خيال استعار صفة الوجود: حول ماهية الحياة والحقيقة
على مدخل معرض كبير لا أذكر اسمه، قرر فنان كبير لا أهتم باسمه، أن يكتب جملة مُعبرة، تجعل أذهان كل من يزور المعرض تدور حول نفسها، فكتب: «ما هو الحقيقي؟».
سؤال مثير… ولا عجب أنه كان اللغز الثالث بالنسبة لفلاسفة الإغريق، بعد سؤالي: من أي مادة صُنع الكون؟ ومن أين أتى؟
يزداد غموض السؤال مع أطروحة شوبنهاور في كتابه المثير للجدل «العالم إرادة وتمثلاً»، والذي ادعى فيه أننا:
أي أننا لا نرى العالم كما هو بل كما تُسوِّل لنا أنفسنا، أحيانًا نراه كما نريده أن يكون، وأحيانًا أخرى نراه كما نخشى أن يكون، وكل ذلك لأننا ننظر للعالم من خلال نظارات خبراتنا السابقة وأسلوب نشأتنا وتطلعاتنا المستقبلية.
وخلال طريقة النظر تلك قد يختلط علينا الحقيقي من غير الحقيقي، وقد نرى من الأشياء ما ليس له وجود، وقد تخدعنا أنفسنا حتى نشعر بأوهام من صنع الخيال ونظن أنها حقيقة وواقع كما قال ابن سينا «شر الداء الوهم».
فليس فقط ما نراه، بل حتى ما نشعر به بداخل نفوسنا ليس من الضروري أن يكون حقيقيًّا. لذلك وجب أن نسأل كما سأل من قبلنا:
هل الألم غير حقيقي؟
يقول عالم النفس الكندي «جوردان بيترسون» في كتابه Maps Of Meaning، أن الطريقة المبدئية لمناقشة حقيقة الأشياء من عدمها، هي افتراض أن الألم حقيقي ولا يمكن لأحد إنكاره، وعلى ذلك الأساس نقوم بتصنيف الأشياء الحقيقة على أساس احتوائها على صفات الألم من حيث قوة التأثير والشعور الداخلي ذي الآثار النفسية الظاهرة التي لا يمكن تجاهلها أو تجنبها، فالأشياء الحقيقية هي التي لا يمكن أن نغض الطرف عنها، فهي التي تلتهمنا دون أن تُمهلنا الوقت لنفكر في حقيقتها، وهي الأشياء التي لا مفر منها ولا يختلف في رؤيتها وإدراك وجودها اثنان.
أطروحة كان من الممكن أن نبتلعها بسهولة لولا المبدأ الرواقي الذي يقر أن الألم نسبي، فالفلاسفة الرواقيون Stoicism لا يرون فقط أن الألم يتغير بتغير الفرد الذي يمر بنفس الظروف، بل يتغير بتغير الطريقة التي ينظر بها الفرد إلى ألمه. فعند النظر إلى العالم من حولنا، سيصبح من السهل إدراك أنه أمام كل شعور جيد هناك أكثر من سبب للشعور بالسوء، والزهرة الجميلة إذا نظرت لها فيمكن أن يراودك شعور فوري بالسعادة لجمالها ونضرتها، وفي نفس الوقت من الممكن أن يراودك شعور فوري بالكآبة والحزن لمجرد تذكرك أن مصيرها الذي لا مفر منه هو الفناء والذبول، أي أن ما تشعر به ليس نتيجةً لما ترى، بل نتيجة لقرارك في طريقة النظر لما ترى.
ليس ذلك فقط، بل لو افترضنا حالة شخص عقيم، قضى ثلاثين عامًا يتنقل مع زوجته بين الأطبة طمعًا في الذرية وأملًا في حلم أن يصير أبًا. وعندما بلغ من الكبر عتيًا، شاء القدر أن تزف إليه زوجته الخبر السار الذي طال انتظاره، فاستقبله بسرور ليس بعده سرور، وبعد أن انتظر تسعة أشهر بفارغ الصبر، حتى إذا ما جاء اليوم المنتظر وأنجبت زوجته الولد، ماتت أمه في نفس اليوم، فأي شعور سوف ينتاب صاحبنا؟ شعور الفرح بالمولود الذي طال انتظاره؟ أم بالحزن على فقد أمه التي لن يُعوِّضها أحد؟
وأيًّا يكن ما يشعر به صاحبنا، فلن يتحدد إلا بطبعه هو وطريقة نظرته للأمور وقراره عن أي الأحداث سيغض الطرف ويتجاهل مؤقتًا، وأي الأحداث سوف يُركز عليه ويسمح له بالتحكم في شعوره.
وفي ذلك يقول ابكتيتوس:
فهل كون الشعور بالألم يتوقف على قرارنا، يمنع كونه حقيقيًّا وتضعه تحت مظلة الأوهام؟ فليس من الضروري أن تكون كل الآلام حقيقة، بل بعضها -إن لم يكن معظمها- هو من صُنع عقولنا، أو كما يقول سينيكا:
أليس من المفترض أن تكون الأشياء الحقيقية أشياءً واقعة لا يمكن تغييرها أو الفرار منها، ولا يمكن أن نُوهم أنفسنا بها أو بعكسها؟ أم أن هذه الفرضية ليست هي الفرضية الصحيحة لتحديد ما هو الحقيقي من الأساس؟
هل الأشياء المؤقتة حقيقية؟
يهرب من هذه الفرضية الفيلسوف الإسباني الذي لا أجيد نطق اسمه Miguel De Unamuno، ويفترض أطروحة جديدة تقول إن «الأشياء الحقيقية هي الأشياء غير القابلة للفناء»، أو بمعنى أصح «الأشياء المؤقتة لا يُعول عليها»، لأن تغيرها المستمر يمنعنا من الاعتماد عليها وجعلها دوافع لأفعالنا. وهذه نظرة تجريدية تشبه نظرة الأديان للملذات الجسدية، وكما يقول «علي ابن أبي طالب» (رضي الله عنه): «إذا أغرتك اللذة فتذكر زوالها».
أمَّا ما قصده الفيلسوف الإسباني هو أن الأشياء الحقيقية هي الأشياء الدائمة مثل الحب والأدب، والحب الحقيقي بالنسبة له هو الحب الذي لا ينتهي، ودليل زيف أي شعور هو انتهاؤه وتحوله من صورة إلى صورة، سواء كان لذة أو ألمًا، محبة أو كراهية، زهدًا أو تعلقًا، فالانتهاء والزوال علامة على عدم صدق الشعور من البداية واعتباره غير فارق (indifferent بلفظ الرواقيين) أو غير مُجدٍ (absurd بلفظ العبثيين)، وذلك مثله مثل المشاعر التي تنتاب المرء أثناء أحلام اليقظة والمنام، فهي خيالات مؤقتة لا تضر ولا تنفع، وبالرغم من إحساس المرء الذي يشعر بألم قطع يده في الحلم، إلا أنه يستيقظ ليجد يده سليمة دون أن يصيبها مكروه. لكن ماذا لو كانت أحلام اليقظة دائمة، هل يجعلها ذلك حقيقية؟
هل من الممكن أن تكون الحياة مجرد وهم؟
يقول بوذا في كتاب الدامابادا:
كما اتفق معه «علي بن أبي طالب» في قوله إن «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا». وفي ذلك يقصدان أن الوجود وهم، حلم مؤقت لا حقيقة فيه إلا الاشياء غير الفانية، مثل المشاعر الدائمة والنوايا والأعمال الصالحة، ومن هنا ظهرت أطروحة الخيال والعارية الوجودية عند المتصوفين المسلمين.
يستشهد الإمام «عبد الكريم الجيلي» المُلقب بفيلسوف الصوفية، بقول الله تعالى، لعبده يوم القيامة:
فيقول الجيلي إن الوجود خيالٌ في خيال. خيالٌ أعاره الله صفة الوجود فظهر لأعيننا وكأنه حقيقة، وكأنه واقع، مثل الثلج غير قائم بذاته، لكنه استعار صفة الوجود من الماء. والغرض من تلك النظرة هي الفناء والتجرد عن الماديات، والسعي وراء التخلص من الغفلة ورؤية الأشياء على حقيقتها.
ويقول الجيلي في كتابه «الإنسان الكامل»:
ويُشبِّه الوجود بمثل الثلج غير قائم بذاته، لكنه استعار صفة الوجود من الماء، فيقول:
أي الأطروحات صحيحة وأيها خطأ؟
أعتقد أن الفلسفة الأقرب للقرن الواحد والعشرين هي اللامذهبية الفلسفية. ليس علينا إعادة اختراع العجلة ولا الانتماء كليًّا لفلسفة بعينها، بل علينا أن نوصل النقاط ونجمع القطع للوصول إلى إجابات متعددة المصادر لما يؤرقنا، وتلك ليست عملية جماعية، بل تختلف من فرد لفرد، فالفلسفة هنا شخصية أكثر، فليأخذ كلٌّ منَّا منها بقدر كفايته، مثلما يغترف العطشان من النهر الجاري بقدر حاجته.
وعلينا أن نضع في الحسبان أن التعمق في هذه الأطروحات مثل النظر إلى السماء، ومحاولة الوصول إلى إجابة سؤال «ماذا ترى؟». فواحد يرى شكل السحاب، وآخر يرى النجوم الساطعة، وآخر لا يرى شيئًا. والثابت أنه لا توجد في الحياة إجابات صحيحة وأخرى خاطئة، فكل علامة طريق تشير إلى الانحراف يمينًا تقابلها عشر علامات أخرى تشير إلى العكس، فلا توجد فلسفة صائبة وأخرى خاطئة، بل فلسفة مناسبة وأخرى غير مناسبة.
وكما أن التغيير سُنَّة الكون، فلا تتغير فقط الأحداث والمواقف، بل عقولنا وأفكارنا وآراؤنا. ولا يمكننا أيضًا أن نتوقع ألا تتغير الإجابات مع الوقت وباختلاف الظروف والأفراد، تلك المرونة الفكرية هي سلاحنا الوحيد ضد عدم استمرارية أي شيء في الحياة، وهي المجداف الذي نقود به قارب الفهم حتى نصل إلى بر الأمان. وسواء تبنيت أي الأطروحات السابقة لوضع مقياس ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، أو بحثت عن أطروحة مختلفة، فعلينا ألا ننسى أن كل أطروحة ليس الغرض منها هو تقديم إجابات بل إشارات، تعيد لفت انتباهنا لطبيعة الأشياء من حولنا، وتنصحنا بإعادة النظر إلى الأشياء التي عهدناها بديهيات، لأن من الممكن أن تحتوي على كل ما نبحث عنه.
فأطروحة «الألم هو الحقيقي» تُوجِّه انتباهنا إلى طبيعة ما نشعر به، وتُحذِّرنا من الأوهام التي نصنعها في مخيلتنا، وتُذكِّرنا بالقيمة الفائقة للانتباه وما ننظر إليه وما نغض الطرف عنه وتأثيره في مسار حياتنا. أمَّا أطروحة «الأشياء المؤقتة» فواجبها أن تُرشدنا نحو عدم أخذ الحياة بجدية زائدة عن الحد، فكل شيء فانٍ ومؤقت ومنْ يلهث وراء الأشياء الفانية مثله مثل من يبني بيوتًا من الرمل على شاطئ البحر، ما يلبث أن يتعلق بها حتى تهب موجة جديدة تدمر كل ما بنى وتتركه ملومًا محسورًا.
أمَّا أي الفلسفات يعتنق القارئ وبأيها يقتنع، فتلك مسئولية تقع على كتف القارئ وحده، واختيار يقوم به حسب عقله وفهمه، فكما قلنا فليأخذ كل منا الأطروحات السابقة بقدر كفايته مثلما يغترف العطشان من النهر الجاري بقدر حاجته.