حالة مهمة
من ضمن الذكريات العديدة التي تراكمت لدى المرء مع حياته كطبيب، أذكر بشكل خاص حادثة تحمل الكثير من الدلالات ..
كنا أطباء امتياز جالسين في غرفة استقبال الأمراض الباطنية، وقد احمرت عيوننا من السهر، وتلك السحابة اللذيذة تغيم على وعينا.. في وقت كهذا تتكلم وتندهش لدى سماع ما تقوله، ويبدو لك أي شيء يُقال مضحكًا جدًا .. أعتقد أنها مادة مثل الإندورفين يفرزها المخ في حالات كهذه لتلعب دور الحشيش الداخلي. نطلب من الممرضات أن يتذكرننا في إعداد الشاي، هذا بالطبع لو بقيت واحدة متيقظة .. ومن حين لآخر يفتح صديق لنا علبة من الورق فيها بعض البسكويت الذي أعدته (الحاجة) في قريته .. ويقدم لنا بعضه فيتعالى صوت التشومب تشومب.
ثم أننا سمعنا جلبة عبر ردهة الاستقبال، ومن مكان ما ظهر مجموعة من الفلاحين الذين بدت عليهم علامات الخطورة، وكانوا يحملون رجلاً مسنًا في ألعن حال ممكنة، غارقًا في العرق شاحبًا كالورقة .. هذا رجل يحتضر على الأرجح ..
الرجال غاضبون على استعداد تام لتحطيم كل شيء. هناك تلفيعات عملاقة يلفونها بطرق معينة وتدلك على العدوانية والقبلية على الفور .. عندما تظهر علب سجائر الكليوباترا البيضاء تعرف أن الأمر جد خطير.
أما ضيف السهرة المحوري فهو طبيب .. طبيب في الخمسين من عمره أصلع الرأس يبدو أن حالته المادية سيئة، ولا يوجد في بدلته المبقعة بالزيت زر واحد مخيط .. الأهم أنه أحمر الأذنين غارق في العرق .. يمشي وسطهم كما يمشي عبد العال نحو طبلية المشنقة عاجزًا عن الفرار أو التملص.
أرقدنا المريض على فراش الكشف .. وأدركنا على الفور أن حالته أكبر من قدراتنا نحن أطباء الامتياز. كان يرفع رأسه بكثير من العسر وكان العرق يغمره، وغشاوة الموت تخيم فوقه. وعبثًا حاولنا أن نستخرج منه كلمة، فصاح صائح أن استدعوا الطبيب المقيم. الطبيب المقيم بالنسبة لأطباء الامتياز هو الساحر صاحب اللمسة الخارقة الذي يأتي من مسكن الأطباء متعكر المزاج غاضبًا دائمًا لأننا لا نصلح لشيء.
كان شك الرجال وعدوانيتهم يتزايدان، وهم يرمقون ما يحدث .. وقال أحدهم:
ـ«كل هذا بسبب الحقنة!».
هنا فهمنا الأمر .. هذا طبيب ريفي بائس استدعوه لكشف منزلي ليلي، وقد أعطى المريض حقنة ما لا نعرف كنهها ولا إن كانت هي سبب التدهور أم أن التدهور تم تلقائيًا. وجد الطبيب نفسه متورطًا في كارثة، ومن الواضح أنه نقل بسيارته المتداعية المريض والأهالي المتشككين المستعدين للانفجار .. لابد أنه يلعن اللحظة التي ذهب فيها للكشف ويلعن المال الذي جعله يغادر بيته أو وحدته الصحية في ساعة كهذه ..
هكذا جلس على بعد خطوات من سرير الكشف وهو يجفف عرقه بمنديل محلاوي ضخم، ولما رأى بعضنا جالسين بعيدين، قال لنا بصوت غليظ:
«اقتربوا لتروا الحالة .. هذه حالة مهمة جدًا very interesting».
هنا فهمنا .. هو يريد توريطنا. يريد أن يلتف حول المريض أكبر عدد ممكن منا لتتفرق المسئولية على عدد كبير من الأطباء، وفي هذا يتصرف كأنه معلم يكره أن يفوت هذا الدرس الرائع تلاميذه..
عندما وصل الطبيب المقيم كان المريض يحتضر فعلاً، وقد تطوع الطبيب المتورط بأن يلصق فمه بفم المتوفى محاولاً – لربع ساعة – عمل تنفس صناعي له برغم أن هذا عمل بلا جدوى. فقط كان يقدم نوعًا من الاعتذار لأهل المريض.
طبعًا يمكنك أن تتخيل ما حدث عندما توفي المريض، بينما الطبيب المتورط يؤكد لأهله أن الحقنة ليست هي السبب، والحقيقة أنها كانت حقنة نوفالجين .. هناك احتمال لا بأس به أن تكون هي السبب فعلاً عن طريق صدمة حساسية. الصياح والسباب ورجال الأمن يحاولون أن يهدئوا الموقف. في هذه المواقف عليك واجب واحد نحو نفسك هو ألا تتلقى علقة، لهذا تنسحب في هدوء.
كلما تذكرت هذا الموقف تذكرت وجه الطبيب الغارق في العرق والشعور بالذنب، وهو يطلب منا أن نلتف حول المريض لنتورط معه.
لسبب ما عادت الذكرى لي، وأنا أرى موضة لوم المواطن على أخطاء الحكومة في كل شيء. فجأة أصيب الإعلام بالسعار ولم يعد يرى خصمًا سوى المواطن العادي المسالم. بعد ما وقعت الواقعة الإرهابية الشنيعة في البدرشين، رأينا في الفيلم كيف أن بعض المواطنين تجمدوا رعبًا لأنهم لم يفهوا ما يدور بالضبط، والبعض الآخر بادر بالفرار عندما استوعب ما يحدث. هنا تنبري وزارة الداخلية ووسائل الإعلام تلوم هؤلاء المواطنين على أنهم لم يرموا بأنفسهم أمام الرصاص ليموتوا.. إنهم سلبيون جبناء ..
لقد صارت حماية الداخلية من واجبات المواطن إذن .. لم يعد مطالبًا بالصبر على البلاء والغلاء فقط، بل عليه دور إيجابي مهم، هو أن يتوارى وراء ساتر ويطلق الرصاص على الإرهابيين، ثم يطير في الهواء وينقض على الإرهابي الأول فيلكمه، ثم ينتزع سلاحه ويفرغه في باقي الإرهابيين.
أكاد أسمع الداخلية تدعو الناس للاقتراب من الحادث لأن الحالة مهمة جدًا .. بهذا تتوزع المسئولية ويتلقى الجميع اللوم. الطبيب غارق في العرق واهن الأطراف يدعونا إلى أن نقترب ونتزاحم. هناك دائمًا من يتلقى اللوم، وهذا الشخص ليس الحكومة على الإطلاق، وهي موضة جديدة تقضي بأن المواطن على خطأ دائمًا .. يأكل كديدان القز ويتناسل كالأرانب ويستهلك الماء والكهرباء ثم يهرب عندما يرى تبادل إطلاق رصاص في الشارع.
ما زلت أكرر أننا صرنا ضيوفًا ثقلاء على الحكومة، وقد صار من حسن الأدب أن نترك لهم البلد .. لكن إلى أين نذهب؟