باللغة العربية الفصحى: لماذا أزعجنا إعلان «مدينتي»؟
يحين موعد الإفطار الرمضاني، تجلس الأسرة لتناول الطعام بعد سماع العبارة المشهورة «مدفع الإفطاااااار اضرب»، لا يزعجهم الصوت ولا يفزعهم بل يُفرِحهم، ويبتل الريق بالدعوات قبل أن يبتل بماء أو تمر السُنَّة.
وفي أثناء تناولك الطعام تسمع أغنية رومانسية حالمة عن حبيبين وأرض جميلة، بلغة فصيحة، وصوت عذب من مطربة صاحبة أحد أقوى وأعذب الأصوات الغنائية العربية، فيجذبك الصوت لرؤية الإعلان فتنبهر بالصورة، وتسأل عن هذه المدينة الحالمة، ويطرح عقلك عدة تساؤلات منها لماذا تغني أصالة بالفصحى؟ وما المنتج المُعلن عنه؟ وقبل أن تفكر في الإجابة تتفاجأ بصوت فصيح قوي عالٍ أشبه بالصراخ، يفزعك قائلًا: «مَدِينَتِيييي مدينتي… مَدِينَتِيييي مدينتي»، هنا يتملكك العجب وتسأل سؤالًا منطقيًا: «مدينتي؟ كومباوند؟ مش فلسطين مثلًا؟».
اللغة المناسبة للإعلان
النص الإعلاني هو مجموعة الكلمات المستخدمة لإقناع الجمهور المستهدف بالإقبال على السلعة أو الخدمة أو المنشأة المُعلَن عنها، وتُعد اللغة أقوى الوسائل التواصلية القادرة على إحداث تأثير في الفكر والفعل البشري، لذا تحظى باهتمام بالغ من جانب المعلنين؛ وذلك لتحديد العبارات المستخدمة والمستوى اللغوي المناسب وفقًا للجمهور المستهدف، وذلك عن طريق دراسات وإحصائيات عن السوق تكون اللغة ركنًا رئيسًا فيها.
وهنا يُثار التساؤل حول المستوى اللغوي المناسب للإعلان، وهو أمر مختلف عليه؛ فاللغويون يرون ضرورة الالتزام بالفصحى؛ لكونها تمثل هوية وطنية وثقافية ودينية، والمعلنون يرون أن اللغة تحكمها طبيعة السوق المستهدف، دون التقيد بمستوى لغوي محدد أو لهجة معينة أو لغة ما.
وربما هذا الخلاف هو ما جعل لغة الإعلان مجالًا خصبًا للدراسات والأبحاث؛ لأن الإعلان هو أحد الاستخدامات المعاصرة الأكثر انتشارًا للغة، لذا كان محورًا أكاديميًا لدراسة العديد من القضايا، مثل: الرأسمالية، والعولمة، والاستهلاك، والبيئة، والهويات الثقافية، وثورة الاتصالات.
ومع تطور العصر والتقنيات لم يعد الإعلان مجرد وسيلة دعائية، بل صار جزءًا من ثقافة واقتصاد المجتمع، وجزءًا من حياتنا اليومية، ولم يعد يتعلق بالترويج التجاري للمنتجات بل صار وسيلة لتعزيز صورة الفرد والمجتمع، وصارت لغة الإعلان أمرًا معقدًا؛ لما لها من تأثير قوي على المتلقين وسلوكهم، لذا باتت تحكمها اختيارات محددة لتوصيل رسائل، تهدف إلى التأثير على الأشخاص بنصوصها وشعاراتها.
يؤيد ذلك ما توصلت إليه دراسة عن استخدام اللغة الإنجليزية في الإعلانات الهولندية، حيث أثّرت درجة سهولة فهم شعارات اللغة الإنجليزية على تفضيل الهولنديين لها، بحيث فضّلوا الإنجليزية على الهولندية عندما كان من السهل فهمها.
هل اللغة وحدها تكفي؟
اللغة هي أقوى أداة تواصل بشرية، وتنبع قوتها من قدرتها على التأثير على الأفعال والسلوك، وقد توصلت ورقة عمل إلى أن كل عناصر الإعلان مهمة: الصور والألوان والخلفيات والأشخاص والكلمات، هو ما يتطلب الإبداع والذكاء في مزج كل هذه العناصر في إعلان مبهج وجذاب؛ ليقنع المستهلكين بشراء المنتج، انطلاقًا من استخدام اللغة الصحيحة والفعّالة.
فالمحتوى المرئي ذو تأثير كبير على المستهلك، لكن اللغة هي التي تساعد على تحديد المنتج وتذكّره؛ فدلالة الكلمة هي الشعور أو الأفكار التي تقترحها، وليس المعنى الفعلي لها، فمثلًا: كرسي بذراعين قد يوحي بالراحة، في حين أن الكرسي لا يثير أي مشاعر، وهذا ما يعتمد عليه المعلنون؛ فاختلاف المتلقين في تفسير اللغة هو ما يدفعهم إلى الاهتمام بالقوة العاطفية للكلمات التي يستخدمونها.
ورغم أن لغة الإعلان قد تميز المنتج –بغض النظر عن جودته- فإنها قد لا تخلو من الغلو والمبالغة في الكلمات والإيحاءات والأصوات، من هنا يجب أن تكون اللغة بسيطة غير معقدة أو غامضة، وتكون مألوفة وشائعة بعيدًا عن المفردات العلمية والمصطلحات، مع مراعاة ربط المنتج بالأحاسيس والمشاعر؛ لزيادة تعلق المستهلك به، فلغة الإعلانات تجعل المستهلكين يميلون إلى شراء المنتجات سواء كانوا يحتاجونها أم لا، ولهذا صار الإعلان نشاط إقناع جماعي، يعتمد على فن التأثير على الفعل البشري، واستيقاظ الرغبة في امتلاك المنتجات، وصارت اللغة هي قوة الإعلان.
وقد أكد بحث أكاديمي أن التحدي الرئيس الذي يواجهه المعلن هو أن يكون بارزًا في بحر الإعلانات، لذا تجب معالجة لغة الإعلان بطريقة تجعله ممتعًا بدرجة كافية لجذب انتباه المستهلك، وهنا تلعب اللغة دورها.
باللغة العربية الفصحى؟
تبرز أهمية اللغة الإعلامية من كونها جزءًا من النظام اللغوي العام السائد، في ظل أن وسائل الإعلام والإعلان تساهم في استحداث كلمات جديدة، وهجر كلمات مستخدمة أو منقرضة.
وربما هذا هو ما دفع باحثًا أردنيًا إلى القول إن مصممي الإعلانات لا يقيمون للغة العربية وزنًا؛ فبعضهم يستخدم الكلمات الأجنبية، وذلك بهدف جذب المشترين بالمسميات الحديثة البراقة. والبعض الآخر حينما يستخدم اللغة العربية، لا يستخدم الفصحى، ولكن يميل إلى اللهجات المحلية، ظناً منهم أن هذا الأسلوب هو الأقرب لنفسيات الجمهور المستهدف. إضافة إلى ما سبق، فإن استخدام اللغة العربية في الإعلانات غالباً ما يكون مصحوباً بالأخطاء النحوية والصرفية، وهذا يؤدي إلى عدم الارتقاء بلغة الناس.
كل ذلك دفع الباحث للتأكيد على ضرورة أن يكون النص الإعلاني مكتوبًا ومنطوقًا باللغة العربية الفصحى دون غيرها؛ مراعاة لثقافة الأمة ولغتها وهويتها.
وقد توصلت رسالة ماجستير إلى أن هناك عددًا من العوامل التي تؤثر على رؤية المستهلك للإعلان، وإلى جانب اللغة يجب عدم تجاهل مواقف المستهلك تجاه المنتج والعلامة التجارية.
كما أن عوامل أخرى يمكن أن تجعل التسويق غير فعال،منها مثلًا أن يكون صوت الكلمات أعلى من الصور، بمعنى أن صوت الإعلان أبرز من صورته، إلى جانب الفشل في تحديد الجمهور المستهدف، وعدم التركيز على المميزات، فهناك فرق بين النصوص الإعلامية والمقنعة، وبين التركيز على المعلومات والمميزات والتركيز على فوائد شراء المنتج؛ فالعملاء ربما لا يهتمون بالمنتج نفسه لكنهم يهتمون بمعرفة كيف يمكن للمنتج أن يجعل حياتهم أسهل وأمتع.
إعلان مدينتي: ما له وما عليه
جمعت أغنية إعلان مدينتي أسماء لامعة في مجال الغناء، فقد غنّتها أصالة، ولحّنها عمرو مصطفى، ووزّعها فهد، وكتبها «أمير طعيمة» الذي نشر عبر فيسبوك أنها من الأغاني «اللي سعيد جدًا بيها وبفتخر بيها»، وربما ذلك هو ما جعل البعض يرى أن الكلمات جميلة، واللحن راقٍ، وصوت أصالة يعطيها فخامة، لكنها غير جميلة على الصورة والمنتج، كونها دعاية «كومباوند».
ربما أرادت الشركة المعلنة التميز بكونه الإعلان الوحيد باللغة العربية الفصحى، لكن «الخلطة» لم تكن جيدة، وتحول ما كان يُنتظر أن يكون إبهارًا وتميزًا إلى استهجان؛ ففخامة ورقي الكلمات والصوت لم يحققا المردود المنتظر، وقد يكون الخطأ في اللحن «اللي عامل زي الأغاني الوطنية والجهادية»، والذي ركّز على تكرار اسم المنتج «مدينتي» بقوة وكثرة.
ولأن نجاح الإعلان يُقاس بمدى انتشاره والتعليق عليه، و«الكوميكس» التي نُشرت عنه، فربما يكون المعلن قد حقق ما أراد رغم اختلافنا معه، فالدعاية السلبية جزء من الدعاية والانتشار، لذا فالمشكلة ليست في اللغة بل في المستوى اللغوي المستخدم أو بمعنى أدق عدم شيوع هذا المستوى اللغوي في الدعاية والإعلان.
من هنا لا يمكن أن نجزم بأن استخدام الفصحى هو سبب الانزعاج من الإعلان؛ لأن الجمهور اعترض على «الأﭬورة» والتي لا تتلاءم مع إعلان عن مدينة سكنية مُوجهة إلى الطبقة الثرية، التي تحرص على تعليم أبنائها في مدارس «إنترناشيونال»؛ ليتفاخروا بإجادة أولادهم للغات الأجنبية لا العربية، وهو ما أثار التساؤل حول الجمهور المستهدف من الإعلان.
ربما أراد طلعت مصطفى جذب انتباه «الخلايجة» بفصاحة الإعلان إلا أنهم لا يفضلون استخدام الفصحى في إعلاناتهم؛ لأنهم يرون أن من أهم أهداف الإعلان أن يخلق ترابطًا حيًا بين المنتج والمستهلك، وبما أننا نتحدث باللهجة العامية إذن لا بد من استخدامها في الإعلان أو استخدام اللهجة المصرية؛ لأنها خفيفة وذات طابع كوميدي، ومفهومة عربيًا من المحيط إلى الخليج، مؤكدين أن الفصحى عادة ما تُستخدم في الإعلانات الجدية، وتكون كالتقرير.
في النهاية هو مجرد إعلان قد تتفق أو تختلف معه، وهذا الاتفاق أو الاختلاف ربما لا يهتم به المعلنون؛ لأن المهم هو الانتشار، وهو ما حدث، وكل إعلان وأنتم بخير.