في ذكرى الرافعيّ، من هنا يبدأ ما لا يُدرك
أما قبل، فإني عاجزٌ يا سيدي عن الكتابة عنك، وقلمي يهرب خجلاً من تلك المحاولة التي لن توفيك قدرك سيدي؛ ولكنّ الذي جعلني أتجرّأ على تلك الفعلة هو أن يعرف الشباب أن الطريق إلى الفهم والنفس السوية يبدأ من حرفك، وأنّ الحب يبدأ من قراءة جملتين خطّتهما يداك، نبعًا من روحكَ سيدي.
أظن أن سعداً عندما قال عن (وحيك) إنه: “بيانٌ كأنه تنزيلٌ من التنزيل، أو قبسٌ من نور الذكر الحكيم” كان صادقاً رغم قلة مصداقيّته عندي، عرفتك منذ زمنٍ بعيد؛ ولكني لم أحبّك إلا قريباً؛ فبعد التحاقي بجامعة الأزهر بدأت أبحث في الأسواق وبين الكتب القديمة والأرصفة عن شيءٍ يُنمّي ذاتي ويؤنس روحي؛ فقد كنت قبلُ خاويًا من كل شيء؛ أحفظ دون فهم، أدرك بلا وعي، أتحسّس بعض خطى الصالحين ولم أتحسّس طريقي أنا بعد.
ورغم نهمي ببعض الروايات فاجأني صديقٌ مُقرّبٌ بقوله: “هذا ليس بأدب، هل قرأتَ للرافعي؟”، قلت: “لا”، قال: “عليكَ به؛ إنه أديب العربية الأول بلا منازع”، فبدأت أتحسّس الأرصفة، والمدقّات، وبعض الأزقّة خلف الجامع الأزهر وحوله؛ علّي أجد كتاباً لك، فوقع في يدي (أوراق الورد)، فجعل حياتي كلها حبًّا لم أعرف مثله قط.
سيدي، قبلكَ كنت بلا قلب، أحببت لما قرأت لك، أدركت أن قلبي قادرٌ على الحب بعد (زجاجة العطر)، فكنت أحتفظ بالأوراق في حقيبتي الملازمة لي في سفري وترحالي، أقتطف منها بعضًا من كثير، ثم نهلتُ من وحي القلم كثيرًا، وقرأتُ مع أبي (بين خروفين) ليلة عيد الأضحى، ومع حبيبتي (سمو الحب)، ومع أصدقائي في غرف المدينة الجامعية الكثير الكثير.
سيدي، أحببت قرآن الفجر من مقالتك، وزاد حبي لفلسطين من حرفك، وعرفت كثيرًا من النفوس والخبايا بالسير في طريقك، وأدركت كثيرًا كثيرًا من الأمور، قرأتُ كثيراً فما ثبت في ذهني إلا مقولتك، وما حفظت شعراً إلا أبياتك، وأحببت العربية بعد معرفتي بالمعارك التي خضتها لأجلها، حتى صرتُ أميّز كلامك من بين آلاف السطور؛ حتى لو لم ينسبها ناقلها لك.
سيدي، كثيرًا ما فضحتني مقتطفاتٌ من كلامك نقلتُها على مواقع التواصل فقالوا: “أوَ لا يوجد غير الرافعي لتنقل عنه؟”، فابتسمت ولذت بالصمت ثوانٍ معدودة، وبدأت أحدثهم – بنهمٍ – عنك، حتى أن والدتي نهرتني بسببك مرارًا، فبتُّ أقرأ عليها بعضًا من فيضك.
رافقني كتاب (السحاب الأحمر) أيامًا طويلة حتى أحرق مع الجثث، ولعله وقع عند الله بمكان دم الأنقياء الذين استشهدوا في ذلك اليوم، ومع سفري خارج البلاد تركت في مكتبتي بمنزل أسرتي ما لذّ وطاب من الكتب، واصطحبتُك أنتَ وحدك؛ (بوحيك، ورسائلك، وحديثك، وأوراقك، وسحابك، وغيرهم)، يجلسون فوق رأسي، في يقظتي ومنامي، أنهل منهم رغم تقصيري في ذلك.
سيدي، أنا لا أنافق في حبي لك؛ ولكني – والله – تعلمت منك الكثير الكثير، فما يجوز لمثلي أن يكتبَ عنك، وهناك من أصحاب الفضيلة والمقام من يعرفونك أكثر مني، ويحبونك أضعاف أضعاف حبي، بل ويجمعون تراثك غير المنشور، ويجتهدون أكثر ليعرّفوا الناس بك.
أعلم أن حرفي ليس مشابهُا لحرفك، ولا تقدر يداي أن تخطّ جملةً من كلامك، ولعلّ عذري أن يعرفك أحد من كتابتي تلك؛ فيصبح رافعيًّا صغيرًا ينهل الناس منه.
ولدتَ – سيدي – في مطلع العام، فكنتَ المتصدّر دائمًا في الدفاع عن الدين، والقرآن، وقضايا الحق. أحببتَ وعشقتَ وكتبتَ وتطرّقتَ إلى أمورٍ لم ولن يتطرق إليها أحدٌ قبلك ولا بعدك؛ فكنتَ فريداً بكل المقاييس، 136 عاماً على مولدك سيدي، طبت حيًّا وميّتًا يا حجة العرب، ونابغة الأدب، وإمام الكتَّاب، فأنت الحكمة العالية مصوغة في أجمل قالبٍ من البيان.