في حب حسين عاشور
في عام 1979م (1400هـ) ولِدَت مجلة المختار الإسلامي، أحد أهم الروافِد المعرفية والإخبارية لما عُرِف تاريخيًا باسم «الصحوة الإسلامية». وهي المجلة التي قُدِّر لها آنذاك أن تكون صوت الحركة الإسلامية العالمية الناطِق بالعربية. كان شيخنا الأستاذ حسين عاشور -رحمه الله- يحلُم منذ كان في قبضة الناصرية مأسورًا بمجلة «إسلامية»تُضاهي مجلة: «رديدرز دايجست»الأمريكية، وطبعتها العربية التي كانت تُنشَر تحت عنوان: «المختار». وبعد عودته من مهجره الاضطراري وتأسيسه لدار النشر بعدَّة سنوات، سنحت الفرصة لتأسيس المجلة، وهو الحدث الذي دوَّت أصداؤه في أنحاء العالم الإسلامي، حتى همَّ وزير الثقافة المصري آنذاك بمصادرتها، رغم سياسة مؤسِّسها في البُعد عن الإثارة وتجنُّب الاصطدام بالسُلطة مع بث ما يُريد بلغةٍ هادئة. إذ بين عشية وضحاها صارت المجلة التي أريد لها الهدوء، ضمير الصحوة الإسلامية وصوتها الجرئ، فقد ولِدت في ذروة نشاط الحركة الإسلامية في شتى أنحاء العالم. إذ شَهِد عام تأسيسها انتصار الثورة الإسلامية في إيران، واجتياح السوفييت لأفغانستان واندلاع الجهاد ضدهم، إضافة إلى حادث استيلاء جماعة جهيمان العتيبي على الحرم المكي.
وكأن القدر قد أراد للمجلة غير ما أراده صاحبها، ألا تمُر كالدوريات الثقافية الخامِلة، بل أن تصير صوتًا مدويًا للحركة الإسلامية التي كانت تمور آنذاك في كل مكان. رُبما أراد صاحبها غير ذات الشوكة، لكن الله أراد أن يحق الحق ويبطِل الباطل، فسخَّر المجلة وصاحبها لذلك، حتى تجاوز توزيعها المائة ألف نسخة شهريًا خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين. صحيح أن صاحبها كان يجتر تجربة الاعتقال تحت الناصرية حين رسم لها سياسة هادئة، إلا أن مثله مثل كل الجيل وقتها، ومنهم أستاذنا كليم صديقي، رحمه الله، لم يستطع أن يبقى على هدوئه، والحركة الإسلامية تنتفض في كل الأرض، لتولَد المجلة كبيرة بمواقفها الشجاعة في الدعم غير المشروط لكافة أطياف الحركة الإسلامية في شتى البقاع، بغض النظر عن المذهب أو التنظيم وبدون النظر لسخافات العِرق واللغة، خصوصًا دعمها الحاسم للثورة الإسلامية في إيران وللجهاد في أفغانستان، واقترابها الحميم والمبكِّر من تجربة الحركة الإسلامية السياسية في تركيا. لتعكِس المجلة نفسية صاحبها الحُرَّة وأنفته وصدقه وإخلاصه وتخفُّفه من الأهواء التنظيمية والوساخات الحزبية، بدل أن تعكِس مخاوفه الأمنية المكبِّلة.
وقد تجاوز أثر المختار الإسلامي قوَّة وتأثير مجلة الاعتصام الرائدة التي أسسها أبوه إبان ثلاثينيات القرن العشرين لتنطِق بلسان الجمعية الشرعية، وفاق مجلة الدعوة التي كانت لسان حال إخوان التلمساني المسلمين. بل كان التلمساني دائم انتقاد القائمين على مجلة الجماعة لشيخوخة روحها وافتقادها للحرفية المهنية والجرأة والحيوية، التي تمتعت بهم المختار الإسلامي، حتى أثار ذلك ضغائِن الكثيرين. إذ كيف ينجح فرد وحيد كانوا يسخرون من عدم تلقيه لتعليمٍ جامعي في خلق وإدارة مجلة طليعية، بل وتيار ومدرسة صحافية جديدة، يتجاوز أثرها المؤسسة الإخوانية العتيدة والكامنة خلف مجلة الدعوة.لقد كان الحاج حسين سباقًا رائدًا في مجاله، فسافر مثلًا إلى أفغانستان في بداية الجهاد، والتقى عبد رب الرسول سياف، وحاور ثلة من المجاهدين الأفغان، وكان للمجلة السبق في نشر مثل هذه الحوارات في وقتٍ جد مبكِّر.
والحق أن المجلة مثَّلت ما يُشبِه الجامعة لتخريج الكوادر الصحافية والإعلامية للحركة الإسلامية، بعد أن كانت هذه مسألة لا تكترِثُ لها الحركة، رغم تعدُّد إصداراتها من الدوريات والمجلات منذ ثلاثينيات القرن العشرين. بل صارت جامعةً فعليّة ووحيدة لتخريج أجيال من الصحافيين والكتاب والباحثين والمفكرين المصريين والعرب من شتى اتجاهات وأطياف الحركة الإسلامية، اتساقًا مع شعارها: «مجلة كل المسلمين»، جامعة كانت تُخاطِب أكثر من مائة ألف أسرة شهريًا بما تحويه من ملاحِق مُستقِلَّة توزَّع مع المجلة مجانًا، ملاحق مُخصَّصة للمرأة وللطفل (مُلحقي هاجر وزمزم)، فضلًا عن ملحق «المسلم الواعِد»الذي خُصِّص للشباب.
وقد ارتبطتُ بالمجلة منذ وقتٍ جد مُبكِّر كأننا توأمٌ ملتصِق، ولم أكن أعرِف أن هذا الحُب سيكون له ما بعده. إذ كان أبي -متَّعه الله بالعافية – يحرِص على اقتناء المختار الإسلامي منذ عددها الأول، والذي صدر في نفس العام الذي ولِدتُ فيه. وقد طالعت جمهرة أعدادها القديمة في مكتبته، ثم تابعت ما تلى ذلك من الأعداد التي ظللتُ أبتاعها أنا طوال عشرين عامًا تقريبًا، فشكَّلت قسمًا لا بأس به من وعيي. وفي مطلع القرن الحادي والعشرين، أرسلت لشيخنا الأستاذ -رحمه الله- مقالًا شديد الطول على فاكس المجلة، وظللت شديد التحرُّج من السؤال عن مصيره حتى تغلَّبت على خجلي وقصدت معرض القاهرة للكتاب بعدها بعدَّة أشهُر للتعرُّف إلى المُعلِّم المجاهِد. وقد كان، رحمه الله، لطيف المعشر سريع البديهة حاضر النكتة، فأذاب حواجز العُمر والخبرة سريعًا وطلب إلي الاضطلاع بمهمة تحرير وإعداد بعض المواد للنشر، وظللت أؤدي هذه المهمة لعدَّة سنوات دون مقابِل مادي أو أدبي، بل وما زِلت أعجب لأني لم أكترِث حينها لهذا المقابِل، إذ لم يُنشَر اسمي على المادة التي كنت أعدّها للنشر إلا بعد فترة طويلة من التدريب كان أكثر المادة التي أحررها لا يُنشَر، لأدرك بعدها أنه كان تدريبًا كثيفًا طويل الأجل. وكانت أعظم مكافأة تلقيتها حين أوشك ذلك التدريب على نهايته، هي أن يُطبع اسمي أول ما طُبع في حياتي على أحد الحوارات التي أعددتها للنشر في المجلة التي نشأت بين صفحاتها.
ورغم أن دار نشر المختار الإسلامي تأسست عام 1973م، وكانت هي الحبل السُري الذي تغذَّت منه المجلة سواء في أويقات الرخاء أو حتى اقتاتت بقاياه في أوقات الشدة، إلا أن المجلة كانت هي روح حسين عاشور ورسالته وطريقه إلى الله، ويبدو أنه سُخِّر لها فسخَّر لها كل موارده، نفسه وأهله وماله، حتى كان هو وأهله لا يجدون القوت أحيانًا كثيرة في سبيل استمرار نشر المجلة. وقد وظَّف لها نجاحه المبهر والمبكِّر في عالم النشر، ثم قررت الدولة تحطيم تجربته وتكالبت عليه الابتلاءات بفقد ولده الوحيد، فما زادته إلا إخلاصًا وعنادًا، وإن كانت أقعدته عن السبق، ورويدًا رويدًا فتُرت همته كذلك عن ملاحقة تطورات هذا المجال حتى بهتت المجلة وخفت حضورها وصارت مجرد نشرة محدودة التوزيع ينصب جل اهتمامها على تتبُّع أخبار الحركة الإسلامية في مصر دون غيرها، خصوصًا تنظيم الإخوان المسلمين، وذلك بالتزامُن مع وصول صديقه مهدي عاكف إلى منصب المرشد.
ورغم شدَّة الإنهاك وتقدُّم الحاج حسين في السن وتكالُب الابتلاءات واعتلال الصحة، فإنه كان يرفُض إيقاف صدور المجلة رفضًا قاطعًا كما رفض الوقوف بأبواب السلاطين لاستجداء ما يحفظ به استمرارها. بل رفض أن ينزِل عنها للإخوان المسلمين حين أخبره جهاز أمن الدولة صراحةً أنهم سيوقفون صدورها إن انتقلت ملكيتها لمن يحوز الإمكانات المادية التي قد تُعيد المجلة إلى سابق مجدها، وذلك في نفس الوقت الذي كان أحد «صبيته»المصريين يحصُل على ترخيص بنشر صحيفة بتمويل سعودي وتنسيق استخباراتي مصري، وقد لقي الشيخ ربه مُعدمًا عزيز النفس وما زال صبيه الآبِق ينشر صحيفته بمال سعودي تحت إشراف نظام العسكر الانقلابي. لقد ظل أمل الشيخ معقودًا في رحمة الله أن يمُد له إخوانه القُدامى يد العون حتى تستمر المجلة في أداء رسالتها، وظل الإخوان يُسوِّفون ويماطلون قبل 2011م بدعوى وجود خيرت الشاطر رهن الاعتقال وعدم وجود سيولة، لكنهم حين وصلوا للسُلطة لم يلتفتوا له مُطلقًا رغم أنهم خسروا كل معاركهم الإعلامية بامتياز وكانوا في أشد الحاجة لكل صوتٍ مخلصٍ، ولو كان صوتًا مُستقلًا من خارج التنظيم. ورغم ذلك كله ظل يُحسِنُ الظن بهم ويلتمس لهم الأعذار ولا يذكرهم إلا بالخير. ظل يُراعي حقوق الأخوة في الله والأخوة في الطريق إلى الله، رغم انفصاله التنظيمي الكامل عن الجماعة منذ مطلع السبعينيات، في حين كان «إخوة الطريق»يتجاهلونه ويتجاهلون جهاده ولا يُبالون بما يُلاقي وهم قادرون على مد يد العون لاستنقاذه.
والمتأمِّلُ اليوم في مسيرة شيخنا الراحل يجِد أنه رغم نشره ما يربو على الألف كتاب وكتيّب تجاوزت طبعات بعضها المليون نسخة، لأعلام أمثال المودودي، والندوي، ووحيد الدين خان، وسيد قطب، ومالك بن نبي، والشيخ عبد الحميد كشك، وأحمد ديدات، ومحمد جلال كشك، والشهيد فتحي الشقاقي، ومريم جميلة، وعبد القادر عودة، فإن المجلة كانت أشد حضورًا في كل لحظات حياته، فكأنها تعكِسُ مسيرة حياته وجهاده، رغم قوة تأثير ما نشره من الكتب والكتيبات التي شكَّلت وجدانات أجيال كاملة، بل وصاغت الصورة التاريخية التي نعرفها اليوم باسم «الصحوة الإسلامية». إذ يبدو أن نشر الكتب كان أداة يفتح بها الباب مُخلصًا لغيره من أعلام الإسلام، أما في المجلة فكان يتدفَّق سيالًا حتى تكاد تراه وتسمع دقات قلبه المكلوم والمهموم بأمةٍ تُعاني لتنهض من كبوتها. ولعل شاهدنا على ذلك آخر ملاحِق المجلة التي كانت توزَّع معها مجانًا بعنوان «كتاب في مجلة»، وفيه لُخِّصت عشرات الكتب لمواجهة ارتفاع الأسعار والتدهور التدريجي لسوق النشر.
إن آلاف الصفحات التي قد تُسوِّدها العبارات الطنانة عن الثبات في مواجهة الابتلاءات، والعض على المبدأ، وصدق الاستعانة بالله والإخلاص له، وإفراده وحده سبحانه بالتوحيد الكامل؛ لتتصاغَر أمام المثل الحي الذي جسَّدهُ الشيخ، رحمه الله، بكل خلجاته. ونحسبه لقي الله على الحق، ولا نُزكيه على ربه. رحِم الله المعلِّم والصحافي والناشِر والمسلم العظيم حسين عاشور، وأسكنه الفردوس الأعلى. اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله.