في ذكرى رحيله: ماذا قدّم الشقيري للقضية الفلسطينية؟
هكذا دافع عن قضيته وبني وطنه في المحافل الدولية، حينما حاولت إسرائيل تزييف التاريخ، وتبديل الوعي، فهو من أكثر الزعماء العرب إثارة للجدل، فقد تضاربت حوله الأقوال، واختلفت فيه وجهات النظر، ولكن لم يستطع أحد أن ينكر أن أحمد الشقيري، أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، كان علمًا من الأعلام البارزين في حياة الشعب الفلسطيني بشكلٍ خاص، والعربي بشكل عام.
فقد قُدّر للشقيري أن يشهد مرحلة من أصعب المراحل التي عاشتها الأمة العربية من تكالب المستعمرين عليها لتقاسم أجزائها، فانبرى يدافع عن وطنه العربي بإخلاص وعزم لا يلين، وفي ذكرى رحيله، كان يتعين علينا أن نلقي الضوء على أبرز ما قدَّمه من إسهامات خلدتها صفحات تاريخه المفعم بالنضال.
النشأة وباكورة العمل النضالي
ولد أحمد الشقيري في قلعة تبنين في لبنان، عام 1908، ويروي الشقيري في مذكراته أنه نشأ في بيت صغير، وأن حياته في ذلك البيت كانت أقرب إلى حياة القرى منها إلى المدن، وقد تم نفي والده الشيخ أسعد الشقيري في لبنان، لمعارضته سياسة الدولة العثمانية. وقد انتقل الشقيري مع والدته للعيش في طولكرم، ومن بعدها سافر إلى عكا للدراسة بالمدرسة الأميرية عام 1916، حيث تلقى تعليمه الأولي فيها، ومنها انتقل إلى القدس التي أتم فيها دراسته الثانوية عام 1926.
وبسبب قيادته مظاهرة ضخمة بالجامعة احتجاجًا على الوجود الفرنسي في لبنان، اتخذت السلطات الفرنسية قرارًا عام 1927 بإبعاده عن لبنان، وتم طرده من الجامعة في العام التالي من التحاقه بها.
ولذلك عاد الشقيري إلى القدس والتحق بمعهد الحقوق، وقد وعمل محررًا بصحيفة «مرآة الشرق». وبعد أن تخرج من المعهد أتيحت له الفرصة ليتمرن في مكتب المحامي «عوني عبد الهادي» أحد مؤسسي حزب «الاستقلال» في فلسطين، وفي ذلك المكتب تعرّف على رموز الثورة السورية الذين لجأوا إلى فلسطين وتأثر بهم.
وقد استفاد كثيرًا من دراسته للحقوق، فبذل جهودًا واسعة في الدفاع عن المعتقلين الفلسطينيين أمام المحاكم البريطانية. وشارك الشقيري في أحداث الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 – 1939)، وكانت لكتاباته أثر في إشعال الروح الوطنية، كما شارك في مؤتمر بلودان في سبتمبر 1937، ما جعل السلطات البريطانية تلاحقه فغادر فلسطين واستقر بعض الوقت في مصر.
وقد تم تعيين أحمد الشقيري مديرًا لمكتب الإعلام العربي في واشنطن، بعد أن تقرر تأسيس المكاتب العربية في عدد من العواصم الأجنبية، ثم أصبح بعد ذلك مديرًا لمكتب الإعلام العربي المركزي في القدس، وظل يرأس هذا المكتب حتى عام 1948، حيث اضطر إلى الهجرة بعدها إلى لبنان والاستقرار في بيروت.
وعي مبكر لطبيعة المشروع الصهيوني
لقد أدرك الشقيري في وقت مبكر الخطر الصهيوني على الأمة العربية، واستطاع أن يميز بوضوح الرؤية تجاه الصراع الذي فجره إقامة المشروع الصهيوني على التراب العربي في فلسطين، إذ رأى فيه صراع وجود، ولا وجود مع أداة استعمارية تمثل تحديًا قوميًا يستهدف الأمة العربية.
وقد تصدى الشقيري مرارًا لتفنيد ادعاءات الصهاينة في الأمم المتحدة بأن «إسرائيل خاضت كفاحًا في سبيل التحرير حتى ظفرت باستقلالها»، ومثال ذلك تصديه لوزير خارجية إسرائيل «أبا إيبان»، في إحدى جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث أكد أن الصهيونية حركة استعمارية، وأن إسرائيل وليدة الاستعمار، وأن زعماء الصهيونية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، طافوا الدول الاستعمارية، فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، يعرضون عليها استعدادهم لخدمة مصالحها الاستعمارية، وأن تصريح بلفور إنما صدر في خطاب موجَّه إلى «روتشيلد» الرأسمالي اليهودي الكبير المُساهِم في المشاريع الاستعمارية الكبرى في أفريقيا.
وفي تصدي الشقيري لادعاء إسرائيل بوجود قرابة سلالية بين العرب واليهود عمومًا، على زعم أن الجماعتين من الساميين، فهذا الكلام اعتاد أن يقوله مندوب إسرائيل الدائم في الأمم المتحدة، «أبا إيبان»، ودائمًا ما كان يتحدث أيضًا عن رغبة إسرائيل بالسلام وعودة الصفاء، فكان رد الشقيري أن أوضح «أن أعضاء الحكومة في إسرائيل معظمهم من أوروبا الشرقية»، واستشهد بما جاء في دائرة المعارف اليهودية من أن اليهود في روسيا وأوروبا الشرقية، ليسوا ساميين، وأنهم من الخزر، اعتنقوا الديانة اليهودية بعد موسى عليه السلام بعصور وأجيال.
ثالوث التحرير
كان الشقيري مهمومًا بإيجاد وسائل مثلى لمواجهة تحدي التحالف الإستراتيجي في ما بين الاستعمار والصهونية، وتلك الوسائل كما يراها الشقيري، هي الوحدة أولاً، باعتبارها القاعدة المادية لتوفير مقومات المقاومة ومتطلبات الحياة الديمقراطية، فيقول الشقيري «فالصهيونية العالمية وفي طليعتها إسرائيل قوة ديناميكية هائلة، لا يمكن أن يقف أمامها إلا وحدة عربية، لها جيش عربي واحد، وعلى رأسه دولة اتحادية واحدة، دولة حول إسرائيل على الأقل».
ثانيًا: المقاومة، فقد كان دائمًا ما يطالب بتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة نشاطه الوطني، وتعبئة طاقاته، مؤكدًا أنه «من غير شعب فلسطين حرًا منظمًا مُعبأ، فإن أي خطة لتحرير فلسطين هي مبتورة، لا تؤدي إلى نهاية ظافرة»، ولقد انتهى الشقيري بعد سنوات عديدة من النشاط الدبلوماسي إلى اعتماد المقاومة خيارًا إستراتيجيًا، وفي ذلك يقول: «من خبرتي الطويلة في الأمم المتحدة تأكدت قناعتي بأن القضية الفلسطينية ليس لها حل سياسي ودبلوماسي، وإن حرب التحرير هي الطريق الوحيد لإعادة الوطن إلى شعب فلسطين، وعودة الشعب إلى الوطن».
ثالثًا: حرية الإنسان الفلسطيني، فمع إيمان الشقيري بقومية الصراع إلا أنه كان يرى أن شعب فلسطين طليعة أمته، وحتى يقوم هذا الشعب بدوره الطليعي. كان الشقيري يرى أنه لابد من توفير الحرية الكاملة للمواطن الفلسطيني حيث يُقيم «لأنه لتحرير الأرض السليبة لابد من تحرير إرادة الإنسان الفلسطيني».
قضايا التحرر العربية
تولى الشقيري الدفاع عن قضايا التحرر العربية، بصفته أمينًا مساعدًا لجامعة الدول العربية، ففي عام 1951، كانت قضايا السودان والجزائر وليبيا وتونس والمغرب موضوع المباحثات في الأمم المتحدة، فضلاً عن القضية الفلسطينية. وقد كانت قضية استقلال تونس أولى القضايا التي تولاها الشقيري بصفته مندوب سوريا في الأمم المتحدة.
وقد كانت القضية الليبية ثاني القضايا التي تولاها، وفي وقتها كانت السيطرة على ليبيا موضوع صراع بين أمريكا وروسيا وبريطانيا، إذ كان الاتحاد السوفييتي يؤيد استقلال ليبيا وتصفية القواعد العسكرية فيها. وقد كان هناك خلاف بين مصر وليبيا على الحدود، وقد نجح الشقيري بالحصول على موافقة وزير خارجية مصر آنذاك، بعدم إثارة النزاع المصري-الليبي، على أن يتولى الوفد السوري إثارة موضوع استقلال ليبيا في الأمم المتحدة، فتحدث الشقيري مطالبًا بحق الشعب الليبي في تقرير مصيره واستقلاله قائلًا:
«إن منح ليبيا الاستقلال وقيام حكم وطني فيها سوف يُنظر إليه كتعبير عن قوة الأمم المتحدة ونجاحها في تصفية القواعد الأجنبية»، وانتهت الجلسة بصدور قرار الجمعية العامة بتكليف ممثل الأمم المتحدة استعجال الخطوات نحو استقلال ليبيا وقيام حكومة ليبية مستقلة.
وقد كانت قضية المغرب العربي ثالث القضايا، وقد اتفقت الوفود العربية على أن يتولى عرض القضية على الأمم المتحدة، وكان الوفد الأمريكي يتولى الدفاع عن وجهة النظر الفرنسية، فتوجه إليه الشقيري قائلاً «أريد أن أذكر أمريكا بتاريخ أمريكا، يوم أعلنت الولايات المتحدة استقلالها كانت مراكش أول دولة في العالم اعترفت بذلك الاستقلال الأمريكي». فتوالى الخطباء على مدى ثلاثة أيام يناقشون القضية المغربية، واعتبر ذلك نصرًا على الرغم من رفض إدراج القضية على جدول أعمال الأمم المتحدة.
أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية
تم تكليف الشقيري في أواخر عام 1963، بإقامة «منظمة التحرير الفلسطينية»، ككيان سياسي يمثل الشعب الفلسطيني. وعلى الرغم من التوتر والاحتقان الذي ساد الأجواء على الصعيدين العربي والوطني الفلسطيني، إلا أنه لم يستسلم وتمكّن هو وبعض من أصحاب الفكر القومي من صياغة مشروع «الميثاق الوطني الفلسطيني»، وقام هو ومن معه بعقد أول مؤتمر وطني فلسطيني في القدس، يوم 28 أغسطس 1964، وتم الإقرار بمشروع القرار، وانتُخب الشقيري رئيسًا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
ومنذ توليه رئاسة اللجنة التنفيذية، سافر إلى العديد من الدول العربية طالبًا الدعم والمساندة للقضية الفلسطينية، وكذلك للبلدان التي تربطه بها علاقة حميمة، وفي مقدمتها الصين الشعبية التي حصل منها على كمية من السلاح لجيش التحرير الفلسطيني. وقد نجحت المنظمة برئاسته في إرساء قواعد ثلاث مؤسسات رئيسية هي: جيش التحرير الفلسطيني، والصندوق القومي الفلسطيني، ومركز الأبحاث، فضلاً عن تشكيل دوائر المنظمة المختلفة.
وقد احتل التنظيم الشعبي والإعداد العسكري موقعًا متميزًا في نشاط المنظمة تحت رئاسته. وإلى جانب العمل المسلح، لم يغفل الشقيري العمل الدبلوماسي وخاصة إرسال الوفود الإعلامية إلى الخارج، حيث أوفدت المنظمة ثلاث بعثات إلى أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، وزودت كل وفد برسائل من رئيس المنظمة إلى رؤساء الدول ووزرائها، وكانت هذه الوفود تقوم بعقد مؤتمرات صحفية توضح فيها مطالب الشعب الفلسطيني، ومعاناة اللاجئين.
وعلى صعيد التنظيم الشعبي، تأسس «اتحاد الطلبة الفلسطينيين»، كقاعدة شعبية من قواعد منظمة التحرير، كما تم تشكيل «الاتحاد العام لعمال فلسطين». كما أقبل الشباب على التطوع في جيش التحرير الفلسطيني الذي أسسه الشقيري داخل إطار المنظمة.
لكن الأوضاع على الساحة العربية قد تغيرت كثيرًا، فكانت لهزيمة العرب في حرب يونيو 1967 آثار سلبية كبيرة على منظمة التحرير، وانعكس ذلك في خلافات ظهرت بين أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة، فتقدم الشقيري باستقالته في ديسمبر 1967، وقبلت اللجنة التنفيذية الاستقالة.
وانصرف الشقيري بعد ذلك للكتابة، وقدَّم عددًا من المؤلفات حول القضايا العربية والفلسطينية تحديدًا، ومن أبرزها: «قضايا عربية»، و«دفاعًا عن فلسطين»، و«فلسطين على منبر الأمم المتحدة»، و«أربعون عامًا في الحياة السياسية».
وفي 26 فبراير 1980، توفي الشقيري في مدينة عمّان الأردنية، عن عمر يناهز الـ 72 عامًا، ودُفن في مقبرة الصحابي «أبي عبيدة عامر بن الجراح» التي تضم عددًا من قادة الفتوحات الإسلامية في غور الأردن، على بعد ثلاثة كيلومترات من حدود فلسطين المحتلة، بناءً على وصيته قبل موته.
- مجموعة باحثين، أحمد الشقيري بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لرحيله، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005).
- عرابي كلوب، "ذكرى رحيل السيد أحمد الشقيري والسيدة سميحة خليل"، موقع دائرة شئون المغتربين، 25 فبراير 2015.
- "أحمد الشقيري.. مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية"، موقع الجزيرة نت، 3 أكتوبر 2004.
- صقر أبو فخر، "أحمد الشقيري شاهد على مرحلتين"، موقع صحيفة السفير، نوفمبر 2011.
- محمد أبو عزة، "أحمد الشقيري.. القائد الفلسطيني المُفترى عليه"، موقع مؤسسة فلسطين للثقافة، 26 فبراير 2012.