دفاعًا عن “الاشمئناط”!
الأحداث التاريخية الكبرى تأتي ومعها لغتها الخاصة ومصطلحاتها المميزة. فمع ثورة 25 يناير برزت كلمات مثل “الفلول”، “الفترة الانتقالية”، “المجلس الرئاسي”، و”الرئيس التوافقي”. ومع انقلاب 3 يوليو برزت كلمات مثل “الثورة المضادة”، “رئيس الضرورة”، “الخرفان”، و”الحرية للجدعان”.
“المشمئنطون” هي واحدة من الكلمات التي راجت بعد الانقلاب لتسمية وتوصيف قطاع من المعارضين الذين انتموا إلى القوى الثورية المدنية، ثم عارضوا ما حدث في 3 يوليو 2013 وما بعدها، دون أن يكون لديهم بديل جاهز وواضح للمسار الذي قادته القوات المسلحة، والذي انتهى إلى انتخاب المشير عبد الفتاح السيسي رئيسًا للجمهورية منذ عام مضى.
وكما هو واضح، فإن مستخدمي تلك الكلمة يريدون السخرية من هذا القطاع من المعارضين باعتبارهم، عمليًا، متذيلين للإخوان المسلمين الذين أسقط الانقلاب العسكري حكمهم، والذين ينفذون منذ 3 يوليو إستراتيجية جوهرها خلخلة تماسك الحكم القائم بتعطيل أي إمكانية لاستقراره وتحقيقه أي منجزات تساعده في تثبيت أقدامه.
أسعى في هذا المقال إلى تفكيك مصطلح “الاشمئناط”، الذي أظن أن أهميته تتخطى كونه سخرية لذيذة من تيار سياسي. حيث أنه يخفي وراءه تصورًا محددًا عن معنى السياسة وحدودها، معنى لو قبلناه لفقدت السياسة الثورية إمكانيتها كفعل مستقبلي متفاءل يفترض إمكانية تغيير الواقع جذريًا، ولو بعد حين.
عن الاشمئناط
أبدأ بمسألة أرى أنها أساسية من الناحية المنهجية، وهي أنه كما أن الاشمئناط مصطلح يشير إلى مدلول معين توصف به جماعة من الناس، فهو كذلك له دلالات تتعلق بمن ابتكره وروج له. بمعنى آخر: الاشمئناط ربما يقول شيئًا عمن يصفهم، أي عن المعارضين للانقلاب المُدعى أنهم عاجزون، لكنه بالقطع يقول أشياء عمن أطلقوه، أي عن المؤيدين للانقلاب المُدعى أنهم واقعيون وسائرون مع عجلة التاريخ. وفي الجدل بين دلالتي “الاشمئناط” – الدلالة الخاصة بالموصوف والدلالة الخاصة بالواصف – يمكن البدء في تفكيك المصطلح.
الصراع هنا يدور بين معنيين للسياسة، طالما تكرر الصراع بينهما على مدى قرون، بل ربما على مدى آلاف السنين. فلسان حال ناقدي الاشمئناط يقول: إن السياسة هي فن الممكن بامتياز. والممكن هو ما يمكن فعله هنا والآن، حالًا، انطلاقًا من معطيات وتوازنات اللحظة. أما ما عدا ذلك، فهو ليس بسياسة، بل اشمئناط، أي عجز يعبر عن نفسه في صورة انزعاج طفولي من “الواقع الرديء”؛ عجز يصب في الحقيقة في طاحونة قوى أخرى من قوى المعارضة، قوى يرفضها المشمأنطون، لكنها تحصد آثار انزعاج المشمأنطين، لأنها هي القادرة، هنا والآن، على حصد نتائج التململ الذي يخلقه الاشمئناط.
هذا في الحقيقة اتهام مهم ويستحق النظر. فبغض النظر عن رأي المشمأنطين، وأنا منهم، في أصحاب هذا الاتهام، وبغض النظر عن أي كليشيهات أخلاقية نصف بها الذين يعادون موقفنا، يبدو لي أن المشمئنطين لن يكونوا فعلًا أكثر من “ضجيح بلا طحن” إذا لم يسووا حساباتهم مع مسألة معنى السياسة من وجهة نظرهم، وإذا لم يطرحوا رؤية فلسفية متسقة عمّا يظنون أنه سياسة ثورية لها دور حقيقي في تغيير الواقع من جذوره.
في نقد السياسة الواقعية
تحديّ السياسة الواقعية (realpolitik) قديم قدم السياسة نفسها. فطالما ووجهت السياسة الثورية، الموصوفة بأنها حالمة، بهذا التحدي باعتباره يمثل ضربة قاصمة لمنطقها التغييري. إذ تطرح السياسة الواقعية نفسها على أنها عقلانية، أي على أنها رفض للنزق الصبياني الذي يتسم به “عيال مزعجون”، قد يثيرون بعض الفوضى، لكنهم لن يقدروا على زحزحة التاريخ عن مساره الذي تفرضه توازنات كبرى لا حيلة لهم فيها.
فمثلًا إذا اعتبرنا الإخوان المسلمين عقبة كبرى في وجه تقدم مصر إلى الحداثة، وإذا رأينا، كما هو واضح، ألا أحد غير القوات المسلحة قادر على إزاحتهم عن مواقع السلطة، فإنه سيكون من العبث الطنطنة برفض الطرفين، واعتبارهما عدوين متماثلين، ومن ثم طرح شيء ما هلامي، غير واقعي، على أنه بديل ثالث غيرهما. هذا أمر غير ممكن، وبما أنه غير ممكن فهو غير سياسي، بل محض ضجيج طفولي.
بقليل من التأمل يمكننا إدراك معنى أساسي كامن في هذه الفكرة التي تبدو لامعة في الظاهر. المعنى هو طمس الفارق بين التكتيك والإستراتيجية، بين الإمكانيات التي تطرحها لحظة تكتيكية محددة تقاس بالأسابيع والشهور، وربما حتى بالسنوات، والإمكانيات التي تطرحها مرحلة تاريخية أطول، تقاس بالسنوات والعقود. فالممكن هو فقط الممكن الآن، بحساب الساعة.
مثلًا الآن لا يمكننا تصور أن أحدًا غير العسكر والإخوان له القدرة على حسم الصراع السياسي، أو حتى خوضه، ولذا فمن غير المنطقي اختيار أي بديل ثالث عدا الانحياز لأحدهما. هكذا ببساطة.
لكن هذا المنطق المحكم يتناسى أنه قبل شهور قليلة من انقلاب 3 يوليو، الذي أصبح العسكر والإخوان أثناؤه هما البديلان الوحيدان، كان محمد البرادعي وحمدين صباحي، وهما فيما اعتقد لا يُحسبان على الإخوان، يقودان حركة كبرى في الشارع كانت تمثل إمكانية، واقعية بتعريف أعداء الاشمئناط، للتأثير في المسار السياسي ودفعه في اتجاهات مختلفة عما صار بالفعل، لولا أنهما، هما أيضًا، اتبعا تعليمات كتاب الواقعية السياسية الفجة، وقررا ألا أحد غير الدولة القديمة، والقوات المسلحة، يمكنه حسم المعركة ضد الإخوان.
إذن فكما هو واضح، ما كان سياسة واقعية في أواخر 2012 وبدايات 2013، أصبح سياسة غير واقعية بعدها بشهور قليلة. فهل من المنطقي إذن أن نبدل خياراتنا الإستراتيجية من شهر إلى شهر على حسب جدول نتائج مباريات دوري الصراع السياسي؟
أصل العلة في هذا التفكير الذي يدعي أنه واقعي هو أنه غير قادر على إدراك أن المجتمعات الإنسانية تطرح، في أي لحظة، إمكانيات عديدة، بعضها جاهز مباشرة، بمعنى أنه وصل إلى مرحلة نضج تجعله طرفًا أصيلًا في الصراع السياسي الدائر الآن، والبعض الآخر لازال في مرحلة الإنضاج، بمعنى أنه غير مهيأ أن يصبح طرفًا في الصراع الحالي، لكنه مهيأ لأن يستجمع قواه ويصبح، بعد حين، قصير أو طويل، قوة جاهزة بشكل مباشر وعملي.
وهنا نذكر أنفسنا، فقط لأن الذكرى تنفع المؤمنين، أنه تقريبًا كل الحركات الثورية المنتصرة بدأت كتجمع من المشمأنطين المزعجين من وجهة نظر عقلاء الثورة المضادة. تخيلوا معي لو أن ماو تسي تونج أو فيدل كاسترو كانا قد سمعا نصيحة حكماء الثورة المصرية الذين يقولون بأنه لا شيء ممكن غير الانحياز إلى واحدة من القوى المسيطرة في التو واللحظة؛ لو كان قد حدث ذلك لكان ماو وكاسترو قد تحولا إلى ذيلين مستأنسين لأحد التيارات الرجعية، ولما رأيناهما على رأس حركات ثورية نجحت في الاستيلاء على السلطة بعد حين، هذا بغض النظر عن أي نقد لطبيعة ثورتيهما.
وهكذا، فإن اللامنطق الكامن في المنطق المسطح لناقدي المشمأنطين ينبني على قراءة لا تاريخية للتاريخ باعتباره سلسلة من المباريات المنفصلة التي يتوجب عليك تحديد الموقف منها واحدة بواحدة. فلو كان إنبي غير مقدّر له تحقيق نتائج جيدة الآن لن أشجعه، إذ لا يمكنني الصبر إلى نهاية الدوري مدافعًا عنه حيث يبدو أنه مهزوم لا محالة في الدور الأول، وهذا بالضبط لأنني لا أنظر إلى إمكانيات إنبي في الدور الثاني، ناهيك عن السنوات القادمة. موقفي من إنبي سأحدده وفقًا لفرص إنبي اليوم، اليوم فقط، وليس أبدًا وفقًا لإمكانياته المحتملة غدًا أو بعد غد.
انتهازية الحكماء
على أن عقلانية الحكماء المعادين للاشمئناط ليست فقط رؤية خاطئة وغير علمية أو جدلية أو تاريخية. هي كذلك رؤية مناسبة تمامًا للثورة المضادة، أو بالأدق: لمبرري الثورة المضادة من المثقفين الذين كانوا يومًا ما ثوريين.
فقراءة التاريخ على أنه سلسلة من الإمكانيات المؤقتة، قراءته بالتجزئة، هي بالضبط فلسفة انتهازيي اللحظات الأخيرة؛ هؤلاء الذين يركبون القطار في آخر لحظة بعد أن يتأكدوا أنه انطلق.
انظر إلى الدلالة الحقيقية للفكرة “الواقعية” التي تقول إن السياسة هي فن الممكن بالمعنى المحدود المشار إليه سابقًا. الدلالة الحقيقية لهذه الفكرة هي أنه طالما ظلت القوى الاجتماعية (والسياسية) الثورية غير مهيأة، الآن وفورًا، للانتصار في الصراع السياسي، فإنني سأخونها، سألتحق بمعسكر الثورة المضادة. أما لو حققت هذه القوى بعض النجاح، فإنني سأفكر في تأييدها.
أوليست هذه فكرة مناسبة تمامًا لمن أيدوا الثورة فقط حين كانت إمكانية كبرى في الشوارع، ثم باعوها حين أصبحت ضعيفة ومطاردة؟ أوليست هذه الواقعية هي في جوهرها انتهازية انهزامية تراهن فقط على الجواد الرابح الآن وفورًا، بغض النظر عن أي اعتبارات لن نقول مبدئية، بل إستراتيجية وطويلة الأجل؟
هذا التنميق الفلسفي للانتهازية السياسية كان دائمًا أداة أنصاف الثوريين السابقين للقفز من السفينة الغارقة. والأخطر أنه كان أداتهم للانضواء تحت لواء المعسكر المنتصر. وهذا بالتحديد هو ما يدعوني إلى اعتبار نقد هذه الانتهازية الفلسفية شرطًا لتأسيس فلسفة سياسية واقعية بالمعنى الثوري، أي واقعية من منطلق الإمكانيات التاريخية للتغيير الجذري.
وهنا، في هذا المقام، أحب فقط أن أقول إن السياسة الثورية، السياسة القائمة على الوحدة الجدلية بين الإيمان بالإرادة الإنسانية في التحرر والإدراك الكامل للمقتضيات والشروط الموضوعية لهذا التحرر، تبدأ من تحديد الممكن إستراتيجيًا، ثم تنطلق إلى تحديد محطاته التكتيكية، أي تبدأ من الاعتقاد بأن “عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية” ليس شعارًا فارغًا، بل إمكانية تاريخية فرضها ليس فقط اشتياق الملايين إلى تحقيقها، بل تعفن الوضع الراهن، وفشل بدائله المؤقتة، وانفتاح الأفق التاريخي أمام تغيير أكبر مما يظنه الواقعيون المعادون للثورة؛ السياسة الثورية أقول تبدأ من هذه القناعة الثورية، ثم تنطلق إلى فحص المراحل والأوضاع المختلفة، ليس من أجل القفز من سفينة إلى سفينة حسب الحالة، بل من أجل إنقاذ سفينة الثورة وتعويمها مرة أخرى، حتى لو استغرق هذا عقودًا.