أكلاشيه «أنا الدولة» القبيح: عن فيلم «The Post»
في عز تغول سلطة من يظنون أنهم بوجودهم على رأس الدول والأنظمة، قد أصبحوا دولة فوق الدولة، وسلطة فوق كل السلطات، ومعبرين وحيدين عن إرادة خاصة تلغي إرادة شعوبهم؛ تبقى هناك في الكثير من الأحيان سلطات شعبية قوية تجاهد كي تُبقِي المجال العام مفتوحًا.
تجاهد لتضع أولئك تحت المسائلة وتصفعهم من حين لآخر على وجوههم المغرورة، لتضعهم أمام حجمهم الحقيقي، وليتذكروا أن السلطة الحقيقية للشعوب التي لها وحدها الحق في حفظ مصالحها، وتقرير مصائرها، والتعبير عن إرادتها، وتصحيح مسارها في خضم تقلبات التاريخ مهما حاول رجال صغار في العبث بهذا المسار!.
في كواليس صاحبة الجلالة الملقبة بالـسلطة الرابعة؛ تمضي أحداث آخر أعمال المخرج الأمريكي الكبير «ستيفن سبيلبيرج» في فيلم «The Post» على خطى أعمال تدور في عالم الكشوفات الصحفية التي غيرت مسار التاريخ.
أعمال مثل «كل رجال الرئيس – All The President’s Men» عام 1976، حين أماطت صحيفة الـ«واشنطن بوست» اللثام عن فضيحة تجسس الرئيس الأمريكي «نيكسون» على مكاتب الحزب الديمقراطي، وانتهت باستقالته.
وأيضًا فيلم «Spotlight» عام 2015 حول خلية تحقيقات استقصائية بجريدة الـ«جولدن جلوب»، تتبعت قضايا التحرش الجنسي بالأطفال التي تورط بها أساقفة كاثوليك.
وعلى خطى أساطير الصحافة الأمريكية «بوب وودوارد» و«كارل برنستين» اللذين يعود إليهما الفضل في كشف أحداث «ووترجيت» على صفحات الـ«ـواشطن بوست». تدور أحداث فيلم «The Post» في نفس أروقة الجريدة العريقة في أوائل السبعينات، في عز تورط القوات الأمريكية في مستنقع حرب فيتنام.
حينها تم تسريب وثيقة رسمية مكونة من مئات الصفحات، تكشف تورط الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ قيام الحرب في عام 1955 بالكذب على الشعب الأمريكي عمدًا، بخصوص تطور الوضع على جبهة القتال، وإخفاء حقائق مرعبة من أجل شحن المجتمع الأمريكي من أجل استمرار الحرب، والدفع بعشرات الآلاف من أبناء الشعب الأمريكي ليلقوا حتفهم من أجل قضية خاسرة، ولا يبدو لها أي أفق ضئيل للنجاح!.
تكشف أولًا صحيفة الـ«نيويورك تايمز» عن وجود تقرير قام بإعداده فريق عمل تحت إشراف وزير الدفاع «روبرت مكنمارا» (جسّده باقتدار الممثل المخضرم «بروس جرينوود» الذي بدا نسخة طبق الأصل من «مكنمارا» بنظارته وتسريحة شعره المميزة).
يوضح التقرير الخلل في الحرب في فيتنام، وأن استمرار الحرب والدفع بالقوات لا يهدفان سوى للمحاولة لحفظ ماء وجه الإدارات الأمريكية المتعاقبة حتى تبدو وكأنها لم تنهزم بعد، دون أدنى احتمالية لتحقيق النصر، ولم يتح للتايمز التوسع في نشر التفاصيل، لأن «نيكسون» قام فورًا بتحريك أمر من المدعي العام الأمريكي لوقف النشر في القضية بدعوى الإضرار بالأمن القومي.
وفي خضم محاولة مالكة جريدة «البوست» سيدة المجتمع «كاي جراهام» -العظيمة «ميريل ستريب»- في الحفاظ على الجريدة التي ورثتها عن أهل زوجها الراحل، وتحقيق مبيعات وأرباح، والانغماس مع مجلس الإدارة في إدراج الجريدة على البورصة الأمريكية لاجتذاب استثمارات تعاونها على مواجهة الصعوبات المالية التي تواجه الجريدة.
يستطيع الفريق الأساسي بالصحيفة بقيادة رئيس التحرير التنفيذي «بن برادلي» –العملاق «توم هانكس»- في تتبع خيط يقود الجريدة عبر عملية استقصائية معقدة، للوصول إلى مصدر الوثائق، والحصول على أغلبها ثم القيام بتحليلها ليفاجئ الجميع بمدى الكذب الذي مارسته الإدارات الأمريكية المتعاقبة، من أجل إخفاء الحقائق للحصول على الدعم الشعبي للحرب.
وهنا تجد الجريدة نفسها أمام مأزق. هل تقوم بنشر تلك الحقائق على الرأي العام في تحدي لتهديدات «نيكسون» بالمصادرة، والسجن تحت دعاوى الأمن القومي، والحفاظ على سرية المعلومات؟ أم تخضع لتلك التهديدات من أجل أن يمضي طرح البورصة دون مشاكل، وتتمكن الجريدة من المضي قدمًا في إصلاحاتها الاقتصادية دون منغصات من البيت الأبيض؟
يقال إن «سبيلبرج» كان مشغولًا في مشروع سينمائي آخر حينما وصله سيناريو «The Post» الذي صاغه كاتب شاب في أول أعماله السينمائية. وما كان من «سبيلبريج» إلا أن أوقف المشروع، وقرر تحويل سيناريو «ليز هاناه» –33 عامًا- إلى عمله السينمائي الجديد، بعد أن أوكل لكاتب سينمائي آخر مخضرم «جوش سينجر» مهمة مساعدة «هاناه» لتدقيق الحقائق التاريخية، والخروج بالنسخة النهائية من قصة الفيلم.
يأتي هذا خصوصًا أن «سينجر» متخصص في كتابة المسلسلات والأفلام ذات الطبيعة الصحفية والسياسية، ومن أشهرها فيلم «The Fifth State» عن قصة موقع «WikiLeaks»، ومؤسسه «جوليان أسانج». كذلك مسلسل «The West Wing» الذي تدور أحداث مواسمه السبعة داخل أروقة الطاقم الرئاسي في البيت الأبيض.
وأضاف «سبيلبرج» نكهة تاريخية خاصة، حين استعان بالشرائط الحقيقية التي تسجل المكالمات الهاتفية في البيت الأبيض، حيث أعاد إذاعتها كما هي في المشاهد التي تتناول اللغة الحادة والعصبية التي خاطب فيها «نيكسون» معاونيه، ومستشارِه للأمن القومي «هنري كيسنجر»، من أجل شن حرب على الواشنطن بوست، ومقاضاتها أمام المحكمة الدستورية العليا.
الفيلم تحفة فنية على جميع المقاييس. فأداء «ستريب» الذي نجح في إظهار مدى حجم الصراع الدائر في عقل وروح مالكة «البوست»، قبل أن تتمكن من حسم أمرها بتمكين صحيفتها بأداء واجبها الأصيل، في نشر الحقائق للشعب، حتى لو وضعها ذلك أمام مخاطرة دخول السجن، وخسارة صديقها المقرب «ماكنمارا»، ووضع الصحيفة والعاملين بها أمام مستقبل غامض.
أيضًا أداء «هانكس» كصحفي محترف قادر على تحقيق خبطة صحفية تاريخية بأعلى قدر من الاحترافية رغم كل الضغوط الواقعة عليه. كذلك الممثل «بوب أودنكيرك» –المشهور بدور البطولة في مسلسل «Better Call Saul»- الذي نقل إلينا عبر تجسيده لدور الصحفي «بن باجديكيان»، حالة التوتر والمسؤولية التي تقع على كاهل الصحفي الملتزم كما يجب أن تكون، وبلورته لروح الصحفي المقاتل الذي يهدد بالاستقالة بشرف واستقلالية إذا أذعن الجميع للتهديدات بعدم النشر.
«كامينسكي» تحديدًا –وهو المصور المفضل لـ«سبيلبرج» وصاحبه في جميع أعماله الأيقونية تقريبًا ومنها قائمة «شاندلر»، وإنقاذ الجندي «رايان»، وتقرير الأقلية- استطاع ترجمة رؤية «سبيلبرج» من أجل خلق ساحة قتال داخل الجريدة والمطبعة، وقاعة المحكمة الدستورية العليا ومنازل «جراهام» و«برادلي»، لتنقل لنا شعورًا عميقًا بالاعتزاز الذي يكتنف أفراد شعب لديهم الحمية للدفاع عن معتقداتهم في الحرية والاستقلال، ومقاومة التسلط وغباء شعبوية «أنا السلطة» القادمة من ساكن البيت الأبيض.
استكمل بناء التحفة فريق عظيم من مبدعي هوليوود، وضعونا داخل تلك الحقبة بكل التفاصيل البصرية التي غمستنا في عالم السياسة والصحافة والحرب في فترة السبعينات. ملابس «آن روث»، وديكور «كيم جيننجس»، «دبراه جينسن»، «رينا دي»، كاميرا «جانوس كامينسكي» –أغلبهم رشحوا أو حازوا على الأوسكار- وستشعر بالانبهار.
كاميرا «كامينسكي» تدور بك في لقطات طويلة واسعة داخل مطبعة «البوست»، لتتعرف على أدق تفاصيل الصف والتوضيب والطباعة، لنسخ الجريدة التي غيرت وجه العالم!.
اقرأ أيضًا:فيلم «The Post»: سبيلبرج يشن حربًا ضد ترامب
بوستر الفيلم نفسه –وعلى بساطته- مليء بالرموز. حيث تصعد «كاي» على درج المحكمة الدستورية العليا في شموخ عاقدة ذراعيها وراء ظهرها في اعتداد، فيما يتبع خطاها «بن»، وتبدو سلالم الدرج صاعدة دون نهاية في خطوط مستقيمة، مشبعة بالحبر والحروف، وكأنها خطوط مقال صحفي عريض، يحفران بكل خط فيه أثرًا غائرًا في صفحات التاريخ.