تداعي الإخوان: ماذا بعد انفصال اتحاد المنظمات الإسلامية
جاء قرار اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا في البيان الختامي لهيئته العمومية التي عقدت في إسطنبول أواخر يناير/كانون الثاني الماضي بشأن إلغاء ارتباطه الإداري والتنظيمي عن أي مؤسسات أو هيئات خارج أوروبا ليفهم منه مباشرة أنه إعلان انفصال عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وهي الخطوة التي تم تفسير دوافعها بالخشية من تصاعد تيارات اليمين المتطرف وإقدام حكومات غربية على فتح تحقيق حول علاقة الجماعة بالإرهاب.
هجرة الإسلاميين الأولى لأوروبا
بدأ توافد المنتمين للحركات الإسلامية على القارة العجوز في خمسينيات وستينيات القرن الماضي لسببين أساسيين: الأول هربا من القمع السياسي بداية من الإخوان المصريين الذين فروا من قمع عبدالناصر وتبعهم بعد ذلك إخوان سوريا والمغرب العربي، والثاني كان بغرض التعليم، حيث سافر عدد من الشباب بهدف استكمال الدراسة في جامعات أوروبا مثلما كان الحال مع راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية.
رحبت دولة مثل ألمانيا الغربية بالمعارضين الذين فروا من قمع الأنظمة في مصر وسوريا، وكان أغلبهم من الإسلاميين، نظرا لتبني ألمانيا الغربية موقفا سلبيا من النظامين المنتميين للكتلة الشرقية في ذلك الوقت، فكان سعيد رمضان زوج نجلة مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ممن حطوا الرحال في ألمانيا نهاية الخمسينيات وسرعان ما أسس أول جمعية إسلامية.
كما أسس لاحقا الزعيم التركي نجم الدين أربكان حركة مللي جورش في نفس البلد، بينما اتجه إسلاميو المغرب العربي بنسبة أكبر إلى فرنسا، وبدأوا في تأسيس جمعيات إسلامية وهكذا كان الحال في دول أوروبية أخرى.
لم يتخيل الإسلاميون وقتها أن تطول إقامتهم في أوروبا وألا يعود كثير منهم مرة ثانية لبلادهم أو أن يتحول ذلك المنيفى إلى وطن جديد وإنما تمثلت رؤيتهم في استغلال المساحة المواتية لحرية العمل السياسي في الغرب بهدف قيادة وتشجيع قيام انتفاضات وثورات تسقط أنظمة بلادهم، ومن ثم العودة لإقامة دولة إسلامية.
فكان تأسيسهم للجمعيات في البداية كمنبر لمخاطبة الحكومات العربية والتركية، وكذلك للحفاظ على المجتمع المسلم من الذوبان في البيئة الجديدة وخشية فقدان الهوية والتربية الإسلامية.
تركزت أنشطة الجمعيات الإسلامية على جوانب الدعوة من خلال المساجد والمراكز الإسلامية التي تأسست لاحقا والتعليم من خلال تأسيس المدارس وإقامة المخيمات والندوات المعرفية، وكذلك الجانب الاجتماعي للجاليات العربية والإسلامية الموجودة هناك.
أوروبا الوطن الجديد: تحول إستراتيجي
سرعان ما سيطرت الجمعيات التابعة للإخوان المسلمين على المشهد الإسلامي في أوروبا بفعل الوجود المبكر والأيديولوجية الحاضرة، وكذلك امتلاك إستراتيجيات حشد وتقنيات دعوية فاعلة، ما مكنها من تحقيق نجاحات متتالية واستقطاب مزيد من الشباب.
لكن هذا الأمر سيتحول لاحقا بفعل عوامل جمود الأيديولوجية على نفس الشعارات والعناوين مع تخطي الواقع لها بفعل التغيرات السياسية التي حدثت لاحقا في دول مثل السودان وإيران والجزائر ومصر، حيث سيشعر الشباب أن الحل الديني في عموميته وحده لا يكفي، فنموذج الدولة الإسلامية المتخيلة قد انهار على يد ظهور نماذج سلطوية مثل السودان وإيران، كما أن العنف لم ينجح في الجزائر ومصر في إسقاط الأنظمة، وكذلك واصل زين العابدين سيرة سابقه في قمع الحركة الإسلامية التونسية.
هذه النتائج أصابت كثير من الشباب بالإحباط، غير أن ما أصابهم بمزيد من الإحباط هو تحول الخطاب الراديكالي الثوري لإسلاميي أوروبا إلى خطاب محافظ وتطور ذلك بعد القطيعة مع فكر القاعدة والحلول العنيفة، ثم تطوير خطاب يتخفف من المواقف المتشددة ما أسس لتيار إسلامي مدني يؤمن بقيم الجمهورية من المواطنة والديموقراطية وغيرها.
تحول الإسلاميون خلال ثلاثة عقود من معارضة دينية على هامش المجتمع الأوروبي إلى ممثل للجاليات الإسلامية في محاولة لاختراق قلب أوروبا، ومن مواجهة الأنظمة العربية والتركية والتخطيط لإسقاطها والوصول للسلطة بدلا عنها إلى التفاعل مع الواقع الأوربي والدفاع عن حقوق المسلمين فيه.
سبق ذلك تنظير فكري وفقهي بدأ ينظر لدول الغرب باعتبارها «ديار عهد» والحديث عن فقه الأقليات في محاولة لتلبية المتطلبات الشرعية لما يواجه المسلمين من مواقف جديدة ومحاولات توفيقية بين الإسلام والحداثة، كذلك كان لنشأة جيل تالٍ ولد في أوروبا أو هاجرت أسرته لها مبكرا أثر مهم في ذلك التحول.
وتطور ذلك إلى التفاعل مع قضايا دينية باستخدام أدوات و خطاب غير ديني واللجوء للعلمانية نفسها بوصفها أداة لحماية المسلمين في أوروبا واختفاء الخطاب المنطلق من مبدأ الغيرية باعتبار الغرب هو الآخر إلى اعتباره وطنا جديدا والبحث عن حقوق المواطنة فيه.
رغم ذلك غاب الإسلاميون عن التفاعل مع القضايا الاجتماعية في المجتمع الأوروبي من اضطهاد عرقي ومشاكل الفقر والمساواة الاجتماعية، واقتصروا علي التعاطي مع القضايا التي تخص المسلمين، يمكن إرجاع ذلك إلى تمثيل هؤلاء الإسلاميين لما يمكن أن نطلق عليه «برجوازية متدينة» بما امتلكوه من مؤهلات دراسية عالية ومستوى اجتماعيا مرتفعا.
هذا التغير الإستراتيجي الكبير الذي حدث للحركة الإسلامية في أوروبا لا شك مر عبر تنازع بين الأولويات لكنه حسم لصالح أولوية المجتمع الأوروبي، فنمت ثقافة الاندماج مع محاولات الحفاظ على الهوية الإسلامية ليحاول الإسلاميون لاحقا دخول الساحة السياسية في أوروبا عبر الترشح في البرلمانات الأوروبية ولتمتد علاقاتهم مع السياسيين والحكومات ومع الاتحاد الأوروبي.
ماذا يعني الانفصال؟
اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا هو هيئة إسلامية جامعة يضم مئات الجمعيات التي توجد في ثلاثين دولة، ويعتبر الذراع الأوروبية لجماعة الإخوان، ويعتقد أنه ممثل فيما يعرف بمجلس الشورى العالمي، وله جمعية عمومية ومجلس شورى ومكتب تنفيذي، ويتولى رئاسته منذ 2014 الداعية التونسي عبد الله بن منصور.
رغم أن الجمعيات الإسلامية في أوروبا كانت قد اختارت ألا تنغمس في السياسة العربية، إلا أنه كان واضحا اندفاعها في التعاطف مع الثورات العربية، وبالتالي يمكن فهم معارضتها لإزاحة مرسي لاحقا، حيث تحرك أفراد وجمعيات إسلامية في الغرب لتنظيم المظاهرات، خاصة تلك التي صاحبت السيسي في زياراته الخارجية، وكذلك لمحاولة استثمار العلاقات مع السياسيين الأوروبيين.
لكن يبدو أن موجة الإطاحة بالإسلاميين كانت أعلى ليس فقط على المستوي الإقليمي وإنما أيضا على المستوى الغربي، وربما مثل فتح الحكومة البريطانية تحقيقا عن أنشطة الإخوان المسلمين والنظر في علاقتها بالإرهاب خطوة مخيفة لاتحاد الجمعيات الإسلامية جعلت بعض الأصوات تنطلق من داخله داعية إلى إعلان الانفصال عن الإخوان، لعل أبرزها كان صوت المغربي شكيب بن مخلوف، رئيس الاتحاد السابق.
كما كان لتنامي تأثير التيارات الشعبوية في أوروبا ووصول ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة وما تبعه من وعود وزير خارجيته الجديد تريلسون بمحاربة الإخوان، وكذلك وجود فرص قوية لوصول مرشح يميني لقصر الإليزيه هذا العام الدور الأهم في الخطوة الاستباقية التي أعلن عنها الاتحاد، خاصة أن فرع الاتحاد في فرنسا من أقوى فروعه، وهو الذي تأسس على يد الرئيس الحالي عبدالله بن منصور.
من الواضح أن هذه الأسباب جعلت إسلاميي أوروبا يعيدون وجهتهم عن الشرق مرة أخرى ويعودون للتركيز على المجتمع الأوروبي.
هذه الخطوة سبقها تأكيد حركة النهضة التونسية انفصالها التنظيمي والإداري عن الإخوان وكونها جماعة وطنية تعمل في إطار الدستور التونسي، وهو الأمر ذاته الذي دعت له قيادات إسلامية في أكثر من دولة ما يبدو تصدعا للتنظيم الدولي للإخوان من الداخل.
الإخوان بعد خسارة أوروبا
بينما يرى التنظيميون دورا كبيرا لوجود تنسيق بين الجماعات الإسلامية حول العالم، وينظرون بأسف لقرارات الانفصال المتتالية، ويعتقدون أنها تخدم أهداف الخصوم الدوليين وتضعف من تماسك الجماعة الأم التي تواجه تحديات غير مسبوقة؛ ثمة رؤية مخالفة ترى في التفكيك المنظم لتلك الجماعات الشمولية من حيث التنظيم خدمة أكبر للعمل الإسلامي، فضلا على تجنب معارك خسائرها ستكون وخيمة بينما التأثيرات السلبية لتلك الانفصالات عمليا ضعيفة، أي أن الخطوة هي أقرب لتكتيك وقائي لا يعبر عن تغيرات عميقة في بنية تلك التنظيمات الفكرية أو الخططية.
وبين هذا وذاك، يظل هذا الإعلان مجرد بيان إعلامي حتى الآن في حاجة لإجراءات عديدة حتى يمكن تنفيذه في ضوء العلاقات المتشابكة بين الجمعيات الإسلامية والإخوان، وبالتالي من المنتظر أن يتضح أكثر خلال الفترة القادمة جدية هذا القرار خاصة إذا ما قررت أي دولة غربية فتح تحقيق في هذا الأمر.