تداعيات حرية الصمت التام في المجال العام
من الحريات القليلة التي تُتيحها أدوات القهر الحديثة: «حرية الصمت في المجال العام»؛ إمّا لأنه ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن، أو باعتبار أن هناك منْ يقومون بالواجب ويعرفون كل شيء، وفي الحالتين على كل مواطن أن يريح نفسه. وأحيانًا تتعرض «حرية الصمت» للانتقاص -إن اعتبرناها حرية بالمعنى السالب- وذلك عندما يجري إكراه الصامتين على النطق بما تشتهيه تلك الأدوات. وما يهمنا هنا هو أن ثمة ارتباطًا بين سيادة الصمت في المجال العام، وبين اختلال أسس التسالم وزيادة وتائر العنف الاجتماعي في الواقع المعيش. وأغلب الظن أن الوعي بهذا الارتباط وتداعياته السلبية شبه غائب.
إن انفكاك علاقة الصمت في المجال العام باختلال أسس التسالم الاجتماعي له عللٌ سياسية ظاهرة؛ فمن ذا الذي يقول إن العنف الاجتماعي أحد نتائج الانغلاق السياسي؟ كما أن لهذا العنف علل أخرى ثقافية وأخلاقية كامنة في عوائدَ رَثةٍ تختزنها مختلف طبقات المجتمع تجاه بعضها البعض.
والصلة السلبية بين العلل الكامنةِ والظاهرة أيًا كان نوعها هي في واقعنا الاجتماعي أقوى بكثير من الصلة الإيجابية المفترضة بين أصول التسالم والتضامن التي تبنيها قيم أصيلة مثل: الشورى، والإجماع، والحرية والرأي العام.
ومن المفترض أن يترتب على هذه الممارسات نتائج إيجابية لجهة توسيع المشاركة في كل ما هو نافع وعام وجماعي. ولكن تلك الصلة السلبية هي أقوى كذلك من الصلة الإيجابية المفترضة بين «الحريات النظرية» -المنصوص عليها في الدساتير مثلًا- والواقع المعاش، بما يموج به من عنف وتهتك في شبكة التسالم الاجتماعي جراء تعارض المصالح بين الفئات المختلفة.
وليس من المتخيل أن تنشأَ «مصلحة اجتماعية مشتركة» في أجواء الصمت العام التي تفرضها أدوات القهر الحديثة، ولا من المتخيل أيضًا أن تنشأ قدرة فردية رشيدة على إدراك المصلحة في مواضع الصمت الخاص، تلك المواضع التي تفرضها ثقافة تحبذُ الخوف والانعزالية والانفراد بالرأي. وعليه فإن هذا المجال الذي تتصارع فيه المصالح بالضرورة يتصل مبدئيًا بالوجود الطبيعي للإنسان، ويرتبط بحاجاته الفطرية للتواصل بحرية مع الآخرين.
إذا عدنا قليلًا إلى أصحابِ الدرس الأصولي لنتعرف على كيفية استثماره في إدراك وقائع الحياة الاجتماعية اليومية، وفي تعزيز أسس التماسك بين الفئات والجماعات التي يجمعها العيش المشترك، فسنسمع الأصوليين يبدؤون بذكر القرآن باعتباره أولَ الأصول وأعلاها، وبعده السُّنة الشريفة ثانيًا، والإجماع ثالثًا، والقياس رابعًا.
ثم يقولون: إن أثرَ الأصول الثلاثة الأولى هو: إثباتُ أصلِ الحكم، بخلاف القياس، فأثره تغييرُ وصف الحكم من الخصوصِ إلى العموم. ثم لا نكاد نسمعهم يستثمرون هذه التفرقة في بيان إسهام «القياس» -تحديدًا- وأدواته في تعميق المعرفة بوقائع الحياة الاجتماعية ومشكلاتها اليومية، ولا في توسيع نطاق ممارسة الشورى في التطبيق العملي، والعمل لتطويرها من أجل الوصول إلى حالة من «الإجماع». ولا نكاد نسمع تحليلًا يوضح كيف تسهم الشورى في التداول الحر حول المصالح العامة، ولا في إدراك تلك المصالح إدراكًا سليمًا، ولا في كيفيات اقتسام المنافع العامة وفق أسس عادلة.
وفي رأينا أن مثل هذا التداول الحر في الشئون والمصالح العامة شرط لا غنى عنه لضمان التسالم الاجتماعي، ولا بديل عنه كذلك لسد منافذ التهارج والتحاسد والإقصاء المفضي إلى الاحتراب بأدوات العنف غير المشروع. وعدم مد نتائج أصول الفقه إلى هذه المساحات الاجتماعية المباشرة يعني شيئًا واحدًا هو: أن أصول الفقه وقواعده ما وجدت إلا لكي تُحفظ في سطور الكراريس، أو بالأكثر في الأفئدة والصدور. ولا أظن أن أحدًا من واضعي علم الأصول أو من علمائه قد خطر له هذا الخاطر، أو ورد على ذهنه أن يؤول هذا العلم العريق إلى هذا المآل الساكن. ومما يدعو إلى التفاؤل أن بعض العلماء المعاصرين قد تنبَّهوا إلى هذا الجانب العملي، ونبَّهونا إليه.
لنأخذ نموذجًا من أولئك العلماء، وهو الفقيه الكبير «توفيق الشاوي» -رحمه الله- الذي أعاد تعريف «الإجماع» وأخرجه من ضيق التعريف النظري القديم، الذي يحصره في شمول المشاركين في قرار «الإجماع» وتخصيص مضمون هذا القرار في «الحكم الشرعي» حصريًا، إلى سعة المضمون الذي تنتجه آلية الإجماع من حيث اتساع آثاره التطبيقية، وتوجيه نتائجه من أجل الإسهام في تغيير الواقع الاجتماعي وحل مشكلاته.
ذهب الشاوي -في كتابه «فقه الشورى والاستشارة»- إلى أن الإجماع هو: «اتفاق الأغلبية»، وليس اتفاقًا يشمل جميع أفراده المجتهدين حصريًا. واعتبر أن هذا المعنى الحصري هو أحد جوانب «الإجماع» الأصولي، وهو الجانب المختص بالأحكام الشرعية وحدها، أمّا بقية الجوانب فتشمل المسائل الدنيوية؛ أقصد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية والخدماتية وما إليها. وهي جوانب يشملها مفهوم «الإجماع» بمعناه الموسَّع الذي يتجلى في فتح أبواب التداول الحر في الشئون العامة، والتشاور بين أصحاب المصالح أو ممثليهم للوصول إلى «إجماع الأغلبية» بقرار ملزم يرجح مصلحة على مصلحة، أو رأيًا على رأي آخر.
مثل هذا النظر من شأنه أن يسهم في إخراج مفهوم الإجماع من أسر التعريفات الضيقة السائدة عند البعض، ويساعد على وضعه في سعة المجال العام وقضاياه ومسائله التي تتفاعل فيها المصالح المشتركة. ومعلوم أن الكلام في المصالح والمفاسد والمفاضلة بينها هو لب الأصول والمقاصد معًا.
والحرية هي أهم شرط وأهم ضمانة لتحقيق عدالة «تحصيل المصالح وقسمتها» بين النسبة الغالبة من أبناء المجتمع وفق قواعد العدالة والإنصاف. وهذا هو الضمان الأقوى لحفظ التسالم الاجتماعي والوقاية من الانزلاق إلى العنف في الوقت نفسه.
ما يهمنا هنا هو: أن الإجماع يستلزمُ بالضرورة قدرًا مسبقًا ومعتبرًا من الحوار والتشاورِ في أمر ليس فرديًا، وإنما له صفة العموم. يعني أنه يحتاج إلى حرية التفكير والتعبير والمناقشة. ومن المفترض أن يشمل هذا الحوار مختلفَ الشئون العامة التي تهم المجتمع في أي وقت من الأوقات. وعليه فإن جوهرَ عملية بناء «الإجماع» بمعناه الاجتماعي والسياسي المُوسَّع وقبل أن ينعقد هو: التشاورُ. والحرية هي شرط لازم ومبدئي لهذا التشاور. ومن ثَمَّ فإن إبطال الحريات العامة أو الانتقاص منها، هو في الوقت عينه إبطال للشورى وانتقاص منها، وهو بالمحصلة إبطال لإمكانية حصول الإجماع، وهو قطعٌ مبكر لطريق الوصول إليه، وهو تعطيل لوظائفه في تدبير شئونِ المجتمع وتركها لتقديرات احتكارية متحيزة. ولا يقود الاحتكار إلا إلى الإخلال بأصول العدالة والتسالم الاجتماعي، ومن ثَمَّ تنفتح أبواب التهارج وعدم الاستقرار، وتتداعى أعمال العنف بأشكاله الفردية والجماعية.
تفترض ممارسة الإجماع بمعناه الموسَّع -الذي أشرنا إليه- أن تتراكم خبرة التعرف على مشكلات المجتمع، وأوزانها وأولوياتها النسبية، وأيها يحظى بدرجة أعلى من الأهمية. ومن هنا تكتسب سلطة إدارة الشأن العام قدرة إجرائية على بناء المجال المشترك بين المجتمع بفئاته المختلفة من جهة، والدولة بمؤسساتها وهيئاتها المنوط بها رعاية المصالح العامة من جهة أخرى. وإذا حدث ذلك؛ فهذا هو «الإجماع المجتمعي الفاعل»؛ أي الذي يأتي ثمرة التشاور والشورى، وهذا النوع من الإجماع هو الكفيل بدعم حالة «التسالم» في مواجهة حالة «التغالب». ومثل هذا الإجماع يكاد يكون مستحيلًا إلا في أجواء الحرية. وكلما قوي «المجال التعاوني المشترك» في أجواء الحرية، ضعفت فرص انتهاك التسالم الاجتماعي، واضمحلت إمكانيات اللجوء إلى العنف.
ولكن مما يؤسف له، أن تلتقي إرادة سلطات الاستبداد العربية في غلق المجال العام واحتكاره، مع شيوع الرأي الأصولي الذي يقيد مفهوم الإجماع بثلاثة قيود ثقيلة. وكل قيد منها يجعل الإجماع غير فاعل في الواقع وهي:
- أن الإجماع لا يتم إلا بمشاركة «المجتهدين» من العلماء؛ فلا يشاركهم الجمهور العام، أو «العوام».
- أن الإجماع ينعقد بالاتفاق التام بين جميع أفراد جماعة المجتهدين لا بأغلبيتهم.
- أن موضوع الإجماع يجب أن يكون حكمًا شرعيًا بالمعنى الاصطلاحي لمفهوم «الحكم الشرعي» الذي يعرفه المبتدئون في أصول الفقه.
ورغم وجودِ آراء واجتهادات فقهية معتبرة لا توافق على تقييد الإجماع بتلك القيود، وتعتبر أن تلك القيود لازمة لنوع محدد من الإجماع، ولا تستغرق الإجماع بمفهومه المطلق، ولا بأنواعه المتعددة كما أسلفنا الإشارة إلى ذلك؛ فإن خطر تلك النظرة الضيقة السائدة يتمثل في أنها تلتقي –موضوعيًا- مع الرغبة الجامحة التي تمارسها سلطات الاستبداد في إقصاء الجمهور عن المشاركة في تدبير المصالح العامة. وعليه فإن تلك النظرة الضيقة تحتاج إلى منْ يزلزلها من أركانها لتحرير «نظرية الإجماع» من هذا الأسرِ المعنوي الظالم، الذي حجبَها، ولا يزال يحجبها عن تطوير المجال العام للمصالح المشتركة لأبناء مجتمعاتنا ويرسخ التسالم فيما بين أبناء أمتنا وجماعاتها من جهة، وبينها وبين السلطات الحاكمة من جهة أخرى.
إذا أخذ «الإجماع» بمعناه الأصولي الموسع مساره الطبيعي، وقُدر له أن يتطور خارج تلك القيود آنفة الإشارة إليها، فإنه سيصبح قاعدة صلبة تتأسس عليها «نظرية الرأي العام» بأفضل من المعنى الحداثي لهذا المفهوم، ذلك المعنى الذي لا تجد سلطات الاستبداد أدنى صعوبة في اختراقه وتزييفه لمصلحتها الضيقة. ولو تطور المفهوم الموسع للإجماع؛ لأضحت نظرية الإجماع بحد ذاتها مرجعًا منضبطًا لمأسسة مبادئ: «احترام إرادة الأمة»، و«محاسبة الحكام»، و«المحافظة على الوحدة». وحينئذ يكون مجتمعنا قد بلغ مستوى الولاية على نفسه.
لكن التوافق –الموضوعي- البائس بين معنى الإجماع المقيد بالقيود الثلاثة آنفة الإشارة إليها، وبين النزعة التسلطية الجامحة عند من يملكون أدوات القهر الحديثة، هذا التوافق قد أدى إلى حدوث «فراغ» في الوعي الاجتماعي بشأن مسئوليته عن تدبير شئونه العامة، وكرّس أيضًا شكلية المؤسسات الحداثية الموكول إليها رعاية تلك الشئون في ذات الآن.
ومع وجود هذا الفراغ، كان لابد من قوة تستولي عليه وتملؤه، ولم تكن هذه القوة سوى «قوة السلطان»، أو «سلطان القوة» التي انفردت بها الأنظمة القهرية ذاتها واحتكرتها وأقصت كل أنواع المشاركة الاجتماعية الحرة. ورغم افتقاد هذا الاحتكار للشرعية وللمعقولية معًا، إلا أن هذه الأنظمة وجدت حداثويين يبررون استبدادها على الدوام، كما وجدت من فقهاء السلطان من يسوغ لها هذا الاستيلاء غير الشرعي على المفاهيم الشرعية الأصيلة وحرفها عن مسارها الاجتماعي الإيجابي. وأسهم هذا كله في تصدع أسس التسالم، وكان تفاقمُ العنف الاجتماعي من أخطر تداعياتها.
لقد اقتضت الضرورات السياسية العملية أن تتمدد سلطة الدولة بكل قوتها في الفراغ الذي أنتجه انسحاب قوة الشورى والحرية والإجماع عن الإسهام في تطوير المجال العام. فهذا الفراغ استلزم تطوير الإجراءات الأمنية لحفظ التسالم الاجتماعي عبر سلسلة طويلة من الإجراءات المستندة على استخدام القوة ومزيد من القوة «المشروعة» بطبيعة الحال، لكن مآلات المبالغة في هذا الاتجاه تسببت في تصدع أسس التسالم الاجتماعي، لصالح مزيد من النزعة القهرية والاحتكارية.
بعض المجتهدين المغاربة، مثل العلّامة «علال الفاسي»، له رأي آخر يشير فيه إلى مسار عكسي لما أسلفناه؛ وهو أن الاستبدادَ السياسي هو الذي أزهق روح الإجماع، وهو الذي عطل الحرية بتعطيل «الشورى» أولّا، وقبل أن يتعطّل أي شيء آخر. وأن هذا الاستبداد هو الذي حوّل النقاشات حول تلك الأصول المؤسسة للتسالم الاجتماعي والحريات العامة إلى مجادلات فارغة تدور حول حجية الشورى والإجماع حينّا، وحول إمكان أو عدم إمكان الجمع بينهما حينّا، بينما مصالح الغالبية العظمى من أبناء الأمة مهدرة أو محتكرة.
ومع تقديرنا العالي لما ذهب إليه العلّامة «علال الفاسي»، إلا أنه ليس بوسعنا التحقق من أيهما كان السبب في الوصول إلى هذه الحالة البائسة: أهم العلماء أم الأمراء؟ ومنْ منهم تجرأ وبدأ أولًا، ومنْ منهم استمرأ هذا الوضع وصمت؟
ومبلغ العلم في هذه المسألة هو أن المسئولية مشتركة بين الطرفين، وأن الـتأثير السلبيَ لكل منهما قد دعم صاحبه في إقصاء الشورى وتعطيل فعالية الإجماع وإزاحة الحرية، ودعم الاستبداد على حساب المصالح المشتركة وعلى الضد من ضروريات التسالم الاجتماعي وضياع الحريات، باستثناء «حرية الصمت التام في المجال العام».