في حدث فلكي نادر: عبور عطارد أمام الشمس من جديد
لأكثر من ست ساعات اليوم، سيشهد سكان الأرض ظاهرة عبور كوكب عطارد أمام الشمس، وهي ظاهرة لم نشهدها منذ عام 2006، ولن نشهدها مجددًا قبل 2019، وهي تقع بالأساس حين يمر عطارد بين الأرض والشمس، ويصبح من الممكن أن نراه كنُقطة سوداء على خلفية قرص الشمس بعد أن يحجب بحجمه الصغير جزءًا ضئيلًا من أشعتها المعتادة، وهي ظاهرة تحدث أيضًا مع كوكب الزهرة الواقع بيننا وبين الشمس لكن بمعدّل أقل (ولا يمكن أن تحدث مع أية كواكب أخرى في المجموعة الشمسية، والتي تقع بقيتها بعد الأرض، وبالتالي لا يمكنها بحال المرور بيننا وبين الشمس.)
عبور عطارد: اللقاء الصعب!
تشبه تلك الظاهرة ظاهرة خسوف القمر، والذي يحجب أشعة الشمس عنا بشكل شبه كامل حين يمر بيننا وبينها. لكن قُطر الزهرة في الحقيقة أكبر من قُطر القمر بحوالي ثلاث مرات، كما أن قُطر عطارد أيضًا أكبر منه بحوالي مرة ونصف، فلماذا إذن يستطيع القمر حجب قرص الشمس بهذا الشكل أثناء الخسوف ويعجز الكوكبان الأكبر منه عن إحداث نفس الأثر لسكان الأرض؟ ببساطة لأن الكوكبين أبعد عن الأرض بكثير من القمر، وبالتالي يبدوان لحظة عبورهما أمام الشمس كمجرد نقطة (تمامًا كما تبدو النجوم البعيدة كنقاط في السماء رغم أن بعضها أكبر من الشمس مئات المرات.)
يدور عطارد حول الشمس مرة واحدة كل 88 يومًا، أي أنه يمر بيننا وبين الشمس كما يفترض أكثر من مرة في العام الواحد، لماذا إذن لا تحدث ظاهرة عبوره أمام الشمس سوى مرة واحدة كل بضعة سنوات؟ لأن مدار عطارد حول الشمس لا يمر بالتوازي تمامًا مع مدار الأرض، بل هو مائل مقارنة بمدارنا بحوالي سبع درجات، فكما يظهر في الصورة هنا، لا يقع كوكبنا وعطارد على مستوى مداري واحد في معظم أوقات السنة نتيجة ميل مدار عطارد بهذا الشكل، فهو تارة أسفل مدارنا وتارة أعلى منه، وبالتالي لا تُتاح لنا رؤيته مباشرة أمام قرص الشمس إلا في شهرين فقط حين يتقاطع المداران، هُما مايو ونوفمبر.
حين يمر كوكبنا إذن من تلك النقطة في هذين الشهرين، يكون محظوظًا مرة كل بضعة سنوات بوجود عطارد في نفس النقطة أثناء دورانه حول الشمس، وبالتالي تصبح الأرض وعطارد والشمس على خط واحد، وحينها تحدث ظاهرة عبور عطارد، ولذا فالظاهرة كما سجلها البشر على مدار القرون الماضية لا تتم إلا في مايو ونوفمبر وفي النصف الأول من الشهرين بالتحديد.
أما عن عبور الزهرة فإنه حدث نادر أكثر بكثير نتيجةً لأن الكوكب يدور حول الشمس مرة كل 224 يوم تقريبًا، ونظرًا لأن مداره هو الآخر يميل عن مدارنا بحوالي ثلاث درجات ونصف، لا يتسنى لنا مشاهدة عبوره إلا أربع مرات كل 243 سنة، إذ يقع العبور مرتين تفصل بينهما ثماني سنوات فقط (كما حدث عامي 2004 و2012) ثم نضطر للانتظار 121 عامًا ونصف قبل أن يحدث مرتين مجددًا يفصل بينهما ثماني سنوات أخرى (في عامي 2117 و2125) ثم ننتظر 105 عامًا ونصف، وهكذا تتكرر الدورة المعقدة بين مداري الأرض والزهرة كل 243 عامًا!
بالتليسكوب فقط أو على الإنترنت
لسوء الحظ لن نتمكن من رؤية عبور عطارد الضئيل بأعيننا المجردة وفق ما أعلنته وكالة ناسا، ولا يمكن أيضًا استخدام النظارات المعظمة لأنها شديدة التهلُكة للعين إذا ما استخدمت مع الشمس، وتؤدي لفقدان البصر (قاعدة عامة يجب الانتباه لها!). والحل الوحيد كما يعرف هواة الفلك هو استخدام تليسكوب مُضافًا له فلتر شمسي Solar Filter، والذي يحجب جزءًا كبيرًا من أشعة الشمس الضارة، ويتيح رؤيتها في نفس الوقت، تمامًا كأنها نظارات شمس مخصصة للتليسكوبات. أما من لا يمتلكون تلك المعدات فيمكن أن يتابعوا الحدث على الإنترنت عبر موقع تلفزيون ناسا الرسمي وصفحتها المخصصة للحدث وعبر صفحتها على الفيسبوك أيضًا.
يمر عطارد أمام الشمس اليوم بدءًا من الساعة 01:12 ظهرًا بتوقيت القاهرة ويستمر في العبور لأكثر من ست ساعات حتى يتم رحلته عبر قرص الشمس الضخم، لتنتهي الظاهرة في الساعة 18:42 مساءً بتوقيت القاهرة. والظاهرة تنقسم وفق ما أقره الفلكيون إلى خمس مراحل: أولها ما يُعرَف بالملامسة
لماذا نهتم بظاهرة عبور الكواكب؟
بشكل خاص، وفيما يتعلق بمجموعتنا الشمسية، فإن عبور عطارد والزهرة أمام الشمس يعطينا فرصة لدراسة مجالهما الجوي الخارجي والذي تشكله طبقة رفيعة من الغازات، على سبيل المثال حين يمر عطارد أمام الشمس يقوم عنصر الصوديوم في مجاله الخارجي بامتصاص وإعادة بث جزء محدد من ضوء أشعة الشمس يقع لونه بين الأصفر والبرتقالي، وحين يقوم العلماء بقياس مقدار ذلك الامتصاص بالضبط يمكنهم معرفة كثافة ذلك العنصر في جو عطارد، هكذا تقول روزماري كيلِن الباحثة بوكالة ناسا.
لا يعني ذلك بالطبع اقتصار الأبحاث الخاصة بعطارد على رصد تلك الظاهرة مرة كل بضعة أعوام، فقد أرسلت ناسا سابقًا المركبة الفضائية مارينر 10، والتي مرت بالقُرب من عطارد والزهرة ودرست سطحيهما في سبعينيات القرن الماضي، ثم أرسلت مركبة ماسينجر المخصصة لعطارد عام 2004، والتي دارت حول الكوكب الصغير أكثر من أربعة آلاف مرة قبل أن ينفد وقودها وتهوي للارتطام بسطحه في 30 أبريل من العام الماضي، والصورة أعلاه توضح أول ما التقطته كاميرات ماسينجر حين اقتربت من عطارد في مارس عام 2011، وآخر ما التقطته يوم الارتطام.
يستطيع العلماء أيضًا حساب مقدار الانخفاض البسيط في سطوع الشمس نتيجة حجب جزء منها، وهو جزء أصغر من أن نلحظه بأعيننا، أو أن يُحدث أي تراجع ملحوظ في كمية الضوء الضرورية للحياة على الأرض، لكنه مهم للغاية في أبحاث الفلكيين، وهو أكثر أهمية في الحقيقة حين يدرس العلماء الكواكب خارج المجموعة الشمسية. فالمسبار الفضائي كِبلر ، والذي يعكف حاليًا على مسح الكون القريب منا لإيجاد أكبر عدد من الكواكب الخارجية، يعتمد بالأساس على التقاط أي انخفاض ولو ضئيل في سطوع النجوم المحيطة به، وهو انخفاض حين يتأكد حدوثه بشكل دوري يكون على الأرجح بسبب وجود كوكب يدور حول ذلك النجم ويحجب جزءًا من ضوئه بين الحين والآخر.
ظاهرة عبور تلك الكواكب حول نجومها ستحتاج إلى تغطية منفردة وطويلة نظرًا لتعقيدها والاهتمام الكبير الذي تحظى به حاليًا بسبب شغف العلماء والفلكيين المتزايد بإيجاد كواكب شبيهة بالأرض من حيث الظروف البيئية والجيولوجية، وبالتالي أكثر احتمالًا لاستضافة نوعًا من أنواع الحياة التي نعرفها على الأرض، وإذن للحديث بقية في ذلك الموضوع.