«رسالة الإمام»: للشافعي والفسطاط قصة أخرى «مجهولة»
يقينًا لا يمكن تصنيف مسلسل «رسالة الإمام» كمقامرة غير محسوبة، بقدر ما يعد مغامرة ومعاناة..
مغامرة شديدة السحر والخصوصية واللذة، ومعاناة كبيرة، لكنها آسرة بكل المقاييس..
أما عن مزاعم التدليس والتآمر على الدين ورموزه والهدر التاريخي وغيرها من الاتهامات التي طالت العمل وصناعه، إنما لم تزد لديهم المآسي كربًا ولا الجروح المنكوءة نزفًا، بل كانت وعلى عكس المتوقع، سفرًا إضافيًا شيقًا في كتاب التحدي المقدس لإنجاز المهمة على أكمل وجه ووفق أقصى اجتهاد ممكن..
وتلك هي طبائع الأمور وأحكامها، فرمي حجر في بركة الأعمال الدرامية التاريخية الراكدة في مصر منذ قرابة العقدين، لم يكن سهلًا بطبيعة الحال ولن يجذب كثيرًا من المريدين من الوهلة الأولى، ولا مفر من أن تطال الرامي قطرات بائسات من مياة التثبيط المتطايرة سيان شحت أو كثرت، ولا ضير من أن يناله أيضًا بعضًا من ماء التجريح الآسن المحبط.
أما النقد الفني والتدقيق والتشريح الموضوعي للعمل، وكذا الانقسام المحمود حوله بين جلبة المعجبين وهم كثر وأصوات المعترضين الزاعقة ولهم ترفع قبعات الاحترام والتبجيل دون شك، فكان نقطة قوة لـ«رسالة الإمام»، وميزة تحسب له لا عليه، فالأسئلة أثيرت والقلق تعاظم وعملية إعادة قراءة الماضي والاشتباك معه لفهم الحاضر واستشراف المستقبل تمت وصار التعاطي معها سلبًا وإيجابًا من جانب الجمهور العام على المشاع.
ما لم ترصده الكاميرات
هكذا تبدو الصورة الآن خارج بلاتوة كان بمثابة واحة نزال، لكنه بلا دماء.
تدور مشاهد المسلسل الآن بتلقائية وتتابع ومتعة بصرية مبهرة على شاشات القنوات التلفزيونية والمنصات، وقد عُمدت بزوايا وكادرات محسوبة بميزان حساس من ذهب، بيد أن اللقطات لو انفتحت زواياها ملليمترات بسيطة بعيدًا عن مرمى الكاميرات، ستجد من يرقد مكتوم الأنفاس يدقق حرفًا هاربًا من كتالوج الضبط أو الاستقامة اللغوية، وآخر يحمل على كتفيه عمودًا ينصب به ديكورًا أو إكسسوارًا حتى لا ينهار على رأس الممثلين ريثما ينتهي مونولوج حزين هنا أو حوار حام هناك، وثالث يمسك بأنابيب من اللهب ليضيء عيونًا شاخصة، ولا يهم بالنسبة إليه إن كان من سيتابعها سيفعل ذلك بانتباه وشغف أو ربما بتصيد وتلفيق، ناهيك بمن انبطح أرضًا ليتحكم في لجام فرس على أمل أن تتعقل وتهدأ بينما يخوض راكبها أعلاه بأقل من مترين مبارزة صغيرة بالسيف وأخرى بلسان عربي فصيح.
في النص (السيناريو)، كل كلمة كتبت أو عبارة سطرت، تخفي تحتها رحلات تنقيب مزعجة قاسية عبر صفحات عشرات الكتب والمراجع ودواوين الأثر والتراث والشعر، ناهيك بسيل جارف من الجداليات والمناقشات الحامية والأنفاس اللاهثة والأعصاب المحترقة بحثًا عن معنى أو هدف أو صورة.
وقبلها، مخاض مُهلك لأجل سطر جملة فقهية منضبطة، أو عبارة حب هاربة، أو بغية غزل معاناة أو طموح أو أمل أو لحظة يأس وشجن أو طرفة بليغة في حوارات ومشاهد كان الرهان الأعظم مِمَّن صاغها أن تفضي إلى عبرة وفكرة وموقف ورسالة، وبالقطع إلى متعة لا متناهية.
كل ذرة رمل انغمست في جدران فسطاط «رسالة الإمام»، كل قطعة خشب زينت بيوتها، كل قبضة طين أو مخروطة فخار استخدمت في أدواتها، كل خرقة نسيج غزلت بها أزياء سكانها، كل حواريها وأزقتها الضيقة، شاطئ نيلها الفياض، دوابها وأسواقها، ثمارها وطعامها وشرابها، سيوف جندها ومشاعل دروبها، جميعها وغيرها مما جسد واقعًا منظورًا مبهرًا دقيقًا من لحم ودم على الشاشة، جاء بعد عصف ذهني وعلمي وبحثي وإبداعي مرعب لاستنباط الشكل والهيئة والسمت الفني، وقبل هذا وذاك استلهام روح البشر قبل الحجر، ونمط حياتهم واهتمامتهم وأحلامهم ومعاناتهم وهواجسهم.
فسطاط الشافعي لا شاهد عليها ولا أثر.. ولا يوجد دليل ملموس عنها إلا في ما ندر.. فقط مرويات مأثورة متناثرة هنا وهناك.. خجولة أو ربما منسية.. عن مصر وأقباطها وعلمها وجامعها الكبير وساستها وأطماعهم وثوارها الأنقياء التعساء.
مرويات اجتهد الجميع بلا استثناء في استلهام وتجسيد مضامينها.. جميع عناصر «رسالة الإمام» من كتابة وبحث وإخراج وتمثيل وتصوير وديكور وإكسسوار وصوت ومونتاج ومكساج وموسيقى تصويرية وجرافيك وتصميم معارك وملابس ومراجعة لغوية وفقهية ومجاميع كومبارس وإنتاج وخدمات و.. و.. و..، تبارت كلها لاستحضار الفسطاط والشافعي وزمانهما على الشاشة الصغيرة.
ما مر على الشاشة في لمح البصر، هو في معظمه فيض قليل للغاية من قصة ورحلة عذاب مجهولة جرت في الكواليس لتجسيد الفسطاط وأحوالها وحضارتها وتفاعلها الإنساني مع الحضارة المصرية بطبقاتها المتعددة الراسخة، فضًلا عن رصد وإبراز منجز علمي فذ بلا شك لأحد أهم أعمدة الفقه الإسلامي عبر التاريخ (الإمام محمد بن إدريس الشافعي)، وهو منجز ظهر للنور من أرض مصر ومن قلب منارتها العلمية الرائدة، جامع عمرو بن العاص/ الجامع الكبير، والأهم بمعاونة شريفة مؤثرة من جانب فتية معظمهم من نبت تلك الأرض الطيبة، ممن تحولوا إلى أعمدة مرموقة في الفقه والعلم والدين في مصر ومحيطها العربي الإسلامي لعقود بل وقرون تالية.
فيضٌ ثري لا حدود له، نبع من قلب مهمة بحثية شبه انتحارية، متعددة الطبقات والمستويات، استمرت شهورًا طويلة، في ما التهمت في طريقها العشرات من كتب المناقب والأثر وأمهات الكتب التاريخية والفقهية والعلمية واللغوية القديمة والحديثة، ناهيك بكل سطر أو مروية كتبها الشافعي من روحه، أو نسبت إليه بيقين لا جدل فيه.
حتى أطروحات القدح في الإرث العلمي للشافعي كان لها نصيب من رحلة اكتشاف الإمام، طالما كانت تستهدف تسجيلًا موضوعيًا لقراءة نقدية حقيقية لا شتم بلا هدف.
رحلة تعانق فيها كثيرون وتفاعلوا واختلفوا وتشككوا في بعضهم البعض حتى.. رحلة جمعت عديدين من أزمنة ومنطلقات متعارضة.. رحلة تجاور فيها الشافعي نفسه مع المقريزي وفخر الدين الرازي والبيهقي وابن حجر العسقلاني والشهرستاني والسيوطي والحافظ الذهبي وأبو عمر الكندي ومحمد أبو زهرة ومصطفى عبد الرازق وأحمد نحراوي الأندونيسي وعبد الرحمن الشرقاوي وأحمد تيمور باشا والدقر والناجي لمين ونصر حامد أبو زيد وسيدة كاشف وهويدا عبد العظيم رمضان وثناء عبد العظيم ومحمد أحمد إبراهيم وأيمن فؤاد سيد وفريد الشافعي وعلى بهجت وسيد عويس وأدولف جروهمان وخالد عزب وسعيد مغاوري وزكي محمد حسن، والقائمة تطول وتمتد بلا أفق.
آفاق الرحلة
رحلة تعرجت بين قاعات وأركان المتاحف المصرية والعربية والعالمية، وطرقت أبواب أكاديميين معتبرين في التاريخ واللغة والآثار والفنون والمذاهب الفقهية وأصول الدين مصريين وعربًا وأجانب.
كوابيس وأحلام الشافعي والمصريين اختلطت في الفسطاط في نهاية القرن الثاني الهجري وبداية القرن الثالث الهجري، ولم تنفك تتجدد في عام 2023 تحت الجفون وفي نوبات النوم النادرة الخاطفة أثناء إعداد المادة البحثية وكتابة وتصوير ومونتاج «رسالة الإمام»، حتى اختلط الأمر بشدة وتماهى المرء مع ما يصنعه، وتلاشت الحدود لديه ما بين الواقع والخيال، والاستحضار والتجسيد.. ما بين الماضي والحاضر.. ما بين الواقعي والخيالي.
بات من الصعب معرفة أي كوابيس نعيش وأي أحلام نريد.. هل قلق السري بن الحكم وهو يدخل الفسطاط واليًا رغم أنف أهلها، هو السائد، أم أن قلق تجسيد تلك الواقعة على الشاشة بمشاعرها ودلالاتها هو السيد؟
ما كان سبب تلك الشدة داخل اللوكيشن، هل الواقعة التاريخية استدعت زعابيبها، أم أن الحرص على محاكتها بعين غير مستأنسة أو خاضعة لسطوة ثوابت الماضي متلمسة بشغف للمستقبل هو من وتر الأجواء؟
الحد الفاصل بين حدة الاختلاف والتناحر الفقهي ما بين الشافعي من جهة، وفتيان بن أبي السمح وعموم المالكية من جهة أخرى، تاه عن ظرفه التاريخي وحدوده بلا أدنى شك، وصار تمثيله مشقة ممزوجة بالقلق والعبرة وبعض من الحيرة.. أهي النعرة المذهبية الآثمة تتخطى الأزمنة والعصور، أم تحول الأمر إلى معركة من أجل ترسيخ حرية الاختلاف والعيش ضمن أطر متضادة ومتعارضة في حاضر لا يزال يستنسخ كل ما هو مقيت من ماضيه؟
هل الطعن في شرف امرأة من الفسطاط فقط لأنها لبت نداء القلب، أو قتل بريء لأجل الفوز بزوجته المخلصة، أو نحر شريف ليكف عن المطالبة بحقوق أهله المهدرة، وغيرها من أسئلة المسلسل الكبرى، كانت من باب الحبكات الدرامية، أم يمكن سطرها في خانة المعاناة والألم والحظوظ العاثرة التي طالما جثمت كشبح شيطان نجس على روح ومخيلة وسيرة هذا البلد المكلوم دائمًا في مصيره؟!
رسالة مسلسل الإمام
صار التمييز بين الواقع التاريخي والخيالي المستلهم غائمًا.. وحرجًا في أغلب الأحوال.
رسالة الشافعي القائلة بأن مسائل لا حصر لها تجمعنا فلا يصح أن تفرقنا مسألة، ورسالتنا أن نصون حقنا في الاختلاف، في الاعتراض، في الجهر بـ«لا»، صار من الصعب التفرقة بينهما على الشاشة.. أكان هم الإمام والفسطاط أم همنا الخاص نحن؟
تلاشت فوارق الأزمنة وصار الماضي حاضرًا، والحاضر ينظر إلى غده وهو يقرأ وينتقد ويقيّم ما فات من أيامه القريبة والغابرة.
مشقة لذيذة جسدت لحظات فارقة من تاريخ مصر والفقه الإسلامي.. رحلة حاربت عثرات ورهانات فشل لا تنتهي.
لكنها واصلت واستكملت طريقها بتصميم وعناد واطمئنان إلى صحة الموقف وصدق الشغف والنوايا والإيمان بالرسالة والنجاح، وهو ما لا يستقيم وأي نوايا عن تحريف أو تدليس في سيرة الشافعي ومصر قدحًا أو مدحًا.. فلا حاجة لحشد كل ذلك الألم لأجل غرض دنيء..
وبالمنطق ذاته، فالفشل لا يجرؤ على الاقتراب من الكفاءة والتمكن من الأدوات، وكواليس رسالة الإمام كانت مختصرًا لقصة مبهرة للتباري بين الأشطر والأصدق والأكثر ألقًا وجهدًا وتفانيًا، كلٌّ في مجاله.
صحيح أنه لا كبير على الخطأ، لكن ليس صحيحًا أن الشاطر بالضرورة سيقع في فخ ما، فكلما هجر الغرور، وطور أدواته، وتحسب للصغيرة قبل الكبيرة، فسيكمل طريقه إلى أقرب نقاط الكمال، وحتى لو انزلقت قدماه عرضًا ودون قصد إلى هامش العثرات فستكون بلا ريب في حدودها الدنيا، وتلك قصة نجاح أخرى في «رسالة الإمام».
الرسالة وصلت.. رسالة الشافعي العالم المجتهد المؤثر.. رسالة العلم بصفته الضامن الوحيد لحياة وحرية الناس.. ومغامرتنا/ رسالتنا كذلك وصلت بعلم الوصول عبر الشاشات رغم الألم والمعاناة، أو إن شئنا الدقة وصلت بختم الفسطاط، حيث الأمل لا ينقطع ما دام نيلها يتدفق باذرًا الخير من مائه الذي لا يكف عن الجريان في عروق الناس..