في تشريح الهزيمة: الإجابة تخلق مزيدًا من الغموض
ثلاثة عشر عامًا في إسرائيل شملت كثيرًا من التضحيات والآلام. اختفت تلك الأوجاع فور حصوله على المعلومة الذهبية، موعد الضربة الإسرائيلية. أخبر رأفت الهجان قادته بأن إسرائيل ستضرب مصر، والأردن، وسوريا في الخامس من يونيو/حزيران 1967، لكن وقعت الضربة على كل حال.
لم يُتخذ إجراء هجومي واحد، ولم يُتخذ كذلك أي إجراء دفاعي أو وقائي، لينتهي المشهد بهزيمة مهينة للدول الثلاث، ويبقى سؤال رأفت الهجان، ماذا حدث؟
بعد خمسين عامًا على الهزيمة، في ذكرى يوبيلها الذهبي، إن صح أن يكون للهزيمة يوبيل، فضلًا عن أن يكون ذهبيًا، يحاول ستة باحثين أن يجيبوا على السؤال السابق. حاول الباحثون الستة أن يجيبوا على السؤال من ست زوايا مختلفة. لكن قبل أن نستعرض معًا زواياهم المختلفة، عليك أن تعلم أن المؤامرة الخارجية ليست واحدةً من تلك الزوايا كما روّج لذلك محمد حسنين هيكل في كتابه «الانفجار».
اقرأ أيضًا:هل كان «رفعت الجمال» عميلًا مزدوجًا؟ نكسة 1967 تجيب
الفصل الأول، أطول فصول الكتاب، يطرح فيه خالد منصور، الخبير في شئون المجتمع المدني، فرضية أساسية هي أن هزيمة 67 ليست فقط ماضيًا نتعلم من دروسه لكنها حاضر حي. يردف موضحًا مراده أن تلك الهزيمة هي حدث تأسيسي لحقبة ما زلنا نحيا في ظلالها حتى اليوم. لذا فتحليلات هزيمة 67 عامةً، وهذا الكتاب خاصةً، لا يستمد قيمته من سرده لوقائع تاريخية انتهى أثرها، وإنما هو بحث في جذور حاضرنا ومعانيه الكبرى.
يلفت منصور نظر القارئ إلى حقيقة أن الأرشيف المصري الرسمي عن 67 محجوب، بينما تفتح إسرائيل أرشيفها الرسمي لمن يريد الاطلاع على المستندات التي تصف الأوضاع السياسية آنذاك. كما ألمح إلى أن الدولة المصرية تعتبر روايتها عن 67 أمرًا مُسلمًا به لا يجوز نقده ويجب ألا يتجرأ أحد على محاولة تفكيكه، لذا لا يعتمد الكتاب عامةً، وفصل منصور خاصةً، على المصادر المصرية الرسمية، وبدلًا منها يعتمد منصور على كتاب «الانفجار» لمحمد حسنين هيكل، بجانب العديد من المصادر الإسرائيلية.
انتكاسة أم انهيار للمشروع الناصري
هزيمة يونيو/حزيران عام 1967 هي الهزيمة التي يمكنها أن تختزل كل الهزائم الأخرى، هكذا رآها المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، ومنه اقتبس محمد العجاتي، المدير التنفيذي لمنتدى البدائل العربي، في فصل الكتاب الثاني تلك المقولة. تحدّث العجاتي عن تأثير هزيمة يونيو/حزيران على فكرة ومشروع القومية العربية؛ المشروع الذي مثل ركنًا ركينًا في الخطاب الرسمي للدولة الناصرية.
يرى العجاتي أن المشروع العربي لم يعد سوى مشروع احتجاجي يظهر في حال مواجهة الأمة لأزمات فحسب. لكن بعد هزيمة 67، أصبح من الصعب أن تكون القومية العربية مشروعًا مستقبليًا، وأنها لكي تصير قادرةً على النهوض مرةً أخرى عليها أن تكون مشروعًا تصاعديًا يبدأ من الأسفل إلى الأعلى. عليها أن تحل معضلة الأقليات والديموقراطية، بجانب هذا عليها أن تكتسب سلطتها من إنجازاتها الفعلية على الأرض لا من ذاتها كفكرة تتجاوز الأفراد.
يشير العجاتي في فصله إلى نقطتين تتعلقان بآثار هزيمة 67، الأولى فلسطين، حيث يرى العجاتي أن الهزيمة نقلت قضية فلسطين إلى المرتبة الثانية، بينما أصبح تحرير الأراضي العربية المحتلة أسبق في الأهمية والأولوية على تحرير فلسطين. وتأخرت أولوية فلسطين أكثر فأكثر مع كل نكسة داخلية كان النظام القومي يتعرض لها داخليًا، مثل أحداث الأردن 1970، والحرب الأهلية اللبنانية.
النقطة الثانية أن العجاتي يرى للهزيمة آثارًا إيجابية؛ تمثلت تلك الآثار في الخطوات التي تمّت للحد من تغول الأجهزة الأمنية كمحاكمة قيادات تلك الأجهزة. كما يرى أن الهزيمة أدت إلى تغييرات جذرية في المؤسسة العسكرية بهدف تطوير مهنية القوات المسلحة. يستدل العجاتي على نجاح هذه التغييرات بحرب الاستنزاف، حيث خرج مفهوم القومية من شخصنته في عبد الناصر ليصبح تضامنًا شعبيًا مصحوبًا بنقد لعبد الناصر ذاته.
الهزيمة ليست صدفة
يفنّد سامح نجيب، الباحث والمحاضر في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، القول بأن حرب 67 جاءت لضرب المشروع الناصري. يرى نجيب أن الحديث عن المشروع الناصري الناجح هو محض أسطورة، وأنه لا توجد أدلة على وجود مؤامرة خارجية تجاه ذلك المشروع.
يرى نجيب أن سبب الهزيمة هو استبداد النظام الناصري والغياب التام للديموقراطية. هذا بجانب الإدارة الكارثية للحرب الناجمة عن الصراعات التي كانت تدور بين قمم الأجهزة الأمنية المختلفة وبين رئاسة الدولة، أو بين الرئاسة وقيادة الجيش، أو حتى الصراع الشخصي على الرئاسة بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر.
اقرأ أيضًا:انتصارات عبد الناصر وهزائم المصريين
يرى نجيب أيضًا أن ما أدى إلى هزيمة 67 كان ضعف الاقتصاد المصري، فلم تكن الدولة قادرة على تحمل نفقات الحرب. هذا الانهيار أتى من الحرب الطويلة الفاشلة في اليمن على حد قوله، بجانب فشل الخطة الخمسية التي انتهت عام 1965، مما ترك الدولة الناصرية مفلسةً تمامًا. ثم يُعيد نجيب الحديث حول التضارب والتفكك في القيادة فيقول إن هذا التفكك امتد ليشمل عمليات التصنيع والتنمية أيضًا.
القافلة التائهة
المفكر الإسلامي «سيد قطب» (يمين)، الرئيس المصري الأسبق «جمال عبد الناصر»، و«حسن البنا» مؤسس جماعة الإخوان المسلمين
مصطفى عبد الظاهر، الباحث في العلوم الاجتماعية، حاول أن يرصد صعود التيار الصوفي بعد الهزيمة. يعترف عبد الظاهر بأن المجتمع شهد صعودًا ملحوظًا للتيار الصوفي عقب الهزيمة، لكنه يشكك أن يكون ذلك الصعود متعمدًا من قبل جهة إسلامية أو قومية، إذ يفتقر التصوف إلى الرؤية السياسية الواضحة كما يقول.لكن يرى أن صعوده جاء كرد فعل لما لحق بالشعب من يأس بعد الهزيمة، إذا يجعل التصوف الإنسان يعتقد دائمًا أن الحل أن يكون له علاقة مع الله، ومن ثم ستُحل جميع المشاكل.
قسّم عبد الظاهر رد فعل الإسلاميين على هزيمة يونيو إلى قسمين: عنف، وإصلاح. ويرى عبد الظاهر أن جانب العنف قد تبناه سيد قطب، بينما الإصلاح تبنّاه حسن الهضيبي المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين.
بعده، حاول بلال علاء أن يُعيد قراءة هوية الشعب المصري لكن من وجهة نظر عبد الناصر نفسه، ومن وجهة نظر الإسلام السياسي كذلك. يرى علاء أن كليهما، عبد الناصر والإسلام السياسي، متشابهان في فصل كل منهما نفسه عن الشعب الذي هو في رأي علاء مستودع الهوية. لذا صدّر علاء بحثه بمقطع من كتاب «فلسفة الثورة» لجمال عبد الناصر يقول فيه:
من المقطع السابق ينطلق علاء قائلًا إن الشعب يظل عصيًا على القولبة. وإنه سيظل متنوعًا ومتغيرًا مهما حاول العسكريون أو الإسلاميون أن يخبروه أن الهوية قد حلّت فيهم، سواء باختيار التاريخ الذي يبحث دائمًا عن بطل ليقوم بالمهمة، أو باختيار الإله.
اقرأ أيضًا:من الهزيمة إلى النكسة: 5 يونيو 1967 بين الهوية والذكرى
خلُص علاء إلى أن القول بأن الشعب المصري آنذاك كان بأكمله مؤيدًا لعبد الناصر هو أسطورة تمامًا كالقول بأن عبد الناصر قد نجح في إماتة الشعب. ما يراه علاء أن سلطة عبد الناصر استطاعت أن تمحو آثار حركة الناس بشكل دءوب فصار التعرف عليها صعبًا. ويرى أن بكاء الناس على رحيل عبد الناصر كان حنينًا منهم إلى الرجل الذي اعتبرهم قافلة يجب عليه أن يرسم لها خطوطًا محددة، فالناس بكت حينها لأنها فقدت القوة التي كانت ترصّ الصفوف وتُعيد من يخرج عن الصف.
بحث جيد، ولكن..
انتهى الكتاب ولم تنته الإجابة، و احتلال الكتاب لقائمة الكتب العشرة الأكثر مبيعًا في 2017 يشير إلى أن هزيمة 67 ستبقى اللغز الذي يتشوق القارئ دائمًا إلى معرفة أسبابه والكواليس المحيطة به.
يبقى تساؤل مهم: إذا كان الكتاب نفى من البداية نظرية المؤامرة ونظرية الفخ التي تقول بأن مصر دُفعت إلى التصعيد لكي يصبح لإسرائيل مبرر للهجوم عليها، فهل قررت إسرائيل الهجوم على مصر فجأةً؟ لا توجد إجابة واضحة على هذا، لكن يمكننا أن نستشفها من تصريحات للفريق سعد الدين الشاذلي بخصوص حرب 1973، إذ يقول إنه زار الجبهة في الخامس من أكتوبر/تشرين الثاني ليرى هل علمت إسرائيل بنية الهجوم عليها أم لا، ثم يستطرد قائلًا:
أضف إلى شهادة الشاذلي شهادة البريطاني جوردن توماس في كتابه «جواسيس جدعون»، حيث ينقل عن رئيس الموساد آنذاك مير عميت أن موعد حرب 67 جاء بناء على متابعة دقيقة لروتين عمل الطيران المصري.
اقرأ أيضًا:تفكيك أسطورة «الحرب الاستباقية» عام 1967
لذا، فنظرية المؤامرة أو عوامل التأثير الخارجية على السياسة المصرية كانت بحاجة إلى بحث من باحثي الكتاب بدلًا من استبعادها بالكلية. كذلك كان الكتاب بحاجة إلى وجهة نظر أخرى تأتي من كاتب ناصري بدلًا من أن يكتبه عدة باحثين جميعهم على الطرف الآخر من النظام الناصري، ما يجعل الحقيقة الأساسية التي يريد الباحثون جر القارئ إليها، أن النظام الناصري وغياب الديموقراطية هما سبب الهزيمة، محل تساؤل في موضوعيتها.