب الشرب من المياه الراكدة، أو مياه الخزانات قدر المستطاع، وابتعد عن الاحتكاك بالمصابين، خوفًا من انتقال العدوى إليك، وتجنب تناول أي مسكنات غير عقار «الباراسيتامول» المذكور أعلاه؛ إذ أن باقي المسكنات قد تزيد من خطر حدوث النزيف.وختامًا؛ لن تكون تلك هي الكارثة الأولى التي تمر بها مصر، كما لن تكون الأخيرة، لكن على اختلاف الكواراث وتتابعها، أو حتى نفس الكارثة فقد انتشرت حمى الضنك منذ عامين في منطقة «ديروط» في محافظة أسيوط، وسجلت ما يُقارب الـ 253 حالة، وفق تقرير منظمة الصحة العالمية. ويبقى الثابت الوحيد هو السيناريو الذي يتبع كل كارثة؛ الدولة تنكر، ثم تعترف على مضض، ثم تُصرح أن كل شيء تحت السيطرة، ويكون أوان النجاة قد فات، ويبدأ الحديث حول مبلغ التعويض للمُتوفى وللمُصاب، هل هو كافٍ أم لا، فهل يمكن أن نأمل -مجرد أمل- أن الأمور ستتغير في هذه الأزمة ولو قليلًا؟.