في 1937: هكذا أجاب كاتب مسيحي عن انتشار الإسلام بالسيف
مقالة نشرت بمجلة الرسالة سنة 1937م*، يتحدث فيها كاتبها المسيحي** عن شبهة أعداء الإسلام المشهورة «انتشار الإسلام بحد السيف»، فتحدث فيها عن مكانة قوة السيف من قوى الإسلام التي اعتمد عليها في نشر دعوته، ومكانته في الأديان الأخرى، كل ذلك بعين باصرة في التاريخ دون أن يلحق بالإسلام دنية أو يضعه موضع تهمة، حتى إن الأستاذ «محمد كامل حتة» كتب مقالاً في العدد التالي من مجلة الرسالة يعضد فيه مقالة الكاتب فلم يدانِه في عزته بالإسلام.
حقيقة الإسلام، للأستاذ خليل جمعة الطوال
بهذه الحُجة الواهية ينثال على الإسلام خصومُه ليُشوِّهوا جمالَه، وينالوا من روحه الكبرى، وينتقصوا من تعاليمه السامية. وبهذه الحجة أيضًا يتذرَّع أهل الجهالة والزيغ، إذ يَصِمُون صاحبَ الرسالة العربية بالكذب والشعر والكهانة، ويدَّعون أنه مؤسس ديانة بربرية كاذبة، تُنافِي مبادِئُها روحَ الحضارة، وتقف تعاليمُها حائلًا دون تقدُّم المدنية.
ولو أنهم خَلَوْا إلى أنفسهم، ونَفَضُوا عنها غبار التعصب، ودرسوا تعاليم الإسلام، وتدبَّروا آياته في هَدْأَةٍ من أغراضهم الذاتية، لانجابت عن بصائرهم سدف الأَرْجَافِ، ولانْجَلَى عن قلوبهم خَبَثُ الصدور وصدأُ الباطل.
يزعمون أن الإسلام قام بقوة السيف، ويتمسَّكون بهذا الزعم على أنه حقيقة واقعة لا غبار عليها، ولكن فاتهم أنَّ القوَّة التي أعزَّتِ الإسلامَ في بدر، والقادسية، واليرموك، والتي غزا بها المسلمون – على قلة عَدِّهم وضعف عُدَّتِهم وعتادهم – العالمَ، وأمعنوا في جهاته الأربع بالفتح والاستعمار، حتى وَسِعَت إمبراطوريَّتُهم ثُلُثَيِ الكرةِ الأرضية، لم تكن إلا قوَّةَ إيمانِهم بعقيدتهم الجديدة، عقيدةِ التوحيد بالله وعدمِ الشرك به، تلك العقيدةُ السامِيَةُ التي استمرأوا في سبيلها النَّكَباتِ، وتجشَّمُوا الأخطار والمصائب، فما لانت قناتُهم، ولا خضُدتْ شوكتُهم، ولا هانت قوَّتُهم. ولئن قام الإسلام ببضعة أسيافٍ ونفرٍ من الرجال، لقد قاوَمَه أعداؤه المشركون بآلاف الصوارم، وكتائب الأبطال. وما انتصاره عليهم إلا انتصار الحق على الباطل، وما هزيمتُهم أمامه إلا هزيمة القوة المادية أمام قوة الإيمان الروحية.
تبارك الله!، رجل يقوم ضد أمة، فكأنه بقوة إيمانه – وهي كل ذخيرته – أمةٌ بأسرها. فيغلبها حينًا وتغالبه أحيانًا، ثم ينصر الله عبده، ويعز كلمته، فإذا القوم يسارعون فرادى وجماعات ليستظلوا تحت راية حقه، وليسترشدوا بنوره، ويهتدوا بهدايته، وإذا محمد رسول الله، ورجل الحق، وعدو الكفر يقف فيهم خطيبًا عند باب البيت ليعلن فيهم مبدأ الإخاء والحرية والمساواة، فيقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له. صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدميَّ هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش! إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم خلق من تراب. يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم».
تلك هي مبادئ الإسلام السامية التي اهتزت لها أصنامُ الوثنية وهياكِلُها، بل تلك هي عُدَّةُ المسلمين التي فتحوا بها العالم والتي لم تُغْنِ عنها «يومَ ثور» جيوشُهم اللجبة الجرارة وأسلحتهم الوفيرة المدمرة.
بمثل هذه المبادئ قام الإسلام يرشد الناس بنور الهداية، وحسن الموعظة، ولم يلجأ إلى السيف إلا دفاعًا عن حوزته، وإشفاقًا على رسالته، من أن تصبح مُضْغَةَ استخفافٍ يلوكها أهلُ الكفر والإلحاد مدى العمر. وأيُّ شريعةٍ سماويَّةٍ جديدة قامت ولم يؤيِدْها السيفُ في انتشارها؟، أهي اليهودية وقد كانت تأمُرُ برجم كلِّ خارج على الناموس، أم هي المسيحية وما زالت محاكمُ التفتيش بأقبائها المروِّعَةِ المُظلِمَة يتردَّد صداها في الآذان، وترتعد من فظائعها الأبدان؟
ولمَ نذهب بعيدًا في الاستدلال والتاريخ مُفعَمٌ بذكر الكثيرين من ضحايا المسيحية – أو قل على الأصح إنكشارية المسيحية – ومجازِرِها؟، وحسبُك منها مجزرةُ القِدِّيس «سان بَرْثُلُمو» التي قُتِل فيها (٢٥٠٠٠) نفسٍ، ومجزرةُ شارلمان بقبائل السَّكْسُون التي سالت فيها الدماءُ البريئةُ أنهارًا، وما ارتكبتْه جيوش فيليب الثاني ملك إسبانيا وحامي ذِمارِ الكاثوليكيَّة في هولندا من الفظائع وضروب التمثيل التي تهتز لهَوْلِها الرَّواسي، وتشيب لمنظرها النواصي، وما فعله الإمبراطور فرديناند الثاني وهو من أسرة هَبسبُرج حين حاول أن يستأصل شَأْفَةَ البروتسينتية في ألمانيا، فأرسل إليها جيوشَه اللَّجِبَةَ التي أخذت تُعْمِلُ السيفَ في الرِّقاب والعِباد، والنَّهبَ في البلاد؛ واختلَّ الأمنُ، فأُبِيحَتِ الأعراض، وأُزهِقَتِ النفوسُ البريئةُ، وخَرِبَ خمسةُ أسداسِ المُدُنِ والقُرَى الألمانية، وتناقصَ عددُ السكَّان فيها حتى صار أربعةَ ملايينَ بعد أن كان ثمانِيَةَ عشرَ مليونًا.
ولِمَ نذهب بعيدًا وفي الأمسِ تُرَاجِعُ البابا تلك الذكرياتُ المُؤلِمةُ فيبكي وينتحب لها، ولأن أهل رُومِيَّةَ قد أقاموا لـ«بُرُونُو الإيطالي» الذي أحرقَتْه محاكمُ التفتيش بالقَارِ والقطران، في حفل رائع من رجال الإكليروس، تمثاًلا عظيمًا في المكان الذي أُحْرِقَ فيه ضحيةً لتزمُّت العصر، وكفارةً عن حرية الفكر.
ولم تكن البروتسنتية على حداثة عهدها لتختلفَ عن الكاثوليكية بشيء من حيث تفتيشُ الضمائر ومُخبَّآتِ الصدور، واضطهادُ أبطال الحرية الفكرية بالسجن حينًا وبالحرق أحيانًا، فتلك النيران المُخيفة التي التهمت جثة «سِرْفِيتُوس الإسباني» ما يزال مشهدها ماثلًا أمام عَيْنَيْ كلفن وهو في جَدَثِه، وما تزال تلك الذكرى تنتاش جثَّتَه الهامدةَ ورِمَّتَه البالية.
لقد اضطهدت المسيحية على اختلاف مذاهبها خلقًا كثيرًا من ذوي الحرية الفكرية على حين كان الإسلام على درجة بعيدة من التسامح؛ ولنا من أبي العلاء المعري أكبر دليل على ذلك، فقد شك هذا الفيلسوف العظيم في جميع الأديان، واتُّهم بالكفر والإلحاد، ومع كل ذلك فقد عاش آمنًا مطمئنًا على حياته، ولم ينلْه من الحكومات الإسلامية أدنى أذًى مع أنه قد تمادى في كفره وشكِّه لدرجةٍ تكفي للحكم عليه بالقتل والحرق.
ومن الحق هنا أن نسجل أن جميع الديانات حتى الوثنية منها تأمر بالخير والإحسان وأن المسيحية لم تُبِحْ سفك الدماء واضطهاد الأبرياء، ولكن ما العملُ وقد اضطُهِدَتْ هذه النفوسُ البريئةُ باسمها!؛ وذلك إرضاءً للنفوس الدنيئة، والأطماع السافلة!
لقد قام الإسلام يدعو إلى التوحيد، فأعطى أهل الكتاب الحرية التامة في إقامة شعائرهم الدينية ومعتقداتهم، ولم يَعْمِد إلى السيف في إخضاع المشركين وردِّهم إلى حظيرة الإيمان بالله إلا إذا أَبَوْا أن يلبوا دعوة الله بالحُجَّة البينة والموعظة الحسنة، واختاروا الحرب.
أفبعد هذا يزعمون أن الإسلام دين كاذب ؟! ليت شعري أية كذبة تُماشِي العصر وتساير الزمن وتعيش مع الدهر – بين الخصوم – أربعة عشر قرنًا، وتنطلي تمويهاتُها على أربعمائة مليونٍ من الناس، وتظل عندهم طيلةَ هذه الأحقاب موضِعَ الإجلال والإكبار، تَهُزُّ قلوبَهم للرحمة وأكُفَّهم للخير؟.
ألا إن الإسلام بريءٌ مما نُسب إليه، فهو دينٌ عربيٌّ صادقٌ يدعو إلى توحيد الله دون أن يلجأ إلى التواء المنطق وغثِّ التأويل، «ولئن فاتني حظِّي من النَّسب، لن يفوتَنِي حظِّي من المعرفة».
هذا هو الإسلام الذي قال فيه شاعر الألمان وأعظم عظمائهم «جايتي»: إذا كان ذلك هو الإسلام فكلُّنا إذن مسلمون.
نعم كل من كان فاضلًا شريفَ الخُلُقِ فهو مسلم.
* مجلة الرسالة العدد 229 – 22/ 11/ 1937.** الكاتب فهو خليل جمعة الطوال ولد سنة 1914 بعمان بالأردن، وحصل على بكالوريوس الطب سنة 1947م من دمشق. بدأ حياته فس الصحافة، فكتب مقالات أدبية وسياسية وعلمية وفي مقارنة الأديان، منها هذه المقالة التي نعرضها. وهو مسيحي كاثوليكي نشأ بحكم تربيته المسيحية كارهًا للإسلام ولأهله، معتقدًا أنه شريعة فاسدة تنطوي على عيوب كثيرة، أقامتها جماعة من الغزاة المحبين لسفك الدماء، واعتنقتها شعوب بدائية لا حظ لها من الثقافة والمدنية. ثم أراد أن يقف على حقيقة الإسلام بنفسه فقرأ القرآن الكريم والسيرة النبوية لابن هشام، وعرف أن ما نشأ عليه محض افتراء على الإسلام فعزم على تبيين محاسنه وهو على ملته لم يبدلها، وكتب مقالات وألف كتبًا لهذا الغرض منها كتاب “تحت راية الإسلام”، فانتقده أهل ملته وكفروه، واتهمه بعض المسلمين في قصده من كتاباته، وقال آخرون إنه مسلم يكتم إيمانه. تطوَّع في الحرب العالمية الثانية طبيبًا في الجيش، ثم عاد بعدها إلى الأردن وشارك في تأسيس عدة جمعيات خيرية، وتوفي سنة 1980م.