مرض العصر: قلوبٌ شابة في مرمى الموت
هبَّ طبيبُ القلب حديثُ التخرج من مقعده مُتَثائبًا على وقْع أنّاتٍ اعتادَ سماعَها. كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة بعد منتصف الليل بقليل. لفت نظرَه ذلك الشابُ الداخل إلى غرفة الكشف مستندًا على كهلَيْن! بينما قبضة يده تعتصرُ منتصف صدرِه كأنما يحاول منعَه من الانفجار. أقلقهُ مشهدُ الشاب ذي الثلاثين عامًا الذي لا يكاد يقوى من شدة الألم على الرد على أسئلته، بينما تنهمرُ سيولُ العرق من كل شبر من جسمه. انفجرت الأسئلة في عقل الطبيب الذي أنهى في نصف دقيقة استطلاعَ التاريخِ المرضيّ الأساسي للشاب، أيكون هذا الشاب المدخن النحيل الذي لا يعاني من ارتفاعٍ بالضغط أو سكر الدم أو تاريخ مرضيٍّ أو عائليٍّ لأمراضٍ بالقلب نزيلًا جديدًا برعاية القلب المركزة؟!
وفجأةً انتُزع الطبيب من شروده انتزاعًا، وتبخَّرَت بقايا النعاسُ في عينيه في لحظة؛ فالشكل المميز المرسوم على ورقة رسام القلب الكهربائي ECG للمريض الشاب لا يمكن أن يختلف عليه اثنان من أطباء القلب. تدفق الأدرينالين في عروق الطبيب وهو يركض حاملًا رسمَ القلب نحو مكتب طبيب الرعاية. فالموجود في هذا الرسم يعني الكثير، بل الكثير جدًا.
مرض العصر
تخبرنا الإحصاءات أن أمراض القلب تكاد تتربع بلا منازع على عرش أسباب الوفاة في زماننا. تعددت التفسيرات لتفسر هذا الانتشار المرعب في أيامنا، ولعل أقربها للمنطق هو أنماط الحياة غير الصحية وغير الفطرية المنتشرة في أيامنا، والتي تتقاذفُنا فيها ضغوط الحياة وانفعالاتها، والوجبات السريعة ودهونُها المشبعة وقيمتها الغذائية الكليلة، وكذلك تقديمُ مشاهدة الرياضة على ممارستها، وانتشار وباء العصر، السّمنة، والتي تفتح الأبواب على مصراعيها أمام الثنائي الفتاك، الضغط والسكر.
في الصدارة من أمراض القلب، تأتي أمراض قصور الشرايين التاجية المغذية للقلب Coronary heart diseases. وهذا القطاع لخطورته وانتشاره استحوذ على نصيب الأسد من الأبحاث والدراسات الحديثة في طب القلب. وأصبح من المعلوم من طب القلب بالضرورة أن هناك العديد من عوامل الخطر التي تفتح الباب على مصراعيهِ أمامَ مُختلفِ درجات هذه الأمراض القاتلة، وأشهرُها ارتفاع ضغط الدم Hypertension والسكر Diabetes Mellitus والتدخين Smoking، واختلال نسب الدهون بالدم Dyslipidemia والسمنة Obesity وأنماط الحياة التي يغلب عليها الكسل sedentary lifestyles … إلخ وتزداد خطورة آثار هذه العوامل مع زيادة مدة تعرضِ الإنسان لها، والتقصيرِ في التخلص منها، أو على الأقل التحكم فيها.
هناك أيضا دورٌ للجينات والتوارث العائلي، لكن بما أنها عواملُ قدرية non- modifiable لا دخل للإنسان فيها، فلن نركز عليها هنا.
طريق الخطر
القصة باختصار – ودون الخوض في تفصيلات طبية فنية – أن القلب – كباقي أعضاء الجسم – يحتاج إلى تغذية دموية كافية ليقوم بدوره بكفاءة. الشرايين التاجية هي الشرايين المغذية للقلب. جدران شرايين الجسم – ومنها التاجية – مُبَطَّنةٌ من الداخل بكيفيةٍ تجعلُها ناعمةً متناسقة، ينساب خلالها الدم بسلاسة دونما استفزاز لآليات التجلط الطبيعية والتي يتركز دورها الطبيعي في إيقاف النزيف من الجروح المفتوحة. عوامل الخطر السابق ذكرها تفسد البيئة الطبيعية في الشرايين التاجية، إذ تسبب بشكل أو بآخر تراكمَ الدهون في بطانة الشرايين التاجية، مما يُفقِدُها مرونتَها الطبيعية، كما يسبّب تضخمًا غيرَ طبيعي ٍ في جدرانها على حساب التجويف الداخلي الذي يمر منه الدم. يسمى ما سبق – مجازا – بتصلب الشرايين atherosclerosis. كما يفقدُ النسيج المبطن للشرايين طبيعةَ خلاياه المخملية الناعمة الملساء endothelial dysfunction.
وهكذا تضيقُ الشرايين التاجية، فتقل كميةُ الدم التي تستطيعُ إيصالَها للقلب. وعند بذل أي مجهود – الجري مثلا أو صعودَ السلم أو حتى الانفعال الشديد – يحتاج الجسم فورًا إلى نشاطٍ أشدَّ من القلب ليغذي العضلات، فيطلب القلب تغذيةً دمويةً أكثر، فلا يجدها نظرًا لضيق شرايينه، فيبدأ بالشكوى على شكل آلامٍ بالصدر يشعر بها المريضُ، والذي يشعر أيضًا بضيقٍ في التنفس، فيضطرُّ إلى التوقف للراحة.
لحظة الحقيقة!
لا تقتصر المشكلة على هذا القدر. ففي لحظةٍ ما تحملها الأقدار للمريض – يقربها جدًا عدم التعامل الحياتي والدوائي اللازم مع عوامل الخطر وتوابعها – يبدأ تفاعلٌ متسلسلٌ خطير، غالبا ما يحدث في المناطق شديدة الضيق من الشريان، إذ يحدث التهاب شديد أو ما يشبه الانفجار في مناطق ترسب الدهون بجدار الشريان، فيتْلـَفُ السطح الأملس الداخلي لجدار الشريان أكثر، فتحتكُّ بعضُ صفائح التجلط الدموية Platelets بجدران الشريان التاجي المريضة في هذه المنطقة، فتبدأ آليات التجلط بالحدوث داخل الشريان، فينغلق مسار الدم تمامًا! بينما تنفتح الأبواب على مصراعيها لكل ما لا يُحمَد عقباه.
MI ….. MI
جلجلت صيحة طبيب الرعاية، فهبَّ طاقم التمريض كأنما أصابهم مسٌّ من الشيطان! وُضع الشاب المتألّم على السرير، تم توصيل أسلاك المرقاب وجهاز قياس التشبع الأكسجيني لمراقبة نبضات قلبه وكفاءة تنفسه. وُضِعَت عربة الإنعاش إلى جوار السرير، ويربضُ على سطحها في ترقب مخيف جهاز الصدمات الكهربائية.
فم المريض يستقبل أربعة أقراص من الأسبرين Aspirin مثبط الصفائح الدموية ومثلها من شقيقه الكلوبيدوجريل Clopidogrel و 2 من الأتورفاستاتين Atorvastatin مثبط التصلبات الدهنية. يستقبل دمه جرعات محسوبة من الهيبارين مانع التجلط. يتصاعدُ أنينُ المريض، فيحاول الطبيب تلجيم الألم بالمورفين Morphin ريثما يتم إبلاغ طاقم القسطرة القلبية بالاستعداد للتعامل العاجل مع الحالة.
يحاول الطبيب التحدث مع المريض لاستكمال النواقص في الصورة. الألم بدأ منذ ساعتين فقط لحسن الحظ، إذن فهناك فرصة جيدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والخروج بأقل الخسائر على صحة المريـ …… يُنْتَزَعُ الطبيب من شروده على صوتِ أحد زملائه يخبره أن هناك مشكلة فنية طارئة في جهاز القسطرة القلبية …. سحقًا! .. إن أقرب مركز للقلب يمتلك جهازًا لقسطرة التدخل القلبي العاجل primary PCI يبعد أكثر من ساعتين. لا مفر إذًا من استخدام مذيب الجلطة thrombolytic لإعطاء وقتٍ إضافي لهذا القلب الشاب الآخذ في المشيب.
الاحتشاء القلبي: اسمٌ لا يقل رعبًا وغموضًا عن مسمَّاه
الـ MI أو الـ Myocardial Infarction اسم له رنين خاص ومرعب في عالم الطب، خاصة لدى أطباء أمراض القلب والطوارئ والرعاية المركزة. تسمى بالعربية «احتشاء عضلة القلب»، ودون الخوضِ في جدالات لغوية في أصل الترجمة ودلالاتها، فالمقصود هو تأذي عضلة القلب والذي قد يصل إلى التلف الدائم لأجزاء منها نتيجة الانقطاع التام للدم المغذي لها. تتربع الـ MI على عرش الخطورة بين أمراض الشرايين التاجية للقلب. وهي تنتج عند حدوث انسداد – عن طريق تكون جلطات – شبه تام أو تام في أحد الشرايين التاجية، فتنقطع التغذية الدموية عن جزء عضلة القلب الذي يتغذى من هذا الشريان، فتبدأ الخلايا في التضرر والموت، وكلما تأخر التدخل الطبي العاجل لفتح الشريان المسدود، تضاعفت الاحتمالات السيئة من حدوث ضعف شديد حاد أو مزمن في آداء عضلة القلب، أو حدوث اضطرابات شديدة في كهربية القلب arrhythmia …. وقد تصل المضاعفات إلى الوفاة.
هناك خياران عاجلان لا ثالث لهما للخروج من الكارثة بأقل الخسائر، إما باستخدام مذيبات الجلطات مع الأخذ في الاعتبار احتمالات فشلها غير القليلة وكونها تمثل حلًا مؤقتًا لا جذريًا، وكذلك مضاعفاتها القاتلة كحدوث نزيف بالمخ ..إلخ، أو الخيار الأفضل والأغلى، وهو عمل قسطرة قلبية عاجلة، حيث يتم النفاذ بجهاز صغير خاص إلى الشريان الفخذي femoral artery أو شريان الذراع الكعبري radial artery، وعن طريقه يتم إدخال أجهزة دقيقة لتصوير الشرايين التاجية بالصبغة، لتحديد مكان السدة، ومن ثمَّ فتح الشريان وتركيب دعامة لتوسيع الشريان لحل المشكلة جذريًا.
كل دقيقة تأخير في هذه الأوقات العصيبة، قد تمثل سنوات من الألم والمرض والعجز والتنقل بين المستشفيات ووحدات الرعاية المركزة، وكل ثانية قد تحمل انقضاضة مفاجئة للموت.
أنهت رئيسة التمريض في عجلٍ أخذ موافقة ذوي المريض على إعطائه السلاح مذيب الجلطة ذا الحدين، وفي قلوب الجميع دعوة واحدة أن يكون نصيب المريض من الآثار العلاجية أوفر من نصيبه من الآثار الجانبية!
تتعلَّقُ عيونُ الطاقم الطبي بشاشة المرقاب، ويتجمد الدم في الأطراف للويحظاتٍ خاطفة مع ظهور أية نبضات غير طبيعية على الشاشة. وتواصل نقاط المحلول مذيب الجلطة رحلتها إلى أعماق القلب المأزوم. يرتسم على وجه طبيب العناية مزيج فريد من النعاس والملل والإرهاق والجدية واللامبالاة والتأثر والقلق! انتزع الطبيب من شروده على صيحة إحدى الممرضات ..VF …. VF، انتبه الطبيب إلى المريض الذي غاب فجأة عن الوعي، بينما بدأ اللعاب يسيل من شِدقَيْه، وتسمَّرت عيناه ناظرةً لأعلى.
انتفض الطبيب، واتجه مسرعًا لتنشيط جهاز الصدمات الكهربائية، بينما بدأ الباقون في عمل الإنعاش القلبي الرئوي CPR وذلك للحفاظ على عدم انقطاع الدم عن المخ في تلك اللحظات القاتلة، يصيح الطبيب clear … clear .. يبتعد الجميع عن المريض والسرير، يضع الطبيب كفَّتا الجهاز على صدر المريض، ويقوم بتفعيل الصدمة، ينتفض جسد المريض. للأسف ما تزال الشاشة تنقل استمرار الذبذبة البطينية المضطربة، أي أن القلب ما زال خارج الخدمة، والدورة الدموية متوقفة. إذن فدقيقتان من الإنعاش القلبي الرئوي، ثم تجربة صدمة جديدة حتى يعود النبض المنتظم للقلب …. أو لا يعود مطلقًا.
تكررت الدورة والصدمات عدة مرات، وتلقت دماء المريض جرعات محسوبة من الأدرينالين adrenaline منشط القلب، والأميودارون amiodarone ناظم القلب، لكن دونما جدوي…. وما زال الشاب المسكين معلقًا بين الحياة والموت.