في حب الكتابة
ما زلت أذكر أول يوم بدأت فيه الكتابة، كنت وقتها في الثانوية العامة وكانت تحت أثر ضغوط كثيرة، في أحد الأيام شعرت بألم لا يطاق وما كان البكاء ولا الصراخ يكفي لكي يزول هذا الألم.
دون أن أدري أمسكت القلم وأحضرت (أجندة) قديمة وبدأت أكتب .. أكتب كل شيء وفي أي شيء، أكتب الصراخ والبكاء كلمات سريعة ومضطربة آملاً أن يسكن القلب ويزول ذلك الألم، واصلت الكتابة كل يوم، نصف ساعة أو ساعة أكتب فيها ما يريحني أو ما تهدأ به نفسي، بخط رديء وبلا تنسيق ولكنه كان أنا .. هذه نفسي أكتبها فأرتاح حتى أكتب مرة أخرى في اليوم التالي.
لم يكن هناك موعد للكتابة، فالموعد هو إلحاح العقل أو اضطراب القلب، أحضر أوراقي وأمسك بالقلم وأكتب حتى إذا كان ذلك التنفس الهادئ وخفوت ذلك الفوران (العجيب) في صدرك يسكن القلب وتتوقف.
مع مرور الوقت لا تكفي قصصك الصغيرة للكتابة، بلا شعور وتحت وطأة نشوة الكتاب ونهم القلم وجوع الأوراق، تبحث عن الحكايات والمشاعر والخواطر في كل شيء حولك .. تسير في الشارع تتأمل كل شيء.
يتحول الناس وانفعالاتهم؛ صور وكلمات ترددها في رأسك حتى إذا عدت للبيت أخبرت أوراقك كيف كان يومك، بائعة الذرة تكتب عنها أسبوعا، وبائع البطاطا وابنه المريض تستغرق شهرا حتى تستطيع أن تكتب حكايته، عساكر الأمن وحالهم الرث أثناء تبديل الوردية الساعة 12 ليلاً، أمك التي أغضبتها وأبوك الذي ينتظر منك حالاً أفضل، الشوارع التي تتبدل والعمارات الجديدة التي تعلو والأرض الزراعية حول بيتك يجرفونها لكي يصنعوا طريقا جديدا ومباني أكثر.
تكتب لنفسك، لا تريد أن يرى أحد كلماتك، تخبىء الأوراق وتدعو الله ألا يجدها والداك ويقرآ ما فيها، هذه ذاتي أحفظها سطورًا لا أريد أن تبوح لغيري بحقيقة نفسي!
مع مرور الوقت تكتشف أن الكلمات تعجز عن قول كل ما تريد، صورة الواقع من حولك ومشاعرك التي تضطرب لا توصفها الكلمات كما ينبغي، البون شاسع بين حقيقة ذلك الألم وقدرة الكلمات على الوصف.
ومن هنا كانت القراءة، تتصفح ما كتب الآخرون، كيف باحوا بهذه الحكايات والصور؟ تتأمل الجمل والكلمات وتحفظها في ذاكرتك، تكتشف عالما جديدا من المعاني والعبارات التي تقترب بشدة مما تريد أن تقوله.
ترى عالما من البشر المبدعين قد سطروا حياتهم وحكايات أشخاص التقوهم أو سمعوا عنهم روايات وقصصا وسيرا وأفكارا ومقالات .. مع الوقت ينشأ رصيدك الخاص؛ هذه الكلمة للحزن الشديد وهذه العبارة عند الانبهار وهذه للغضب وأخرى للإيمان ولكن تبقى أحاسيس كثر ما زلت لا تدري ما الذي يصلح لها فترتجل.
يتحول العالم إلى ألم ومعاناة ثم كلمات في حكايات أو مقالات أو جمل متقطعة لا يقرأها أحد غيرك، ظمأ شديد للمعاني في كل ما يحدث حولك، رغبة مجنونة في سبر أغوار الأنفس وما وراء أفعالها من حولك، تود لو أن تشق قلوبهم وتعرف حقيقة ما بداخلها رغبة في فهم البشر .. من أن يأتي كل هذا الألم؟ .. كل هذا الغضب .. كل هذا الكبر .. كل هذا الظلم .. كل هذا الجبن .. كل هذا الضعف .. كل هذا الإيمان والطيبة والود .. وتظل الحياة أسمى من أن يصفها أي قلم أو تحتويها أي كلمات.
كانت ثلاثية محفوظ أول ما قرأت من الأدب، نهم شديد لكي أعرف كيف ستنتهي حياة السيد أحمد عبد الجواد وأمينة وهل يؤمن كمال من جديد؟ كان الزمن هو النظم الذي يحرك كل شيء في الرواية وهو الذي تدور حوله الكلمات والعبارات ورغم أن الرواية تركت في نفسي أثراً لم ينمحِ إلى الآن إلا أن شعوراً بالغربة لازمني طوال فترة قراءتها وللأسف تكرر نفس هذا الشعور كلما قرأت رواية أخرى لنجيب أو غيره من المصريين!
ثم تعرفت على ديستوفسكي في الجريمة والعقاب، ولا أنسى أبدا فتنتي بكل جملة وكل وصف وكل حوار، أقرأ الرواية وأود ألا تنتهي .. أن تمتد وتمتد طوال حياتي، كانت المرة الأولى التي أعرف كيف يكتب فيها الإنسان إيمانه أدبًا وأن يحول نصوص كتابه المقدس جزءاً من حكاية الناس دون أن تكون وعظًا أو شيئًا مملاً.
والأعجب أن ذلك الشعور بالغربة كان أقل كثيرًا مما لازمني عند قراءة نجيب، بل شعرت أن الحيوات التي رسمها ديستوفسكي أقرب لنفسي من غيرها في قصص كتابنا .. لربما كان السبب أنني قرأت ديستوفسكي وأنا أعلم أنه من غير ديننا وبلادنا فرضيت نفسي بكتاباته في حدود ما تصورته، وعلى العكس كنت أتوقع من كتاب بلادنا أكثر فلما شعرت بالخذلان أحسست بالغربة.
في الجامعة كانت مرحلة أخرى، تعرفت على ديني بشكل جديد، عرفت عن ابن تيمية وابن القيم وابن كثير والغزالي وسيد قطب وابن الصلاح والبخاري وغيرهم، أما كتاب معالم في الطريق فكان له الأثر الأعظم ولا يزال .
ولأن الإنسان أسير ما يقرأ، بدأت خواطري وأفكاري تنطبع بهذه القراءات من محاولات لفهم القرآن والحديث والفقه، إلى كتابات عن الأمة والجماعة المؤمنة .. صرخات متتالية وشعور بدأ يتسع ليشمل آلامًا أكبر من آلام المدينة الصغيرة أو حتى آلام البلد التي أقيم فيها؛ خروج إلى آفاق أمة وشعوب بين مطرقة حاكم ظالم وطائرات عدو لا يرحم.
العجيب في هذه المرحلة هي انفتاح النفس لاستيعاب تلك المآسي والظمأ المتجدد لمعرفة المزيد دون ملل وإن تخللتها لحظات اكتئاب، ولا أدري هل لأنه كان هناك أمل في حدوث شيء ما، ثابرت النفس ووصلت تحملها لقسوة مني في إيلامها حتى ينبض القلم بالكتابة! فلم أعرف الكتابة إلا من رحم الألم.
يمر الزمن وتضيق نفسك بما تحفظه مما كتبت، تود أنه لو كان هناك من يشاركك إياها. تبحث عمن تحكي له حكاياتك ومشاعرك .. تأمل لو أن هناك من يحمل معاك تلك الكلمات ويخفف عنك وطأة المشاعر ولعله يعجب بما سطرت على الأوراق .. في البدء كانت الكلمة وما بقي أثر لبشر بمثل الكلمة المكتوبة وما كان ذلك لولا أن حملنا أسرارنا وأفهامنا للناس دون خجل نطلب منهم أن يطلعوا عليها ويصدروا أحكامهم آملين أن تكون – فقط – رضا وقبولا وإعجابا!!
تعرفت على مجموعة من محبي الكتابة في قصر ثقافة مدينتنا الصغيرة؛ شعراء وكتابا قصصا وروايات، ظننت أنهم أكثر من سيقدرون ما أكتبه وأنهم أهل لأبوح لهم بأسرار ما أراه من حولي وما يفيض به قلبي .. فكانت الصدمة الأولى.
قد تكون المشاعر عظيمة ولكن الكلمات قاصرة والصور متهافتة والجمل مقطوعة الأوصال .. لست أول من يكتب وهناك من كان لديه المشاعر وأحسن كتابة فهو أحق بأوقات الناس من مجرد كلمات مضطربة حتى لو كانت من فيض صادق .. ليس كل ما تكتبه يجب أن يطلع عليه الناس.
كانت اللغة هي المفتاح، إن ملكته ربما كان لديك ما يمكن أن تقوله ويقرأه الناس من حولك.
إن الكتابة التي تثور بها النفس ويصنعها اختلاج القلب ويسرع بها القلم محاولا اللحاق بفيض المشاعر، غير الكتابة التي يكتبها العقل وتعرف متى يبطئ القلم ومتى يسرع.
تعرف لأول مرة أن هناك كلمات كتبتها يجب أن تحذفها وأن ليس كل العبارات جميلة كما كنت تتخيل وقت كتابتها، وأن أثر المواقف المختلفة على النفس – وإن تشابه – فلا يعني أن تذكرها في موضوع واحد، وأن الرغبة الملحة في كتابة المشاعر ربما لا تكون مقبولة عندما يقرأها الآخرون.
ليس لذلك المشهد في الفيلم علاقة بأحوال البلد السياسية إلا بما ثار في داخلك في كلتا الحالتين .. تتعلم القص وقطع الجمل وكأنك تقطع من ذاتك، قلق يراودك كلما تفعل ذلك وما عدت تدري أيهما أكثر صدقا؛ ما كتبته في لحظة القلب، أم ذلك العقل الذي يمسك بالمقص يشذب الجمل ويختصر الفقرات.
لكن في النهاية أنت من أردت أن يشاركك الناس أسرارك وبحثت عن لحظة رضا في كلمات من حولك، وما كان ليأتيك رزق دون سعي وألم وتخل عن أمر لأجل آخر.
كان آخر ما تعلمت من الدروس وندمت عليه، أن حب الرواية والقصة لا يكفي أبدا! وأنني لو أحببت الشعر ووقر في قلبي لكانت ناصية اللغة أسهل وأصدق فيما أريد أن أبوح به.
ذلك أن الكثافة في الأبيات القصيرة يحمل من المعاني ما يكفي لكتابة قصة من عشرات الصفحات، ولعل لغة العرب بها من الجمال ما تحمل به المعاني الكثيرة في كلمات قليلة .. والعربية أكثر حبا للشعر عن الرواية.
ولكن قلبي أحب القصص والروايات والحكي الطويل والإسهاب في الوصف، وربما فات الوقت وربما كان هذا ما أستطيعه .. لكن يبقى ذلك الوله بالكتابة ولو لنفسك بعيدا عن الناس؛ نبض يشعرك بالحياة ومشاعر تتحدث إليها كلما قرأتها وتخبرك مما عجزت عنه وهي محبوسة في نفسك .. لولا السطور لضاق الصدر وكثرت الندوب فالقلم – بعد الإيمان – عون على حياة نستمر فيها ويأس نمنعه أن يتملكنا.