إيلان بابيه يكتب: «إسرائيل» ليست ديمقراطية
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
يبدأ التقرير بالإشارة لاعتبار الكثير من الإسرائيليين وداعميهم حول العالم – حتى هؤلاء الذين قد ينتقدون بعض سياساتها – أن إسرائيل، في النهاية، دولة ديمقراطية لا تهدف سوى لتحقيق السلام مع جيرانها وضمان المساواة بين مواطنيها. أمّا المنتقدون لإسرائيل، فيفترضون أن ما حوّل إسرائيل عن ذاك الطريق هو حرب 1967 التي أفسدت مجتمعًا طيبًا مُجِّدًّا؛ بتسهيل الحصول على المال في الأقاليم المحتلة والسماح للجماعات الدينية بالتدخل في السياسة الإسرائيلية، وفوق كل هذا حوّلت إسرائيل إلى كيان محتّلٍ وجائر في الأقاليم الجديدة.
تلك الأسطورة عن إسرائيل اللطيفة التي غيرتها حرب 1967 يروّج لها حتى بعض المثقفين الفلسطينيين المرموقين، مع أنه لا يدعمها أيّ أساس تاريخي.
إسرائيل قبل 1967 لم تكن ديمقراطية
أخضعت الدولة خُمس مواطنيها لحكم عسكري قائم على لوائح الطوارئ البريطانية الوحشية التي حرمت الفلسطينيين من أيّ حقوق إنسانية أو مدنية. كان للحكام العسكريين المحليين السيطرة المطلقة على حياة هؤلاء المواطنين وكان بمستطاعهم خلق القوانين التي يشاءون، أو تدمير المنازل، أو سجن أيٍّ كان بغير محاكمة.
أمّا بالنسبة للفلسطينيين الذين عاشوا في إسرائيل ما قبل حرب 1967 وهؤلاء الذين عاشوا في الضفة الغربية وقطاع غزة ما بعد الحرب، كان مسموحًا لأصغر جندي في الجيش الإسرائيلي التحكم في حيواتهم أو تدميرها.
والأقلية الفلسطينية التي عاشت بداخل إسرائيل هي أول من عانى من نير تلك العبودية، ففي أول عامين من عمر الدولة، تم إجبارهم على العيش بداخل مناطق جيتو، أو طردهم من قراهم بالكامل لمّا كانت أراضيهم الخصبة تغري اليهود بالاستيلاء عليها.
وأوضح مثال على هذا الرعب العسكري هو مذبحة كفر قاسم، أكتوبر/تشرين الأول 1956، عشيّة عملية سيناء، حين قتل الجيش الإسرائيلي 49 فلسطينياً بدعوى عودتهم متأخرين من عملهم بالحقول بعد موعد حظر التجوال. لم يكن هذا السبب الحقيقي طبعًا، بل كانت المذبحة تجربة لاختبار إمكانية ترك الفلسطينيين لأراضيهم بفعل الخوف. وطبعًا، بعد مجهودات عديدة مطالبة بالعدالة، لم يُجاز المسئولون عن المجزرة سوى بغرامات بسيطة.
ولا تظهر قسوة الدولة تجاه مواطنيها في المجزرة فقط، بل في الممارسات اليومية العادية منذ نشوئها وحتى اليوم. ومع أن الفلسطينيين بداخل إسرائيل لا يحبون الكلام عن الفترة السابقة للحرب، والوثائق لا تكشف الصورة كاملة، إلّا أننا نستطيع إيجاد ما نبحث عنه في الشعر!
ناتان ألترمان، واحد من أشهر شعراء تلك الفترة، وكان له عمود أسبوعي يُدعى «العمود السابع»، اعتاد التعليق فيه عن حوادث قرأ أو سمع عنها في صورة شعرية:
وكتب أيضًا عن قتل مواطنين فلسطينيين في وادي عارة، وحكى قصة امرأة فلسطينية مريضة للغاية، طُردت هي وطفلاها بغير سبب معلن خارج البلاد، وعندما حاولت العودة، قُبض عليها وطفلاها وأودعوا السجن. لكنه لم يجد جوابًا:
استعباد الأقليات في إسرائيل ليس ديمقراطيًا
يرى التقرير أن محك الاختبار لديمقراطية أيّ دولة هو مقدار تسامحها مع الأقليات التي تعيش بداخلها. ومن هذا المنطلق، لا يمكن اعتبار إسرائيل ديمقراطية حقيقية.
فمثلاً، تم تمرير عدّة قوانين تؤكد أوّلية الأغلبية اليهودية كالقوانين المنظمة للمواطنة وقوانين امتلاك الأرض، والأهم من كل ذلك، قانون العودة، الذي يمنح المواطنة تلقائيًا لكل اليهود في العالم، أينما كانوا. وهذا القانون مجحف لأقصى حدّ، حيث يقابله الرفض الكامل لحق الفلسطينيين في العودة والذي اعتُرف به عالميًا بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لعام 1948.
يتعجب التقرير من دولة ديمقراطية تمنح حق العودة لهؤلاء الذين لم يطأوا أرضها أبدًا، وتمنعه عن الذين عاشوا فيها حياتهم كلهم وأجبروا على الخروج منها قسرًا.
وأحد تبريرات الساسة الإسرائيليين لهذا التمييز هو عدم إمكانية منح الفلسطينيين حقوق المواطنة كاملة وهم لا يؤدون الخدمة العسكرية. ولا يهم أبدًا ما حدث عندما حاولوا إثبات ذلك باستدعاء كل الشباب الفلسطيني للتسجيل في الجيش عام 1954، فأصيب وزير الدفاع والمخابرات الإسرائيلية بالذهول عندما حضر كل الشباب المستدعين إلى مكاتب التجنيد!
فسّرت المخابرات ذلك فيما بعد بملل الشباب في الريف ورغبتهم في التغيير وخوض بعض المغامرات.
لم تتكرر تلك المحاولة الرعناء لإثبات عدم رغبة الفلسطينيين في استكمال فروض مواطنتهم المدّعاة، لكن الجيش أثبت يومًا وراء يوم أنه العدو المطلق والمضطهِد الأعظم للفلسطينيين، بما لا يدع مجالاً للشك فيما ستكون عليه استجابتهم لو تكررت التجربة. وبالتالي، تستنتج الدولة من هذا أحقيتها الكاملة في حرمان الفلسطينيين من الدعم الذي لا تقدمه سوى لمن يخدمون في الجيش. مما يجعل حياة الفلسطينيين أسوأ وأسوأ.
سياسة الأرض الإسرائيلية ليست ديمقراطية
بالنظر إلى أن تمويل الدولة للمجالس المحلية والبلديات الفلسطينية أقل كثيرًا من تمويلها لنظيراتها اليهودية، وكذلك صغر مساحة الأرض المتاحة للفلسطينيين، وندرة فرص توظيفهم، لا نعجب من نشر الجيروزليم بوست أن «متوسط الدخل اليهودي كان أعلى بـ 40 إلى 60% من متوسط الدخل العربي بين عاميّ 1997 وحتى 2009».
وحاليًا يملك الصندوق الوطني اليهودي أكثر من 90% من الأراضي، وغير متاح لمالكي الأراضي الدخول في صفقات مع المواطنين غير اليهود، والأراضي العامة منذورة للمشروعات الوطنية وهي بناء مستوطنات يهودية جديدة. وهكذا تقل مساحات القرى الفلسطينية تدريجيًا لصالح مستوطنات يهودية لا يُسمح أبدًا للفلسطينيين بالسكن فيها، دون اعتبار للزيادة السكانية العربية المطردة مقابل الإنقاص الجائر لمساحات أراضيهم.
يدعو كاتب التقرير القارئ إلى تخيل منع اليهود أو الكاثوليك في أمريكا أو بريطانيا من العيش في مدن أو قرى معينة، كيف ستتغير نظرتهم إلى ديمقراطية تلك الدول؟
الاحتلال ليس ديمقراطيًا
يواصل التقرير طرحه لحججه الهادفة لنزع صفة الديمقراطية عن إسرائيل بحجة جديدة، لا تصف طريقة معاملة الدولة لمجموعتي اللاجئين والمجتمع الفلسطيني بإسرائيل، بل تتوسع بعرض طريقة التعامل مع مجموعة ثالثة، ألا وهي الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الحكم الإسرائيلي المباشر وغير المباشر في قطاع غزة والضفة الغربية. حيث يُرى في الاحتلال الإسرائيلي لهاتين المنطقتين دليلاً لا يُرد على وحشية إسرائيل الديكتاتورية؛ بإعطائها السلطة المطلقة للجيش، وبالإذلال اليومي للسكان، وردها على ذلك، دبلوماسيًا وأكاديميًا، بأن هذه الإجراءات مؤقتة، حتى يحسن الفلسطينيون التصرف، ويكفوا عن تشكيلِ تهديد للدولة الإسرائيلية.
ورغم كل الأدلة على العكس، تواصل إسرائيل زعمها بأن احتلالها هو احتلال مستنير بنوايا خيّرة، اضطر لسلك نهج أشدّ حزمًا بسبب العنف الفلسطيني.
منذ 1967، تعاملت الحكومة مع قطاع غزة والضفة الغربية كجزء طبيعي من أرض إسرائيل، وبداخل الأروقة السياسية الإسرائيلية يدور الجدال حول أفضل كيفية لتحقيق هذا الاندماج، لا عن شرعيته.
أمّا بالنسبة للرأي العام، فيدور النقاش بين رأيين؛ أحدهما يدعو للحفاظ على أرض إسرائيل المستعادة، والآخر يروم التخلص من العبء بإعطاء الضفة الغربية للأردن وقطاع غزة لمصر، مقابل ضمان السلام. لكن لا تأثير لكل هذا النقاش على الطريقة الفعلية لحكم المسئولين الإسرائيليين للإقليمين.
ففي البداية جرى تقسيمهما إلى «أرض عربية» و«أرض يهودية» محتملَة. حكم الأراضي المأهولة بالفلسطينيين متعاونون محليون تحت إشراف حكم عسكري. ولم يتغير هذا النظام إلا في 1981 بتشكيل حكومة مدنية.
أمّا «الأرض اليهودية» فقد استعمرتها مستوطنات إسرائيلية وقواعد عسكرية، بسياسة تهدف إلى حصر الفلسطينيين في جيوب صغيرة لا تسمح بالنمو الحضري، ولا توفر أراضي خضراء لتكوينات ريفية. وقد ساءت الأمور أكثر بقيام حركة غوش إمونيم باختراق الأرض العربية، تحت زعم اتباع خريطة توراتية للاستعمار بدلاً عن تلك الحكومية. مما أدى إلى تقليص الأراضي المتاحة للفلسطينيين أكثر، وتغيير شكل خريطة المنطقة، فالمجتمعات الفلسطينية صارت عبارة عن تجمعات صغيرة معزولة، منفصلة عن بعضها.
وأدّت هذه السياسات إلى كارثة بيئية أيضًا؛ فقد جففت منابع المياه وأتلفت أغلب المناظر الطبيعية الفلسطينية، حيث دمّرت مستعمرةُ إفرات، مثلاً، قنوات المياه العذبة بقرية جفنا قرب رام الله، مما أفقدها عامل جذبها السياحي. وهذه مجرد قطرة من بحرِ جورٍ تمارسه إسرائيل الديمقراطية.
تدمير منازل الفلسطينيين ليس ديمقراطيًا
يقول التقرير إن هدم المنازل ليس ظاهرة جديدة في فلسطين، فأول من مارسه كانت الحكومة البريطانية خلال الثورة العربية الكبرى في 1936 إلى 1939 ضد السياسة المؤيدة للصهيونية، وقد استغرق إخمادها ثلاث سنوات وتدمير ألفيّ منزل، كوسيلة متبعة منذئذ للعقاب الجماعي. ولم تتأخر دولة إسرائيل في اتباعها من يومها الأول كعقاب جماعي أو لبعض أفراد الأسر، أو حتى لتخلف الأسرة عن دفع بعض الغرامات.
ويقول كاتب التقرير إن من بين وسائل العقاب التي عادت إسرائيل إلى تنفيذها إغلاق المنازل بالكامل. ويدعو القارئ لتخيل عودته لبيته يومًا فيجد كل منافذه قد سُدت بالإسمنت، فلا يستطيع حتى إنقاذ شيء من ممتلكاته. ويواصل الكاتب إعلان سخطه على هذه الممارسة بأنه قد بحث كثيرًا في كتب التاريخ فلم يجد دليلاً على سابقة لهذا التدبير القاسي، في أيّ مكان.
سحق المقاومة الفلسطينية ليس ديمقراطيًا
ويتتابع التقرير بالإشارة إلى عصابات المستوطنين التي أُتيح لها التكوّنُ لمضايقة الناس وتدمير ممتلكاتهم، وقد تغيرت مآربها مع الزمن. ففي الثمانينيات، كانوا مرعبين بحق، حيث اعتادوا الهجوم على قادة المقاومة (فقد أحدهم قدميه بسبب تلك الاعتداءات).
أمّا في القرن الحالي، فهم منهمكون في المضايقة اليومية للفلسطينيين، حيث يقتلعون أشجارهم، ويتلفون محاصيلهم، ويطلقون النار عليهم عشوائيًا. ومنذ عام 2000، يجري التبليغ بما لا يقل عن 100 هجوم من هذا النوع شهريًا في بعض المناطق، وتلك البلاغات لا يقابلها سوى الصمت. فمنذ بداية الاحتلال، خيّرت الدولة الفلسطينيين ما بين السكنى في سجن ضخم يحكمه الإسرائيليون، أو الوقوف في وجه أكبر جيش في المنطقة.
حاول الفلسطينيون اتباع الخيارين بلا فائدة، لا الاستسلام ينفع، ولا المقاومة عادلة؛ حيث يهاجم الجيش الإسرائيلي القرى الفلسطينية كأنها قواعد عسكرية، والمدنيين الفلسطينيين كأنهم جنود مسلحون.
توثق منظمة العفو الدولية سنويًا طبيعة الاحتلال، وفي تقريرها لعام 2015، أبلغت عن اغتيالات – أو كما تسميتها «عمليات قتل غير مشروع» – بلغت حوالي 15 ألف فلسطيني منذ 1967، من بينهم ألفا طفل.
سجن الفلسطينيين بغير محاكمة ليس ديمقراطيًا
يقول الكاتب إن واحدًا من بين كل خمسة فلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة قد مرّ بتجربة السجن بدون محاكمة. من غير الممكن مقارنة هذه المعاملة بأيّة ممارسة لدولة ديمقراطية أخرى في العالم، حتى ما قامت به الولايات المتحدة ضد اليابانيين في الحرب العالمية الثانية. ولا تقترب الأرقام حتى من أعداد الفلسطينيين، بمن فيهم من شباب وشيوخ ونساء.
ثم يواصل الكاتب عرضه لتجربة السجن بدون محاكمة على القارئ الذي لا يفهم عمقها، فيوضح الضغط النفسي لتتابع أيام السجن دون معرفة أيّ جُرم ارتكبتَ، ولا المدة التي ستقضيها، ثم محاولة الدولة تجنيدك ضد أقرانك مقابل الإفراج عنك. ويعرّج على محاولة أخرى للتجنيد القسري، وهي نشر الإشاعات أو التهديد بالفضيحة بما يخص التوجه الجنسي الحقيقي أو المزعوم للبعض.
أمّا بالنسبة للتعذيب في السجون، فقد نشر الموقع الجدير بالثقة Middle East Monitor مقالة مرعبة تصف 200 طريقة للتعذيب في السجون الإسرائيلية. وتعتمد هذه القائمة على تقرير للأمم المتحدة وتقرير من منظمة بتسيلم الإسرائيلية لحقوق الإنسان. من بين تلك الطرق: الضرب، وتقييد المساجين بالأبواب أو الكراسي لساعات، وصب الماء البارد أو الساخن عليهم، وليّ الخصيتين.
إسرائيل ليست ديمقراطية
يختتم الكاتب تقريره بتركيز الانتباه على الهدف منه، فيوضح أن ما نحن بحاجة لدحضه هنا ليس فقط زعم إسرائيل بأنها احتلال مستنير، بل تظاهرها بكونها ديمقراطية. ويؤكد أنه رغم وجود العديد من المؤسسات المدنية حول العالم الرافضة لادعاء الديمقراطية الإسرائيلية، إلّا أن النخبة السياسية في بلادها لا تزال تعامل إسرائيل على أنها أحد أعضاء نادي الديمقراطيين الحصري.
أما بالنسبة للإسرائيليين، فأغلبهم ينظرون إلى دولتهم على أنها خيّرة ويصدقون خطاب الحكومة القائل بأن الفلسطينيين ليس لديهم ما يشكون منه، وأن وضعهم تحت الاحتلال الإسرائيلي أفضل منه بدونه.
ومع ذلك، تنكر قطاعات من المجتمع الإسرائيلي شرعية بعض مزاعم دولتهم. ففي التسعينيات، أدان عدد كبير من الأكاديميين والصحافيين والفنانين اليهود دولتهم بدرجات متفاوتة. بالفعل، تراجع عدد منهم عن موقفهم، وعادوا لتأييد الرأي العام، فلا يمتلك الجميع شجاعة تحدي السائد. لكن أولئك المعارضين أنتجوا أعمالاً تنكر الديمقراطية الإسرائيلية، وتراوحت توصيفاتهم لها بين دولة تحكمها الإثنية إلى دولة عنصرية أو دولة استعمارية استيطانية.
أيًّا تكن تلك التوصيفات، لم تكن من بينها «ديمقراطية»، وهذا هو المهم.