في ذكرى أحمد خالد توفيق: لماذا أحبه الجميع؟
مضى وقت على رحيل أحمد خالد توفيق، لكنه لم ينته من حياتنا بوفاته، بل ما زال الجميع يردد كلماته، ما زال حبه محفورًا في قلوبنا، لم ننسه، ولا أظن أنه سيحدث، لكن يا ترى ما السر وراء ذلك؟
أحمد خالد توفيق رجل ذو تركيبة غريبة، يتكرر مثله مرة كل ألف عام، إذا كان لكل إنسان درجة يحصل عليها في مقياس الإيجو، فإن د. أحمد تقترب درجته من الصفر، إن لم تكن صفر فعلًا، هو تلقائي جدًّا في كل شيء، لا يحب الافتعال، بل يمقته إلى حد اللعن، هو يعلم جيدًا أن التجمل والافتعال بُغية الحصول على إعجاب القارئ سينتهي إلى مصير أنك إنسان مزيف، وسرعان ما سيذوب جبل التصنع لتظهر طبيعتك الحمقاء، لذا من الأفضل أن تكون صريحًا وواضحًا من البداية، إذا أحبك الناس فهذا خير وبركة، وإن كان غير ذلك فذلك أنت، فلتغير نفسك أو تظل أحمق للأبد، لا بأس.
كان حريصًا على عمله كأستاذ بكلية الطب، وعلى عمله الأدبي، يواسي نفسه بأنه إذا أخفق في الطب تذكر أنه كاتب، إذا أخفق في الأدب تذكر أنه طبيب، لا يخجل من ذلك، بل يصارح قراءه بكل شيء، كثيرًا ما كان يذكر أنه شخص انطوائي وخجول، بل كان في صغره كثير الخوف، لذا كتب في أدب الرعب للتخلص من مخاوفه، لأنك (كما ذكر) إن كتبت مخاوفك على ورقة تضاءلت أمامك، ومن الممكن التخلص منها، ودائمًا ما كان يذكر أنه فشل ولا يزال فاشلًا في اقتحام السينما، وهناك من هم أصغر منه سنًا وأقل إنتاجًا نجحوا في ذلك، لا ضير في تلك الصراحة، لا ضير أن تكون واضحًا جدًّا بكل عيوبك وإخفاقاتك، وكثيرًا ما كان يصاب بسدة الكاتب كما ذكر في كتابه «اللغز وراء السطور»، أي عدم القدرة على كتابة أي شيء، وأنه كان يعيد الكتابة لقصة أو لمقال أكثر من مرة.
يربت على كاهلك دون أن تشعر بأنك لست وحدك من تخفق وتعاني من الفشل في بعض جوانب حياتك، فالكل يخفق والكل يعاني. لقد حطم تلك الصورة المزيفة للمثقف الذى يسكن البرج العالي، الذى يدعي الكمال في كل شيء، ليقول: الكمال زيف.. كلنا بشر نعاني.. كلنا نفشل.. كلنا نمتلك العيوب.. ذكر في لقاء تلفزيوني شيئًا غريبًا، بأنه كان يخاف جدًّا من المقارنة مع الآخرين، ولذا لم يُقدّم أيًا من أعماله في أي مسابقة أدبية، ولما فازت رواية «مثل إكاروس» بجائزة أفضل رواية في معرض الشارقة الدولي للكتاب، ذكر أن دار «الشروق» هي التي تقدمت للمسابقة، ولم يعلم بذلك إلا عندما فازت الرواية.
عندما يصارح القارئ بكل هذا فإنه يُحَيِّد القارئ الذى يريد النقد والهجوم ليدخر جهده بعد ذكر كل هذه العيوب، وفي نفس الوقت يكتسب حب القارئ العادي، لأنه مثله. شخص مثل بقية خلق الله، له ميزات وله عيوب. لم يفعل هذه الاستراتيجية خبثًا منه، لكنها كانت طبيعته.
حطم عصا الأبوة الناصحة التي تؤنب ولا تكف عن التوجيه، ينسف المسافة بينك وبينه بسحر غريب، فلا تملك إلا أن تسلم له تمامًا، لأنه ببساطة لا يكذب، هو ببساطة يتكلم إليك كصديق في منتهى الصدق وفي غاية الشفافية، صديق يقدرك، عنده خبرة عميقة وروح مليئة حياة.. صديق كهذا حتمًا ستعشقه.
اللغة الإنجليزية لديه رائعة، وقد ترجم بعض الروايات مثل رواية «نادي القتال» و«1984»، لكن لَكْنته ما زالت تشي بأنه من ذوي «التعليم المجاني»، لكنته تقول نيابة عنه للقارئ البسيط أنا قريب منك، كلانا تعلم في نفس المدارس الحكومية. وأظنه لم يسع لتغيير لكنته، فكل من يتكلم بلهجة إنجليزية كأصحاب اللغة الأصلية في الغالب هو من خريجي المدارس الخاصة (بتاعت أولاد الناس).. أما أنا وأنت فأولاد الناس الطيبين، أولاد الناس الفقراء، جدير بالذكر أن الشعب كله أصبح الآن من الناس الطيبين.
أصر د. أحمد على عدم ترك طنطا موطنه الأصلي لينتقل للعاصمة، فهناك استعلاء ضمني لقاطني العاصمة بأنهم الأفضل، الأعلى بريستيج، الأكثر ثقافة، ليتكون حاجز بينهم وبين «الفلاحين» قاطني الأقاليم. رفض الانتقال، وأصر على رفض هذا الطلاء الكاذب للقاهرة، ستستطيع أن تنجح من أي مكان لا يهم هذا الطلاء إطلاقًا، بل العاصمة لعنة بما فيها من زحام وعوادم وضجيج.. لن أرحل من طنطا، وسيأتي نجاح العاصمة لي هنا!
أبطال رواياته أناس بسطاء عاديون مثل د. رفعت إسماعيل، رجل عنده أمراض الدنيا، نحيل، صحته كرب، عصبي، ثرثار، هذا هو البطل لسلسلة «ما وراء الطبيعة»، أحد أهم أعماله، تشعرك بأنك ليس من اللازم أن تكون فظيعًا وخارقًا لتصير بطلًا.
الحياة بسيطة، والجميع لديه مشاكل، يقول لك بشكل ضمني: الجميع يفشل، يخفق، يحزن، ينجح، يكتئب، يضطرب.. ليس هناك ملائكة، كلنا أبناء الحياة الصعبة وكلنا نتعذب، وكلنا نفرح.. هون على نفسك ولا تأخذ أمور الحياة بمحمل الجد هكذا.. اسخر من إخفاقاتك، هذا سيساعدك على تجاوزها. أنت لا تستطيع إلا أن ترتمي في أحضان كتابة رجل كهذا، يعينك على البقاء في حالة هانئة أكثر.
أما عن الموهبة والأسلوب، فإن أسلوبه لا يُمل، مسلٍ لأبعد حد. موهبة في غاية الإيناس، والحقيقة أن هذه الصفة بوابة حب الكاتب الأولى، سواء في كتابة المقالات أو القصص أو الروايات، أنت ستستمتع لا مناص، وأيضًا ستستفيد، وهنا أستعير قول أحد محبيه وهم كثير جدًا: «كان يدس الورد في العسل».. في ثنايا رواياته سيفتح آفاقك وستخرج بشيء جديد مفيد، معلومة طبية، معلومة تاريخية، كتاب جديد، أديب لم تسمع عنه، شاعر فذ لا تعرفه وهكذا.. حتمًا ستخرج بجديد.
من عوامل نجاحه في الكتابة أيضًا أنه كما ذكر، كان يقيم خطوط اتصال دائمة مع كل مراحل حياته، طفولته ومراهقته وفترة نضجه، ويحسن استدعاء ما يريد من مشاعر في كل فترة ليستخدمها في الكتابة.
كان كثير القراءة، وكما ذكر: «لقد قرأت كثيرًا جدًّا، وأنا في حاجة لأن أفرغ ما قرأت»، وكان يتعجب من كتاب الروايات الذين لا يقرءون، فقال ساخرًا :
يرى د. أحمد أن سر النجاح في الكتابة الموهبة والصدق، ولكي تكون صادقًا يجب أن تكتب لنفسك في المقام الأول، يجب أن تعصر وجدانك لترتسم العصارة حروف على ورق، التصنع في الكتابة أسوأ شيء.. قال لـ«عمر طاهر» في آخر حوار معه قبل وفاته بأيام:
يسرد بشكل عجيب أمراضنا النفسية ونقاط ضعفنا، لتجدها مرسومة على الورق كأنما له في قلب كل منا شيطان يخبره بأسرارنا، وزلاتنا. وقتها تُحدث نفسك بصمت شديد: أنا لست الوغد الوحيد صاحب هذا المرض، هناك أيضًا غيري، وتبتسم ابتسامة خفيفة وخفية وتقول لنفسك: لا بأس، لست بهذا السوء الذي أتخيله.. د. أحمد يقول في كتاباته: لا داعي لأن ننكر عيوبنا، هذا يحمل النفس مؤنة العيب ومؤنة كتمانه.. ولا يخبرك بالحل في الغالب، يترك ذلك لك، فأنت لست بهذه السطحية ليخبرك بكل شيء.
كل هذا يجعل منه كاتبًا عظيمًا وأديبًا بارعًا، لكن ما جعله رمزًا لجيل بأكمله هو موقفه في الحق، فلم يرسب في اختبار الضمير على حساب المصلحة الشخصية، أعلن في وضوح تام أنه ضد البطش والظلم، وكانت تحليلاته دائمًا في صف الحق والحقيقة، وليكن ما يكون؛ هذا ما جعله رمزًا ومصدر إلهام، فكان فيه العزاء في مثقفي العصر الذين باعوا ضمائرهم وذممهم لأجل دقائق على شاشة التلفاز أو مزيد من المال نظير تدليس أو كذب أو نفاق. ذهب د. أحمد خالد توفيق وبقيت كلماته، وبقيت روحه، وبقيت إلهاماته، فقد ربّى جيلًا بأكمله.
رحم الله أحمد خالد توفيق.. فقد (جَعَلَ الشباب يقرءون).