في سجون إسرائيل: «كريم يونس» 34 عامًا من الأسر والنضال

على خط الهاتف انبعث صوتها كأنينِ آلٍة وترية يعزف لحنَ فراق، قالت وقد لثم دمعُ العينِ نبراتها:

إنها صبحية وهبة يونس، ليست بامرأة فلسطينية عادية جاوزت الثمانين من عمرها وشهدت مآسي الاحتلال منذ النكبة حتى اليوم، فهي إضافة إلى ذلك والدة أقدم الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي «كريم يونس».

منها أردنا أن نسمع حكاية الابن الذي ترفض إسرائيل الإفراج عنه في صفقات التبادل، فانقطع صوتها لبرهةٍ تبعها الكثير من همهمات الافتقاد، ثمّ ما لبثت أن تماسكت لتسرد قصة الفتى كريم الذي غادرها منذ كان طالبًا جامعيًا، وأضحى كهلًا في الستين من عمره خلف القضبان بأمر السجان، وتهاون السلطة والمقاومة معًا في عدم الإصرار على تضمين اسمه إحدى صفقات التبادل.

الطفل المُدلل

كان كريم ثمرة الزواج الأولى لأبويه «يوسف وصبحية يونس»، خرج يُداعب نور بلدة عارة بالداخل المحتل، في 24 ديسمبر/كانون الأول عام 1956. هناك عاش سنوات طفولته الأولى حتى أنهى الدراسة الإعدادية في مدارسها، كانت «الحاجة صبحية» تعد أيامها السعيدة بتلك التي رافقتها فيها ابتسامة كريم (كما تقول)، وتذكر حين بلغ عمره العام أرادت أن تُوثق تلك اللحظة بصورة، فخرجت به إلى مدينة الخضيرة إذ لم يكن في بلدتها إستديو تصوير وقتها، تلك الصورة ما زالت مُعلقة على جدار منزلها تُبصرها كل حين، فتستعيد ابتسامتها وتتشبث بالأمل إلى أن تلقاه حرًا.

لم يكن الابن الوحيد لوالديه بل تبعه ثلاثة أشقاء هم (نديم وحكيم وتميم)، وشقيقتان هما (هالة وفاتن)، لكنّه نال نصيب الأسد من الحب. لقنه والداه جيدًا كيف يكون حب الأرض والوطن، فشبَّ عاشقًا لهما، مُصرًا على حمل لواء الدفاع والمقاومة حتى التحرير، فكان ثائرًا، مُشاغبًا، لا يروقه أبدًا فكرة أن يعيش محكومًا بقوانين الاحتلال وهو الفلسطيني صاحب الحق في الأرض والوطن تاريخيًا وجغرافيًا، لم يكن يخشى شيئًا ولا يعرف معنىًّ للخوف إلا من الله وحده.

هذه الصفات جعلت والده قلقًا عليه، لذلك لم يُصارحه ولا أحد من عائلته بنشاطه النضالي حين كَبُر، واختار البعد المكاني عن عائلته خشيًة عليها من بطش الاحتلال، فبعد إنهائه للمرحلة الإعدادية اختار الانتقال إلى مدينة الناصرة ليستكمل دراسة الثانوية العامة.

رحلة دراسة انتهت باعتقال طويل

التقدير الممتاز الذي ناله الفتى كريم في الثانوية العامة كان البوابة التي عبر من خلالها إلى النضال المُنظم خفية ودون أن يشعر أحد من عائلته حتى أبيه وأُمه، البداية كانت بدراسة الهندسة الميكانيكية في جامعة بن غوريون في بئر السبع، هناك وعلى مدار ثلاث سنوات دراسية اختلط بالعديد من الشخصيات النضالية، وبدأ ينضم تحت لواء «فتح الثورة» وخضع لعميات تأهيل تنظيمية في إيطاليا، وحين عاد مثَّل حلقة الوصل بين المناضلين في الضفة المحتلة والأراضي المحتلة، وأخذ على عاتقه مهمة تزويد المقاومة في الداخل المحتل بالسلاح اللازم للمواجهة وتحرير الأرض التي آمن أنها حقه. تقول والدته بكثير من الفخر:

ويبدو أن الثلاثة عقود ونصف التي مرت على ذلك اليوم لم تنجح في أن تُزيل تفاصيل المشهد من ذاكرتها رغم وهن جسدها المُعتل بالأمراض.

تُشير للتفاصيل وكأنها بالأمس قد حدثت: «جاءوا مدججين بالسلاح والغضب سائلين عن كريم وحين لم يجدوه توعدوا باعتقاله».

تبكي عبر أثير الهاتف وتستكمل: عند العاشرة من صباح اليوم التالي وبينما كريم ملتزم في صفه يتلقى محاضراته بجامعة بن غوريون في بئر السبع، دخل مجموعة من الجنود بزي مدني يسألون عن الطلاب العرب وبمجرد وصولهم إلى طاولته أحكموا على يديه وثاق السلاسل، وقالوا: أنت مُعتقل، فردَّ منتصرًا «خبّروا أمي».

وقتها تسلل الحزن إلى قلبها وما زال لم يُغادره، وبدأت رحلة البحث إذ لم تعرف إلى أي وجهة اقتيد فلذة كبدها، هرعت ووالده إلى سجن اللد فلم يجداه، وقتها تفنن الاحتلال في تعذيبهم نفسيًا بعدم إعلامهم مكان اعتقاله أو مصيره، فطرقوا أبواب كل السجون حتى استقر بهم الحال إلى سجن عسقلان حيث يقبع، لكن لم يُسمح لهم بزيارته إلا بعد أشهر حين بدأت جلسات المحكمة والتي بلغت 27 جلسة كانت الأخيرة فيهم الأقسى والأشد وجعًا بتاريخ 28 فبراير/شباط بعد عام من اعتقاله، حيث حُكم عليه بالإعدام شنقًا، ولبس زي الإعدام لمدة 73 يومًا، غير أن المحامي استطاع أن يُخفف الحكم إلى مؤبد مدى الحياة ومن ثمّ خُفف ثالثًا إلى 40 عامًا بتهمة نقل السلاح من الضفة إلى المقاومة في الأراضي المحتلة، وقتل جندي إسرائيلي.

أسير يحترف الأمل

رغم قسوة ظروف السجن، إلا أن كريم الشاب بالأمس الكهل اليوم، احترف الأمل أبدًا وكان يبثه في نفوس من حوله حتى أمه التي لم تكف عن البكاء طيلة سنوات أسره الماضية ولا زالت تبكيه، كان يُخبرها ألا تحزن فهو واحد من آلاف الأسرى ويومًا ستطرق الحرية بابه وإخوانه في سجون الاحتلال.

لم يستسلم كريم لحكم الأسر المُقدر أخيرًا بـ 40 عامًا، وبدأ من حيث انتهى في دراسته الجامعية، فانتسب إلى الجامعة المفتوحة ليُتمها، رافضًا الاستكانة للعزل والتغييب عن العالم الخارجي، وما لبث أن التحق بتخصص العلوم السياسية والعلاقات الدولية ليحصل على الشهادة الثانية مُضيفًا لنفسه الكثير من الخبرة والثقافة التي ساعدته في خدمة الحركة الأسيرة وتطوير قدراتها التنظيمية خاصة في ظل حالة الإجماع على شخصيته الوطنية الوحدوية الرافضة للابتزاز والمساومة من قبل إدارة السجون.

ومن ثمَّ أضحى مشرفًا ومدرسًا لبعض المواد للطلبة الأسرى الذين سمح لهم الاحتلال باستكمال دراستهم في الجامعة المفتوحة، واستطاع خلال فترة أسره إصدار كتابين الأول بعنوان «الواقع السياسي في إسرائيل»، والثاني بعنوان «الصراع الأيديولوجي والتسوية» بمشاركة الأسير عادل عيسى.

تقول والدته:

صفقات لا يرد فيها اسمه

على مدار سنوات اعتقاله تذبذبت نبضات قلوب عائلته بين أملٍ وأمل مع كل صفقة تبادل أسرى كان يُقدم عليها الاحتلال، أول الأمل كان في عام 1985 بعد عامين من اعتقاله حين تمكنت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة من عقد صفقة تبادل أسرى للإفراج عن ثلاثة جنود إسرائيليين لديها مقابل 1150 أسيرًا فلسطينيًا بينهم 153 أسيرًا لبنانيًا، تقول «أم كريم» وقد أوجعها الحنين:

يجتذب سماعة الهاتف الشقيق «نديم» ليروي مسلسل صفقات تبادل أخرى لم يرد فيها اسم شقيقه الأكبر، وينتقد عجز السلطة الفلسطينية والمقاومة عن الثبات على موقفها بتحرير الأسرى القدامى، مؤكدًا أن الطرفين مُقصرين وعليهم تحمل مسئولياتهم تجاه أسرى ما قبل أوسلو والذين قضوا جُل حياتهم بين زنازين العتمة يُواجهن بأجسادهم عنت المحتل وصلفه، فقال:

وأشار أن والدته وبعد اتصال من الرئيس محمود عباس بأنه قريبًا سيُهنئ كريم بحريته في منزله بقرية عارة، تطايرت فرحًا وجهزت له بيتًا، وبدأت تحلم بلحظة لقائه وتجدد الحلم مع كل دفعة تخرج حتى جاءت الصاعقة بأن كريم في الدفعة الرابعة وإسرائيل تنصلت من اتفاقها مع السلطة ولن تُخرجه وبقية زملائه.

يومها لم يحتمل كريم خيبة الأمل وبعث رسالة للرئيس الفلسطيني محمود عباس جاء بين سطورها كما قرأها علينا شقيقه:

لم يحظ بالوداع الأخير

خلسة تسلل الموت إلى جسد «يوسف فضل يونس» والد كريم بعد أن أعياه المرض وأعجزه عن الذهاب لزيارته في سجنه المُعتم، كان يوم الرحيل قاسيًا على أم كريم فقد اختار القدر ذات التاريخ السادس من يناير الذي اعتقل فيه ولدها ليُغيب أيضًا زوجها أبدًا بعد انتظار الحرية ثلاثين عامًا.

في ذلك اليوم مدَّ عميد الأسرى يده المرتعشة مُعانقًا أيادي الأسرى الذين تمتموا «رحم الله والدك»، كان وقع الألم كبيرًا عليه -كما يصف نديم- خاصة وأن إدارة السجن رفضت أن تمنحه الفرصة الأخيرة لمعانقة جسد والده في الكفن، بعد أن حرمته من معانقته حيًا بتحريره وإنهاء غصة الفراق الطويل في قلبه، يومها لم يقف كريم على قبر أبيه يطلب السماح منه، فقط تنقل بين أسوار الزنزانة المُعتمة وساحة العزاء صامتًا حزين القلب والعينين.

قبل أسابيع دخل كريم العام الرابع والثلاثين في الأسر ؛مما يعني أن ما بقي عليه من محكوميته 6 سنوات فقط، فهل يُمهل الأجل الأم قليلًا حتى تكحل عينيها بنور وجهه قبل الرحيل الأبدي؟، وهل يُمهله أيضًا حتى يرى نور وجهها دون أن يحجبه زجاج الأسر؟!