الأم غير المثالية: نظرة على الأمومة في سينما ألمودوفار
اشتهر المخرج الاسباني الشهير بيدرو ألمودوفار بما يطلق عليه البعض سينما المرأة، معظم أبطال أفلامه من النساء، لقد تبنى ما تطالب به الحركات النسوية اليوم منذ ثمانينيات القرن الماضي، ترى بعض الحملات أن النساء تحصل على أدوار صغير أقل تأثيرا من نظرائهن من الرجال في السينما، بل ويضعن الإحصاءات التي تثبت أن سيناريوهات الأفلام لا تدع للمرأة المساحة الكافية للتحدث حتى.
في أفلام ألمودوفار نادرا ما تجد رجل يملك أكثر من سطرين من الحوار، لكن سينماه ليست فقط عن النساء، إنها بشكل ما عن الأمهات، عن الأمومة بمفهومها الواسع وتعقيداتها، عما تمر به النساء لكي يصبحن أمهات وكيف يمكن دحض الرؤى النمطية عن ذلك المفهوم الذي يغلفه البعض بالقدسية لكن ألمودوفار يرجعه ثانية إلى الأرض فهو يرى أن النساء ممثلات بطبعهن يمكنهن تزييف الحكايات لحل المواقف وربما لإنقاذ أبنائهن وكل من هو تحت رعايتهن في النهاية سواء نجح ذلك أم لا.
إنه لشيء قاسي ألا تحب البنت أمها
لا يتبنى ألمودوفار سردية الأم المتمثلة في مريم العذراء المضحية، لا يوجد أم خيرة بشكل مطلق لا تمثل الأم المرتبة القدسية النمطية أحادية البعد، بل غالبا ما تكون شخص مخطئ يبحث عن المغفرة، في فيلمه (خولييتا julieta 2016) يتعامل المودوفار مع سلسلة متشابكة من العلاقات المعقدة، مشاعر يصعب وصف علاقة أم وابنتها بها، مثل الكراهية واللوم، يغزل المودوفار قصته عن طريق فلاشباك طويل يظهر كيف تحولت خولييتا من شابة صغيرة فاتنة أراد قدرها أن تحمل طفلا من شابا قابلته على متن قطار الى امرأة متزوجة من رجل لا يعرف شيئا عن ماضيها لا يعرف حتى حقيقة كونها أم.
تعيش خولييتا بهذا الحمل الأمومي دون ابنة، تتناسى ماضيها وتعيش حياة جديدة بعد أن هجرتها ابنتها بسبب إيمانها بأنها السبب في مقتل والدها، تتقاطع علاقة خولييتا بابنتها الغير متواجدة في غير الذكريات بعلاقتها هي مع أمها وعلاقة أمها بها، هي حكاية دائرية يصعب كسرها، تتهشم بها العلاقات بشكل رئيسي بسبب الأسرار ونبذ الآخرين حقهم في المعرفة، خولييتا ارتبطت بوالد ابنتها على الرغم من معرفتها بزواجه من امرأة في غيبوبة تعيش على حافة الموت، حدث الشيء نفسه مع والدتها التي تعاني المرض وبوادر الزهايمر، تشجب خولييتا فعل والدها وخيانته التي رأتها هي مبررة، فهي أم وتشعر في داخلها بضرورة الوقوف بجانب والدتها كونها امرأة أيضا يمكنها التماهي مع مشاعرها.
في فيلم (العودة volver 2006) تتعرض ابنة رايموندا المراهقة للتحرش من أبيها أو من تعتقد أنه كذلك فتقتله دفاعا عن نفسها، نعلم فيما بعد أن رايموندا نفسها تعرضت للاغتصاب من أبيها وأنجبت منه ابنتها التي هي أختها في الوقت ذاته على طريقة الميلودراما المبتذلة، وبسبب طبيعة الحكي الدائرية التي يتبناها المودوفار تتكرر الحادثة عبر جيلين لكنها تنكسر في الجيل الحالي فلا تعاني الابنة مصير أمها.
والدة رايموندا متوفاة لكنها في الحقيقة ليست كذلك، تعود لتطلب الغفران من ابنتها التي تسبب زوجها في تحويل حياتها لمأساة معقدة، جعلتها مثل ابنة خولييتا تكره والدتها، تتجنبها وتصادفها في الشارع كالغرباء، تلك الأم ليست شبحا ينفي عنها المودوبار الصفات السحرية فهي شخص هارب من ماضيه وجرائمه، تسببت في مقتل زوجها وعشيقته انتقاما لها ولابنتها، ثم عادت في هيئة شبحية لكي تعتني بالجميع كتعويض عن أخطائها وليس من منطلق مثالي مضحي، مفهوم الرعاية الأمومية موجود بداخلها لكنها ليست أم مثالية هي تفضل إحدى بناتها على الأخرى وتهرب من أفعالها لكنها تعود، دائما تعود.
واهبة الحياة
يتلاعب المودوفار بالأفكار المسبقة النمطية عن اختلافات الأجناس باستخدام مفاهيم مثل الحب والعطاء الغير مشروط المرتبطين بشكل طبيعي وفطري بالأمومة، تتكرر مفاهيم مثل العناية السريرية المرتبطة بالتمريض سواء كان ذلك بشكل محترف أو مجرد تقديم العناية المرتبطة بالتقدم في السن أو ظروف مرض ما أو رعاية الأطفال كجزء من السرد الدائري للحياة.
يحتفي ألمودوفار بالنساء والأمومة الغير مثالية، تكتشف خولييتا خيانة زوجها لها مع صديقة ويتسبب شجارهما في ذهابه لرحلة موته، تقع خولييتا في هوة اكتئاب شديد تساعدها على الخروج منها ابنتها بعاطفة أمومية معكوسة، تحممها وتطعمها وتحرص على سلامتها، وعندما تعلم أن هذه هي أحداث ليلة وفاة أبيها تقرر الانقطاع عن والدتها، تبني بينهما حاجز من الذنب والنبذ القاسي، تعاني الوالدة فراق ابنتها بين محبة واشتياق شديدين وغضب جامع يجعلها تتمنى لو لم تعرفها يوما، لكن في النهاية وبسلسلة من المصادفات تصل خولييتا لمكان ابنتها وتعزم على رؤيتها دون رغبة في طرح التساؤلات أو القاء اللوم، رغبة خالصة فقط باللقاء ووعد غير مؤكد بأن كل شيء سيصبح على ما يرام.
تلعب فكرة الجسد وتقديم الرعاية دورا محوريا في فكرة ألمودوفار عن الأمومة وعن الحب، تتكرر تيمات المرض الذي يفقد الإنسان تحكمه في جسده الخاص، حتى وان كان هذا وقوعه في اكتئاب يجعل حركته أثقل ويحتاج الى من يحل محل إرادته الحرة لكي ينتقل من مكان لآخر، ذلك المفهوم يصبح مرجعية للعناية بالطفل الفاقد الأهلية على جسده وتصرفاته ويمتد إلى الكبار حينما يتحولون إلى أطفال مرة أخرى، أصبحت خولييتا أم بسبب فقدان زوجة حبيبها القدرة على الحركة والعيش الطبيعي ولم يعتني أحد بها، واعتنت بها ابنتها حينما أصبحت عاجزة لفترة قصيرة بسبب حزنها على موت حبيبها.
في فيلم (كل شيء عن أمي all about my mother 1999) الأم أيضا ممرضة واهبة للحياة والرعاية، تصبح امتداد لأجساد مرضاها، لذلك حين صنع المودوفار أشهر أفلامه (تحدث معها talk to her) تم مدح رؤيته المنفتحة للأدوار التي تقوم بها الأجناس فالطبيعي أن ترغب امرأة في منح حياتها لشخص بالكامل لكن كان من الغريب رغبة رجل أن يعمل كممرض ويهب رعايته الكاملة لامرأة.
في العودة عندما تعود الأم من الموت المزيف تتخفى لسنوات فيها تساعد أختها العجوز التي تعاني من تراجع الإدراك والأمراض الخاصة بكبر السن، فهدفها الرئيسي أيضا هو تقديم الرعاية حتى وإن لم يشكرها أحد لأنه ليس من المفترض أن يعلم أحد، تطبخ وتحضر الدواء وتترك أوعية من المربى والحلوى مدون عليها أسماء ابنتيها باعتبار أنها من صنع خالتهما، تبقي على حياة أختها بالرعاية حتى يوم وفاتها فتتحرر من هيئتها، حتى تقرر أن ترعى شخص آخر وتعود كشبح مرة أخرى، أو أقرب ما يكون لملاك على الرغم من كل خطاياها.
يدرس ألمودوفار ما يجعل الأم أما، ليس فقط بسبب تعرضها للحمل وانجابها طفل ولكن كيف يتحول ذلك الحادث البايولوجي إلى علاقة إنسانية متكاملة يمكن أن تستمر أو تنقطع أو تتعقد بلا أمل في الإصلاح، علاقة يترتب عليها شكل حياة الابن والأم، طريقة نضوجه ورؤيته ونظرته للعالم من حوله، في خولييتا لم تشعر الابنة بالأمان تجاه والدتها، وفي العودة فرقت الأم في المعاملة بين ابنتيها لكنها لم تساهم في جعل أي من حيواتهما أفضل، تتوسع دائرة المشاعر بعيدا عن الأوصاف النمطية المتعلقة بالعطاء وضمان والتواجد دون شرط أو اطلاق أحكام، الأمهات هن بشر، وضع الأوصاف المثالية عليهن هو مجرد خيال طفولي.
نرى الأم مرة وحيدة في ذلك الضوء الرومانسي في ألم ومجد pain and glory 2019، كونه أكثر أفلام المودوفار ذاتية، فالأم هي رمز عالم أكثر بساطة وبراءة، جميلة ومضحية ورقيقة تقسو فقط لمصلحة ولدها لكنها لا تلبث أن تحاول التخفيف عنه، هو الفيلم الوحيد الذي يملك نظرة حالمة لأدوار الأم المعتادة، ومكافحة، تكدح في العمل بإيثار كامل، تتبنى دور أمومي حتى للغرباء، هي نموذج للأم التي يتم نبشها من الذاكرة لتذكر كيف كانت الحياة في رعاية شخص آخر، في زمن أبسط يستكشف فيه الطفل رغباته الأولية واهتماماته، ولا يتخطى بعد كبره فقدها أبدا أو تخييب أملها بعد الانفصال الحتمي عنها.
لا تطلبي مني أن أكون أمك
في كل شيء عن أمي يقدم المودوبار عدة نماذج أمثلة للأمومة في طبقات من الدراما وتشابكات العلاقات التي تصادفها مانويلا الأم الثكلى حديثا في رحلتها، فقدت مانويلا ابنها الوحيد استيبان في حادث أثناء محاولته في الحصول على توقيع ممثلته المفضلة بعد مشاهدة مسرحية عربة تسمى الرغبة التي تؤثر كثيرا في مانويلا خاصة شخصية ستيلا في مشهد تحمل به طفلها الرضيع وتترك والده المؤذي كما فعلت هي.
في رحلتها إلى ماضيها بعد فقد ابنها تقابل راهبة شابة تعترف لها بتعرضها للحمل، تملك الراهبة روزا علاقة متصدعة مع والدتها التي لا تتفق مع خياراتها في الحياة، فتجد نموذج فوري للأم في مانويلا التي تبحث بدورها عن من ترعاه بشكل غير واعي لكنها تريد التملص من ذلك الدور الأمومي المفروض عليها في أحد المشاهد تصرخ في روزا قائلة «ليس لكي الحق أن تطلبي مني أن أكون أمك، لديكي أم حتى إن لم تعجبك، لا أحد يختار والديه» تتبع ذلك بعناق دافئ قائلة «أرجوك لا تبتزني»، لا تريد والدة روزا أن تتحمل مشكلات ابنتها، تملك المشاعر الأمومية لكنها لا تملك الرغبة في تبنيها بالكامل، والدة في حين أنها تعتني بزوجها فاقد الذاكرة والادراك، وترى أنه إذا كان من الممكن أن يصبح لروزا أم أخرى فسوف تتنحى هي للتفرغ لحملها.
عندما تخبر مانويلا روزا أننا لا نختار والدينا تفعل هي العكس في كل الخطوات، تختار أن تخفي حقيقة زوجها العابر جنسيا عن ابنها، وتختار مسار حياته، ثم تجعل من روزا بديلا عن ابنها ثم تصبح أم لابن روزا بعد وفاة والدته، هي تتحكم بخياراتها الأمومية ويضعها القدر دائما في وضع الراعية، تحمل روزا من زوج مانويلا، وتقرر تسمية ابنها باسم ابن مانويلا معلنة أن الطفل سينتمي لكلاهما، ينتهي مصير ابن روزا لأن يصبح ابن مجازي لمانويلا، تهرب به كما هربت بسابقه كلاهما يملك نفس الأب والماضي المربك، تصبح مانويلا أم مجددا وراعية من جديد، مانويلا دائما ترعى أحدهم، الممثلة التي تسببت في موته، روزا الراهبة وأخيرا ابن روزا، وكأن كونها أصبحت أم مرة فسوف تظل لبقية حياتها كذلك.
في «كل شيء عن أمي» و «ألم ومجد» تطلب الأم من ابنها أن يتوقف عن الكتابة عنها، أو وضعها في أفلامه، لا يلتفت ألمودوفار لذلك، لكنه يظهره أيا كان، رغبته أقوى من رغبتها، رغبته هو في الحديث عنها، كمكون أساسي في حياته وحياتنا وكمفهوم مجرد للعطاء والبحث الدائم عن المغفرة، رغبة لا تتوقف في حكي كل شيء عن الأم.