في السجون الفلسطينية: التعذيب هو «سيد الموقف»
لم يُجرب الفتى «مصطفى فايق سلمان» ذو الستة عشر ربيعًا، أن يُترك وحيدًا في ظلمة زنزانة انفرادية، حينها امتلكه شعور مزدوج بين الدهشة والخوف والقلق والتوتر ممزوج بعدم التصديق، فكيف له أن يقضي أيامه في حدود أربعة جدران صماء؟!
حاول أن يتعرف على واقعه الجديد وأن يعرف ذاته داخل تلك الأقبية، لكنّه لم يُفلح كثيرًا، فالواقع أقسى مما يتحمله قلب فتى أوى إلى السجن نتيجة شجار على كيس بطاطا، فكانت النتيجة انهيار تام انتهى بمحاولة انتحار أفضت إلى موت سريري لم يغادره حتى اللحظة.
وبحسب الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، فإن مراكز التوقيف التابعة لوزارة الداخلية بغزة شهدت في الآونة الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا في أعداد ضحايا التعذيب، وتُشير إحصاءات صادرة عنها إلى وجود 24 شكوى لديها تتعلق بالتعذيب أثناء التوقيف والتعرض لمعاملة قاسية ومهينة، منها 7 شكاوى في الضفة الغربية و17 شكوى في قطاع غزة، وبيّنت أن الشكاوى في الضفة الغربية وردت ضد جهاز الشرطة، أما في قطاع غزة فقد وردت 14 شكوى ضد جهاز الشرطة، وشكويان ضد جهاز الأمن الداخلي وشكوى واحدة ضد إدارة مراكز الإصلاح والتأهيل.
تعذيب جسدي ونفسي
وفي بحثنا عن تفاصيل الأسباب التي أدت بالفتى «سلمان» إلى الإقدام على محاولة الانتحار داخل مركز شرطة بيت لاهيا شمال قطاع غزة التي احتُجز فيها، تبّين أنها لا تبتعد عن سوء المعاملة وأساليب التعذيب الجسدي والتعنيف النفسي التي تلقاها مرارًا منذ اعتقاله في فجر الثاني من يوليو/تموز الماضي على إثر شكوى تقدم بها شاب كان قد تشاجر معه وأصابه في ذراعه، وبحسب شهادة محمد سلمان شقيق الفتى مصطفى فإنّه اُحتجز في سجن للبالغين وهو أمر مخالف للقانون.
وأضاف أن السجناء في نظارة مركز شرطة بيت لاهيا وعددهم يفوق الـ 30 سجينًا كانوا يُذيقون «مصطفى» ألوان التعذيب النفسي والجسدي، فلم يكن ينام إلا بجانب باب المرحاض وفقًا لتعليماتهم، وكذلك لا يحظى بالراحة إلا بعد أن يؤدي دوره في خدمتهم جميعًا، وقال: «كان إذا رفض يتعرض للضرب والإهانة من الموقوفين السجناء»، وذكر أن شقيقه حاول الشكوى لإدارة النظارة إلا أن أحدًا لم يستمع إليه، وكانوا يُكذبونه ويتهمونه بإثارة الفوضى والشغب ومن ثم يُعاقبونه بالضرب تارة والحرمان من حقوقه الإنسانية تارة أخرى.
ومع استمرار ارتفاع مدة اعتقال «مصطفى» من 24 ساعة إلى 48 أخرى إلى 15 يومًا جُددوا تاليًا، وما إن انتهوا حتى تلقى أمرًا باستمرار الاعتقال لـ 45 يومًا آخرين، حتى شعر بالعجز خاصة في ظل رفض إدارة نظارة مركز شرطة بيت لاهيا الإفراج عنه إلا بعد الحصول على ورقة مصالحة من العائلة المشتكية والتي رفضت بشكل قاطع الصلح، فأقدم على شنق نفسه مستخدمًا ملابسه دخل على إثرها في حالة موت سريري لم يُغادرها حتى الآن.
وبحسب عائلة الفتى فإن آثارًا لجروح ورضوض بدت على جسم ابنهم توحي لهم بتعرضه للتعذيب والضرب الوحشي، وهو ما يُشير إلى مخالفة المادة 37 من اتفاقية حقوق الطفل والتي تؤكد على ضرورة ألا يُعرض أي طفل يقل عمره عن 18 عامًا للتعذيب أو لغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وألا تُفرض عليه عقوبة الإعدام أو السجن مدى الحياة بسبب جرائم يرتكبها دون وجود إمكانية للإفراج عنه، وشددت على ألا يحرم أي طفل من حريته بصورة غير قانونية أو تعسفية.
الزنزانة رقم 11
يروي لنا «محمد عثمان»، إعلامي فلسطيني، تفاصيل عذاباته في أقبية زنازين جهاز الأمن الداخلي بقطاع غزة، التي ما تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد، لكنه يُقر أن الاعتقال الأخير في الأول من سبتمبر/أيلول 2016 والذي لم يدم لأكثر من يوم واحد، كان سببًا رئيسيًا في خروجه من القطاع للبحث عن مكان ووطن بديل يحفظ له حقوقه التي منحته إياها القوانين والمواثيق الدولية في الرأي والتعبير.
ويعمل عثمان منذ سبع سنوات في مجال التحقيقات الاستقصائية، ما يُمكنه من الكشف عن منابر الفساد والتنقيب عن روادها، ويقول: «إن اعتقاله الأخير جاء على خلفية نشره على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي، فيس بوك، وثيقة موجهة من مكتب رئيس الوزراء السابق، إسماعيل هنية، إلى وكيل وزارة الأوقاف في غزة، حسن الصيفي، يؤكد فيها توزيع مبلغ قيمته 25 ألف دولار من أموال الزكاة من خلال مكتب هنية».
ويضيف أنه دفع ثمن هذا الكشف يومًا كاملًا من التعذيب أدى به إلى اتخاذ قرار بالابتعاد قليلًا عن الوطن لا المهنة.
وفي توثيقه لممارسات التعذيب لدى جهاز الأمن الداخلي أشار إلى أن عناصر الجهاز عمدوا إلى تعذيبه منذ اللحظة الأولى للاعتقال، إذ أبقوه لأكثر من 20 دقيقة في مقر حراسة أحد مباني إدارة الجهاز قبل أن ينقلوه إلى الثكنة الأساسية للتعذيب، يقول: «كانت البداية بالتعذيب اللفظي إذ لم يتركوا لفظًا من الألفاظ النابية إلا وقد وجهوه لي».
ويُضيف أنهم في مرحلة أخرى أجبروه على المشي منحنيًا مُدّعين بوجود حائط يجب المرور أسفله، ومن ثمّ وضعوه جوار بئر ماء، وفي إجراء أكثر إيلامًا للجسد أجبروه على الوقوف ساعة ونصف تقريبًا دون أي حركة.
يؤكد «عثمان» أن تلك الإجراءات كانت أثناء الاعتقال والنقل من البيت إلى مركز الشرطة، ويلفت إلى أن رحلة التعذيب والتحقيق الفعلية بدأت بعد رفضه الإدلاء بأي معلومة عن المصادر التي زودته بالأوراق والوثائق التي نشرها حول مكتب رئيس الوزراء السابق إسماعيل هنية، يقول: «طلبوا مني الإفصاح عن مصادري، ولما امتنعت عن ذلك كون القانون يمنحني حق إخفاء مصادري بدأت رحلة التعذيب الجسدي بالصفع على الوجه والاعتداء بالضرب على كافة أنحاء جسدي»، ويستكمل: «كل ذلك كان يحدث وأنا معصوب العينين أملًا في إرهاقي نفسيًا وإجباري على البوح بما يُريدون».
ولم تنته جولة التعذيب التي تعرض لها «عثمان» هنا بل ازدادت وتيرتها بعد رفضه الإجابة على تساؤلات المحققين، فكان السبيل لتدميره نفسيًا وجسديًا الأمر بتعليقه بوضعية «البلانكو»؛ أي بتكبيل يديه إلى الخلف مع وضع لثام على وجهه ورفع يديه إلى الأعلى ما يجعله محني الظهر وأسفله كرسي.
يقول: «كان المحقق يطلب مني النزول من على الكرسي وأنا بهذه الوضعية، ولما عجزت ضربني بساعده على بطني عدة مرات، ومن ثم دفع الكرسي من تحتي فتعلّقت كالأجساد المعلّقة على مقصلة الإعدام»، ويُشير إلى أن الخطوة التالية لذلك كانت بإحضار المحقق دفترًا أبيض لكتابة ما يُريدون من اعترافات، لكنه لم يفعل وكانت النتيجة أن نُقل إلى زنزانة رقم 11.
في وصفه للزنزانة، يؤكد أن عرضها لم يزد عن متر واحد بينما طولها لم يتجاوز المترين وفق تقديره، يتخللها دورة مياه بطول وعرض متر واحد فقط، وليس بها من مقومات الحياة الآدمية شيء؛ فالفراش عفن ورائحته كريهة جدًا، ويُضيف أنهم بعد ساعة ونصف من دخوله الزنزانة رقم 11 عرضوا عليه إحضار بعض الطعام لكنه أخبرهم بإضرابه عن الطعام فأخذوا بالسخرية منه. لم يدم الأمر طويلًا، فقد أُفرج عنه في نهار اليوم التالي.
وبحسب حالات الرصد الميداني التي تقوم بها المؤسسات الحقوقية الناشطة في قطاع غزة، فإن السنوات الأخيرة شهدت ارتفاعًا في شكاوى التعذيب داخل السجون وفقًا لما جاء في تقرير الهيئة المستقلّة لحقوق الإنسان لشهر يونيو/حزيران ويوليو/تموز الماضيين، حيث شهدا تقديم 26 شكوى تتعلق بالتعذيب أثناء التوقيف والتعرض لمعاملة قاسية ومهينة، جميعها في قطاع غزة وأسفرت 3 منها عن وفاة الموقوفين وهم أحمد الفيومي 30 عامًا، وخليل حرب 19 عامًا، والفتى مصطفى سلمان 16 عامًا والذي يُعاني موتًا سريريًا.
القانون الفلسطيني
يُفرق «صلاح عبد العاطي» الباحث القانوني، بين أسلوبين من التعذيب الذي يُمارس ضد الموقوفين: الأول تعذيب جسدي يتم من خلاله إحداث إصابات في جسم الموقوف، وقد تتطور الإصابة إلى عجز أو وفاة، وأحيانًا قد يستمر تأثيرها مدى الحياة بعاهة مستديمة. الثاني هو التعذيب النفسي، لافتًا أنه أكثر فتكًا وتأثيرًا، لا يستطيع بعده الموقوف التنعم بحياة هادئة ومستقرة، وقد تؤدي به أحيانًا إلى الجنون.
وبمزيد من التفصيل، تحدث عن صور وأنماط التعذيب والتي تبدأ من استعمال ألفاظ نابية أو بذيئة أو حاطّة بالكرامة، وتتطور إلى الصفع على الوجه، ثم الاعتداء بالضرب الشديد بالهراوات وأعقاب البنادق وبالأيدي والأرجل، وفي مرحلة متقدمة يُمارس الجنود في أجهزة الأمن أسلوب الدوس بالرجل على جسد الموقوف ومن ثمَّ يلجأون إلى ضرب الرأس بالحائط، ثم الشبح مع ربط اليدين إلى الخلف، ناهيك عن إجبار الموقوف أو السجين على الوقوف على كرسي صغير لفترات مختلفة تطول ولا تقصر إمعانًا في إيذائه وتعذيبه نفسيًا وبدنيًا.
يؤكد «عبد العاطي» أن كافة الممارسات السابقة ممنوعة ومحظور استخدامها وفقًا للقوانين الفلسطينية، وعلى الرغم من ذلك لا زالت تُمارس بحق الموقوفين سواء في السجون التابعة لوزارة الداخلية في غزة أو الضفة الغربية، وقال: «إن ذلك يُحتم على أصحاب القرار وكافة الجهات المعنية إنصاف ضحايا التعذيب».
كما دعا إلى فتح كافة مراكز التوقيف والاحتجاز أمام الجهات القضائية والرقابية المعنية، وبالذات للمؤسسات الحقوقية لتحقيق التزام الجميع بعدم ممارسة التعذيب وتطبيق بنود اتفاقات جنيف الأربعة، التي حذّرت من الاعتداء على الإنسان وكفلت حياته الصحية والبدنية وحمته من القتل والمعاملة المهينة والذليلة التي تحط بكرامته الإنسانية، بالإضافة إلى تطبيق بنود القانون الفلسطيني الذي ينظر للتعذيب كجريمة لا يُمكن التذرع بها كحالة ضرورية أو استثنائية، على حد تعبيره.
تغطية إعلامية خجولة
على الرغم من تصاعد عمليات التعذيب في السجون سواء على خلفية الاعتقال الجنائي أو الاعتقال على خلفية حرية الرأي والتعبير، إلا أن التغطية الإعلامية وفضح ممارسات التعذيب في الإعلام لا زالت خجولة لا تبرح بيانات الشجب والاستنكار. ووفقًا لـ «فريد أبو ضهير»، مدير مركز النجاح للإعلام في نابلس، فإن الإعلام الفلسطيني متهم بتجاهل قضايا التعذيب التي يتعرض لها المعتقلون في السجون الفلسطينية سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة، وقال لـ «إضاءات» إن تعامل الإعلام معها لا يبعد عن الحزبية، فكل حزب يُعالج القضية بالطريقة التي تُبرؤه أمام الآخر وتورط غيره.
ويدعو أبو ضهير إلى ضرورة رفع الوعي لدى الرأي العام حول قضايا التعذيب وتجريمها وأحكامها في القوانين الفلسطينية من أجل التعامل معها وفقًا لما يقتضيه القانون، كما شدد على ضرورة أن تعمل المؤسسات الإعلامية على فضح ممارسات التعذيب أمام الرأي العام لمحاسبة المتسببين فيها وإخضاعهم للقانون على المدى المتوسط والبعيد، لافتًا إلى أنّه بات من السهل على الصحفي الحصول على المعلومات حول الاعتقال والتعذيب بشكل أو بآخر، لكنّه يُقر أن المشكلة في طبيعة المعالجة لتلك القضايا، قائلًا إن الغالبية لا يتمكنون من عرض المعلومات الخاصة بالتعذيب بشكلها الواضح خشية تعرضهم للتهديد أو الإيذاء الفعلي على خلفية النشر.