في رحاب «حدّاد»: على جبل الشوق الرمضاني
أومن تمامًا بأن لكل شيء رائحة، كل شيء لا اقتصار على طعام أو شراب، أعرف رائحة الفرح، رائحة الحزن، رائحة الخوف، حتى رائحة الصيف والشتاء، لا أقصد رائحة التراب أو المطر، بل رائحة الفترة الزمنية ذاتها، رائحة مادية أشتمها وأعرفها جيدًا، كذلك أدرك رائحة السنين بنوائبها، رائحة الأشهر بما فيها، وأشم في كل عام – وإن نقصت – رائحةً لرمضان تفوح من أحشاء الجو، تخرج من ذُرى الساعات والأصوات.
إني لأجد ريح «حداد»!
هو «فؤاد حداد» الذي يثب في البال قسرًا كلما هلّ رمضان، يثب مع ذكر السحور ما إن نسمع أي طارق ينبهنا للصحو فيحل في ذهني على الفور الصوت واللحن والرائحة، «سيد مكاوي» يتغنى بأبيات «المسحراتي» من كلمات فؤاد حداد، وإن كان لدولة رمضان المصرية نشيد رسمي هو «رمضان جانا» فبكل تأكيد ستكون حلقات «المسحراتي» هي ختم النسر الذي يصدق على كل ليلة للمرور حتى تأتي ما بعدها.
كانت كتابة البرنامج الإذاعي «المسحراتي» في أول الأمر موكلة لـ«صلاح جاهين»، حينها تنحى جاهين نفسه عن الكتابة عارضًا اسم حداد الذي رآه أقدر منه على هذا الصنف من التعبير، وافق حداد مرتابًا وشرع في الكتابة فأنهى خمس حلقات بعد جهد كتابي أحس معه عدم القدرة على المواصلة، لكنها كانت البداية وما أصعب البدايات، انفجر حداد بعدها ليكتب ثلاثين حلقة في ثلاثين أخرى ثم يتوقف بضع سنين ويعود ثانية، ثم قصائد متفرقة ليربو حصاد «المسحراتي» على مئات الأبيات.
كتب حداد «المسحراتي» على أوقات متباعدة بدأها سنة 1964 وأكملها سنة 1968، ثم كتب ثلاث حلقات بعد وفاة «عبد الناصر» خاصة برثائه، ثم عاد بعد نصر أكتوبر وكتب حلقات أخرى خاصة بالعبور، وهذا التباعد والتنوع أتاح لـ«المسحراتي» قدرًا أكبر من المقاصد، فـ«المسحراتي» في عموم أهدافها هي دعوة للحاق الفجر، ليس فقط آذان الفجر القائم بعد دقائق ولكن فجر كل شيء، هي نداء لإيقاظ الناس قبل طلوع النهار، ونغز العوام للانتباه لما وصل إليه غيرهم، وإلحاح في الحث على الإمعان فيما حولهم، وتحري التفاصيل جيدًا، تفاصيل المهن والأماكن والأشخاص والأحداث، لتجد في كلٍ منهم وفي أبسط ما فيهم تفاصيل تلخص الدنيا بحالها.
دعنا نقول إن «المسحراتي» في مجملها تخطت فكرة البرنامج الإذاعي الذي يؤديه كما المتعارف أحد «المسلواتية»، وصارت تعبيرًا عن فلسفة حدادية خاصة جدًا، تتناول عديد الجوانب والأركان في الحياة عامة وفي النفس المصرية خاصة.
أحد هذه الجوانب التي أفرد لها حداد مساحة كبيرة تناول مهن الصنايعية، هذا الجانب المصري بامتياز، يتعرض فيها لحرفة ما كالنجار كما فعل في حلقة «دواليب زمان» ويدور حول تفاصيل عمله وشخصه، يستغرق بك في جزئيات الصنعة ويصعد بك رويدًا رويدًا من دائرة الحرفة الصغيرة لتصل بعدها لدائرة وطنية وقومية كبرى، ولا تشعر إطلاقًا بهذا التنقل التدريجي.
حاول حداد أيضًا من وقت لآخر تطعيم حلقاته ببعض الأحداث التاريخية، حيث يقوم بعرض زمني مبسط لها ومن ثم إسقاط هذه الأحداث على العصر، وتجدر الإشارة هنا للحالة السياسية للعالم العربي في هذا الوقت من منتصف وأواخر الستينات، والتي أتاحت له فرصًا أكبر لعرض أي حدث قد يساهم بأي صورة في زيادة لهيب الحمية العربية، والتهابات الحماسة المنعشة التي بالطبع تؤثر في الجماهير خير تأثير.
من حلقة بعنوان «عين جالوت»:
وكان من الطبيعي أن يكون لرمضان ذاته نصيب من المسحراتي، أو للدقة الأكثر كان من الطبيعي أن يكون للجانب الديني في رمضان نصيب من المسحراتي، وفي هذا المجال تحديدًا فلحداد صولات وجولات، كتب مواويل «المديح النبوي» و«الحضرة الزكية» وديوان «طيوف الجنة والكوثر»، وجعل لإنتاجه الشعري محصولًا إسلاميًا لا يُستهان به، لذلك نرى في «المسحراتي» حلقات كاملة بصبغة دينية واضحة كـ«تبارك الله ذو الجلال» و«عمر بن الخطاب» و«ليلة القدر»، نلحظ فيها نبرة روحية هادئة أقرب للابتهالات.
فؤاد حداد حين تأتي لتشبيهه تحتار وتتخير كل موقف لتشبيهٍ بعينه، وفي «المسحراتي» حداد هو الشلال، شلال يستمر في التدفق بلا انقطاع وكأنما يد الله تدفع مياهه بقوى لا تضعف، حتى أني أظن أن حداد حين يشرع مثلًا في قصيدة من مائة بيت قد يستغرق أسبوعًا أو أكثر في أول بيتين، وبعد هذا يتم الثمانية والتسعين الأخرى في ساعة أو ما نحوها، هذه الرأس التي تدفع الكلمات خلف بعضها كحبات الرصاص كان لابد أن تترك لرمضان علامات؛ حداد مر من هنا.
اختار حداد في كتابة «المسحراتي» أسلوبًا يُصَعّب عليه هو نفسه قدرة التدفق هذه، اختار شكلًا أو «فورمة» تتألف من بداية ونهاية ثابتتين تنبعان من النداء الشعبي المتعارف: «اصحى يا نايم وحد الدايم»، وفقرة وسط تتغير بتغير الموضوع، ينهيها بنهاية موحدة مكسوة برائحة المثل الشعبي:
ينتقل بعدها من هذا الوسط المتغير لهذه النهاية الثابتة برابطة اختار لها طريقة الموال واضعًا لها ديباجة ثابتة أيضًا تقذف شيئًا في قلبك قذفًا في حينها.
رهانات «حداد» ما أعسرها
وكما عادة حداد في أغلب كتاباته سار في «المسحراتي» بأسلوبه المميز في الاستدراج، يستدرج بصرك واتقاد ذهنك بمجموعات متدفقة من الجناسات وتلاعبات الألفاظ المتشابهة؛ حتى تشعر وكأن النص كاملًا يسير في سبيل إبهارك اللفظي، لتتفاجأ بعدها دون أن تشعر بمجموعات أخرى من العبارات قد جمعت في طياتها كل ما أوتي حداد من حكمة وثقافة.
تمكنت «المسحراتي» من جمع الحسنيين؛ جمال المقروء وجمال المسموع، بل زد على ذلك أن الجمال في كليهما موجود ومختلف، فحين تقرأ أبيات «المسحراتي» تنقر في قلبك مباشرة كلمات الحكمة المكسوة بالأوزان الخفيفة السهلة، وحين تسمعها قد تنسى أصلًا وجود الحكمة وتغرق في أجواء هذه الطبلة الصغيرة التي تقول وتفعل كل شيء.
من حلقة «تعرفني من صوتي»:
رحلة حداد مع رمضان لم تتوقف عند «المسحراتي» بل امتدت لما بعد ذلك، ديوان آخر وبسمتٍ مختلف تحت عنوان: «طيوف الجنة والكوثر على الطريق الرمضاني»: ديوان فصحى من أوله لآخره، وببعد ديني خالص بعيد بعض الشيء عن تلك الأبعاد الاجتماعية والوطنية في ديوان «المسحراتي»، «طيوف الجنة» من تجارب حداد المنسية التي تستحق أن تخطف بعض الأنظار.
انتقى حداد للديوان أسلوبًا مغايرًا بعض الشيء، فالفهرس هو أقرب لإمساكية رمضان المعتادة، فبدلًا من كلمة «فهرس» استعمل عبارة «عناوين الأماكن والأيام» وحدد المكان بأنه «على الطريق الرمضاني»، ثم وضح الأيام حيث يتألف الديوان من تسعٍ وعشرين قصيدة بعدد أيام الشهر، وأسماها أناشيد ورقّمها على هذا النحو، النشيد الأول، الثاني، الثالث وصولًا لنشيد يوم الوقفة.
أسماء الأناشيد قائمة على طريقة الإهداء أو الاسم المسبوق بـ«إلى»، وبكل استغراق يتضح فيها الاتجاه الديني البحت للديوان وكأنما قد كتبه أحد مشايخ العمود في الأزهر، تأثر واضح باقتباسات قرآنية وألفاظ نورية تجعلك ترى رمضان بحق رأي العين، تجد النشيد الرابع مثلًا يحمل اسم: «إلى كل ما في الكون خاشع لله»، وتزداد الاقتباسات أكثر فترى النشيد العاشر: «إلى السلام عليكم من يتيم ذي مقربة»، ويستمر هذا السياق اللفظي حتى يهدي النشيد الأخير إلى نفسه: «إلى فؤاد عبد الله مسبحًا الله الله».
يشترك ديوان «طيوف الجنة» مع «المسحراتي» في فكرة وضع البداية الثابتة لكل النصوص، فكما يبدأ حداد كل مواضيع «المسحراتي» بالنداء: «اصحى يا نايم وحد الدايم»، فقد اختار بداية موحدة لأناشيد الطيوف أيضًا؛ حيث يستهلها جميعًا بآية قرآنية: «ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كلٌ قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون»، ثم بعد الآية يمهد لك على طريقة راوي حكايا التراث قائلًا: «يقول القلب السليم الفؤاد بن الحداد عبد الله»، ويبدأ تفنيدًا نثريًا بسيطًا قائمًا أكثر على أسلوب الحكاية، مسترجعًا بعض الذكريات المطعمة بالحكمة والسير التاريخية، ينهي هذه الأسطر النثرية القليلة لتجد بعدها النشيد المراد قائمًا بألفاظه السهلة الصريحة والبراقة الخاطفة في آن واحد، وتلك حرفة حداد!
من النشيد السابع عشر: «إلى جنة كل من فيها تغنى كل من فيها اهتدى»
أنتج حداد لرمضان «المسحراتي» و«الطيوف» وعددًا آخر من قصائد متفرقة، وتركنا معهم أو إن شئت قل: تركنا فيهم ليجدد بهم ريح رمضان في نفوسنا، وكأنه يقول لنا: كلما تحسستم غياب الرائحة إليكم الطريق، تعالوا إليّ، أنتظركم على جبل الشوق!