غرفة واسعة في ليلة رأس السنة، نهار وادع وكسول يليق بالأعياد، عائلة تجلس حول بعضهم البعض يشربون قهوة الصباح ويثرثرون، يتحدثون عن خطط السنة الجديدة وماذا سوف يحققون، يتمنون ويفصحون عن المشاريع الجديدة، كل منهم يقول ما في جعبته من أمنيات، ثم يجيء دورها، سيدة بهية ذات شعر بني مائل للاحمرار وتجاعيد حول العينين والفم تضفي عليها ذكاءً حادًا مع جاذبية لا يدحضها عمرها، يسألونها عن مشروعها الذي ستبدأه هذا العام والذي تبدأ مثيله في بداية كل عام، فتقر لهم أنها لم تفكر في شيء بعد.

فجأة تصبح هي قلب الجلسة ومحورها، يتحلقون حولها وتبدأ الاقتراحات في الانهمار عليها، يلقون على رأسها بالأفكار، كل منهم يلقي لها خيطًا واقتراحًا جديدًا وهي تستمع لهم جميعًا، بعدها بعام أو أزيد قليلاً تخرج للنور رواية «ما وراء الشتاء» للكاتبة التشيلية «إيزابيل الليندي» والتي أخذت مقترحات أفراد عائلتها في الحسبان واستلهمت منهم روايتها التي سوف نتعرض لها اليوم.


عن المصادفات التي تخلق القصص

تدور الرواية في الولايات المتحدة حول الأستاذ الجامعي ريتشارد بوماستير الذي يتعرض قطه الأليف لحادث عارض يجعله يخرج مصادفة من منزله أثناء عاصفة جليدية. ونظرًا لتعثر القيادة في جو العاصفة يصطدم ريتشارد بسيارة تقودها إيفيلين مربية الأطفال من جواتيمالا ويمنحها بطاقة التعريف الخاصة به، ليجدها بعد ساعات على عتبة داره مع سيارتها المتضررة والتي تحمل في حقيبتها جثة امرأة لا تعرف عنها أي شيء، لا يستطيع ريتشارد التصرف منفردًا في هذا الموقف فيطلب المساعدة من زميلته التي تعمل معه بالجامعة وتسكن القبو، التشيلية التي تقاربه في السن لوثيا ماراث.

تحاول لوثيا وريتشارد مساعدة إيفيلين، الشابة صغيرة السن المتلعثمة المهاجرة التي لا تمتلك أوراقًا رسمية، في التخلص من السيارة ومن الجثة التي تحويها بعد أن وجداها ليست أكثر من طفلة مذعورة، وأثناء ذلك يحكي كل منهم قصة حياته وتتأجج قصة حب بين بوماستير ولوثيا ظنا أنها لن تحدث أبدًا.

تتعرض إيزابيل الليندي من خلال روايتها ما وراء الشتاء لواقع المهاجرين القاسي في الأراضي الأمريكية. أمريكا الحلم اللامع الذي يغري العالم كله والذي يراه المهاجرون على حقيقته، وفي سبيل حديثها عن واقع المهاجرين تعرض نموذجين لبلاد طاردة تجبر أهلها على تركها واللهاث وراء الحلم الأمريكي، حتى وهم على دراية أن الحلم ليس حلمًا بالكامل ولكنه أشبه بكابوس، ولكنهم على الأقل سيظلون أحياء ليعيشوا هذا الكابوس، وهذا ما لا توفره لهم بلادهم.


عن الاغتراب الذي يخلق الصراع

إيزابيل الليندي كاتبة تشيلية، ناجية من الانقلاب الذي أطاح بالرئيس «سلفادور الليندي» في تشيلي عام 1973، فهي تشبه بشكل ما بطلة روايتها لوثيا ماراث التي عانت في الرواية من حكم الديكتاتور بيونشيه، وقد فقدت أخاها جراء معارضته للحكم، وتمت ملاحقتها فاضطرت إلى الهرب خارج البلاد لتعيش في كندا لعدة عقود قبل أن تلحق بفرصة تدريس في الجامعة في الولايات المتحدة.

تعرض الليندي في روايتها أحوال تشيلي السياسية والاجتماعية التي تدفع الكثيرين لمغادرتها غير آسفين، رغم حبهم الفطري والطبيعي لها، تشبه إلى حد كبير إيفيلين الجواتيمالية التي تهرب لأسباب تقارب أسباب لوثيا، واغترابها الإجباري عن وطنها، الفقر والعوز وسوء الأحوال السياسية، ومسببات الاغتراب التقليدية التي تخلق صراعًا داخل الشخصيات ويحرك الأحداث من حولها.

على الجانب الآخر هناك ريتشارد بوماستير الألماني المهاجر مع ذويه إلى فرنسا، والذي تلقيه متطلبات الدراسة إلى البرازيل فتعجبه حياة الدعة والاستمتاع فيتزوج برازيلية فاتنة وتتكاثف على حياتهما المصائب العائلية مما يجعله يغترب عن زوجته وعن البرازيل فينزح إلى الولايات المتحدة لينهي هناك فصول مأساته الخاصة قبل أن يقابل لوثيا وإيفيلين بعقود طويلة.

الاغتراب هو ما يجمع بين الشخصيات، هو الذي يخلق الحدث ويشكل نفسياتهم، الاغتراب عن الوطن بدافع الهروب، أو الاغتراب عن الحب بسبب المصائب، الاغتراب الذي يجعل كلاً منهم متلهفًا لإنهاء إحساس الوحشة الذي ينهشه، فينغمس ريتشارد في العمل ويتحصن بالروتين، وتصمت إيفيلين وتواجه العالم شبه بكماء لتتسلح بالصمت في مواجهة مصائبها، وتحاول لوثيا تغيير حياتها للأفضل بعد عدة كوارث حياتيه كادت تودي بها.


عن الحب الذي يخلق الخلاص

الحل في منتهى السهولة، الحل للفقر والضياع والانقلابات العسكرية، الحل للتهجير وقتل الأخوة والحوادث العارضة والموت والمرض، الحل للمشكلات النفسية والتلعثم وفقد الأهل، الحل لصراعات الحكم والسياسة الدولية والاتجار بالبشر، كان الحل لكل هذا يتمثل في الحب.

الرواية لا تحكي فقط عن قصة الحب بين لوثيا وريتشارد، فتقاطعات الحب تغمر الرواية رغم أنه لا يسمى حبًا بالمعنى المفهوم، فحب الجدة كونثبثيون لحفيدتها إيفيلين هو ما أنقذها من المصير المجهول في جواتيمالا وأنقذها مرة أخرى على الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة، وحب دانيللا للحياة ولأمها هو ما ساعد على إنقاذ ما تبقى من لوثيا ودفعها للبحث عن حياتها مرة أخرى، وحب ريتشارد ولوثيا هو ما دفعهما لمساعدة إيفيلين.

ضمنت إيزابيل الليندي فكرتها عن الحب الذي يلعب دور المخلّص في سطور روايتها دون أن تفصح، فالحب لن يمنع الحكام من أن يكونوا طغاة، ولن يجعل البشر يكفوا عن الاتجار بالبشر، ولن يجعل موظفي الهجرة أكثر تعاطفًا مع الأطفال على الحدود، ولكنه بإمكانه أن يجعل كل هؤلاء جميعًا يقومون بتصرف صغير جدًا إذا ما تكرر يمكنه -بشيء من التفاؤل- أن يغير العالم.