يعد الأديب والمفكّر الكبير توفيق الحكيم واحدًا من رواد الكتابة المسرحية في مصر والعالم العربي، سعى جاهدًا لكتابة أنواعٍ مختلفة من المسرحيات وطرح عدد من الأفكار المختلفة والمتباينة في المسرحيات التي يقدمها، إذ كان مؤمنًا بمقولة أن «المسرح للمجتمع» وأنه إحدى أدوات التغيير التي يمكنها أن تؤثر في المتلقي والمتفرج بشكلٍ يسير ومباشر. لذا فلا غرابة أنه كتب ما يربو على الستين عملاً مسرحيًا ناقش فيها مختلف القضايا المجتمعية التي تخص مصر والمصريين آنذاك، وهي شأن الكتابات الأدبية الخالدة نجدها صالحة لكل زمانٍ ومكانٍ فيما بعد.

في كتابه الهام «مسرح توفيق الحكيم» يقدّم الناقد الكبير محمد مندور رؤية خاصة لكتابة توفيق الحكيم المسرحية موضحًا منذ البداية أنه عمد إلى اتخاذ ثلاثة اتجاهات في التأليف المسرحي:

الاتجاه الأول، نحو معالجة القضايا الوطنية العامة ولو عن طريق الرمز، على نحو ما فعل في «الضيف الثقيل» التي يمكن أن تدخل فيما نستطيع تسميته بأدب الكفاح، والاتجاه الثاني، نحو المسرح الغنائي الذي كان جمهورنا لا يزال متعلقًا به مفضلاً إياه على المسرح الدرامي الخالص، وقد تمثل في مسرحية «علي بابا»، ولكننا نلاحظ أن محاولاته لم تتجدد بعد ذلك في هذين الاتجاهين، وأما الاتجاه الثالث، الذي ظل يتابعه بين فترةٍ وأخرى، فقد كان الاتجاه نحو المسرحية الاجتماعية، الذي بدأه بمسرحية «المرأة الجديدة» ذات الطابع الكوميدي.. كما كتب أيضًا المسرحيات النفسية والريفية بل والسياسية أيضًا مثل «براكسا أو مشكلة الحكم» .. كما أنه كتب بعد ثورة 1952 مسرحيات اجتماعية تصدر عن فلسفة اجتماعية بذاتها هي الفلسفة الاشتراكية التي نادت بها هذه الثورة والتي تقدس العمل وتعتبره الوسيلة الوحيدة لكسب العيش، وكل هذا واضح في مسرحية «الأيدي الناعمة» وكذلك مسرحية «الصفقة».

على هذا النحو من الثراء والتنوع كان مسرح توفيق الحكيم. والقارئ المتتبع لمسرحياته يرى أنه يتجه بشكلٍ واضح، خصوصًا بعد ثورة 1952، لمعالجة القضايا الاجتماعية، مازجًا ذلك بمذهبه المسرحي الجديد المتمثل في «المسرح الذهني» والذي يقصد به سيطرة الأفكار على طبيعة الشخصيات وحركتها ودوافعها في العمل، وهو ما نلحظه بشدة في عدد من مسرحياته، من هذه المسرحيات الهامة مسرحية «لو عرف الشباب» التي عالج فيها قضية بدت مؤرقة له على أكثر من مستوى، وعالجها بأكثر من طريقة، وهي قضية «الزمن» والسؤال الوجودي الحاضر دائمًا هل ما نعيشه الآن أفضل حالاً لنا، أم الأفضل أن نعود بالزمن للوراء أو الأمام لنعيش في زمانٍ مختلف.

وكذلك قضية «صراع الأجيال» بين الشباب والشيوخ، وتبدو هذه الأفكار مؤثرة وحاضرة عند الحكيم، فقد رأينا جانبًا منها في المسرحية التي استعان فيها بالموروث الديني «أهل الكهف» وقصتهم الشهيرة، كما قدم جانبًا مختلفًا منها في مسرحية «رحلة إلى الغد»، وهو هنا يقدّم في هذه المسرحية رؤية أخرى تعتمد على فكرة «الخيال العلمي» في «لو عرف الشباب».

تحكي المسرحية قصة رجلٍ عجوز اقترب من الثمانين، ويعاني من أمراض الشيخوخة، وإذا بالطبيب المعالج له يمنحه فرصة استثنائية، من خلال ابتكارٍ علمي حديث، هو حقنة تعيد للشيخ شبابه، وبالفعل يأخذ العجوز هذه الحقنة، وتعيده شابًا من جديد، ولكن الأمر لا يخلو بعد ذلك من المنغصات والمفاجآت!

صديق باشا رفقي وزوجته وابنته وطبيبه الشاب طلعت، هم شخصيات المسرحيّة الرئيسية، وبينهم تدور الأحداث، بالإضافة إلى طلعت خطيب ابنة الباشا، ثم شخصية صديق وهو شاب. عبر هذه الشخصيات الأربعة تدور المسرحيّة، ونتعرّف من خلالها على الحدث الرئيسي والفكرة الأساسية المتعلّقة بتحوّل صديق باشا من الشيخوخة إلى الشباب، وكيف أن هذا التغير والتحول لا تعرفه عائلته لأنها لا تتعرّف على شكله بعد أن عاد شابًا، مما يحوّله إلى شخصٍ مختفٍ، ويحوّل هذا الشاب إلى البحث عن حياةٍ جديدة مختلفة، لا يجد فيها ما كان يصبو إليه من متع الشباب.

هذا القلب لم يستطع أن يدق لحبٍ جديد.. ولا لمصيرٍ جديد! نعم تلك هي الحقيقة يا طلعت، إن الشباب ليس في الجسم ولكنه في النفس أيضًا، إنك قد أعطيتني الجسم الفتيّ، ولم تعطني النفس الفتيّة الجديدة التي تُبصر حياة جديدة، وترى كل معنى من معانيها كتابًا لم يفتح بعد، الحب، المجد، الغد، كل هذه المعاني قد زالت عندي جدتها وضاعت فرحتها، أتستطيع أن تصدق أو تتصوّر أن الأكلة الدسمة التي كنت أتمناها في شيخوختي قد ذقتها اليوم فلم أجد لها نفس الطعم اللذيذ الذي كنت أجده في شبابي الأول .. الحقيقي؟ وقل مثل ذلك عن النساء والملاهي واللعب والسهر والحب والطموح… كل هذا لم يعد له عندي نفس المعنى ولا نفس المذاق… ما قيمة الشباب لي إذن؟!

هكذا أدرك صديق باشا أن ما مضى لن يعود، وأن عقارب الساعة لا يمكن أن ترجع إلى الوراء، وأن العجوز حتى إن عاد شابًا فلن يعود الزمان زمانه ولا المكان مكانه، سيعود غريبًا حتى بين أهله وناسه، سيكون شأنه في ذلك شأن «أهل الكهف» تمامًا الذين غابوا عن أهلهم وزمانهم فلمّا عادوا لم يتعرّف عليهم أحد، وبين الحالتين الكثير من أوجه التشابه، إلا أن الحكيم يركز في هذه المسرحية على الفرق المتعارف عليه بين الشباب والشيخوخة، من حيث الصراع الدائم بين الحكمة والاتزان الذي يتصف بهم الشيوخ وبين فورة الشباب والتمرد على كل شيء.

وكما نعلم فإنه في المسرح يكون الاعتماد الأساسي في بناء الشخصيات ومعرفتها من خلال الحوار بين شخصيات العمل، ومن خلاله تتضح الفروق بينهم في مواقف مختلفة، هو ما أجاد الحكيم وضعه وتصويره في المسرحية، وكان كل اهتمامه منصبًا على بيان الفرق بين الشباب والشيوخ في العقل والتفكير وطريقة التعامل مع الحياة من جهة، ثم الفكرة الأخرى المسيطرة والمهيمنة، وأنه حتى إن تغيّر الزمان فإن الإنسان يظل عاجزًا عن مواكبة هذا التغير.

يأخذ محمد مندور على الحكيم في مسرحه الذهني ذلك أن شخصيات المسرحيات ينقصها الكثير من القوة الدرامية، بل إنه يراها تبدو في معظم الأوقات وكأنها أبواقًا تردد جوانب الرأي المختلفة في القضية التي يعالجها المؤلف، وهي كلها آراء المؤلف نفسه، ولعل هذا منشؤه اهتمام الحكيم بعرض الفكرة أكثر من عرض تفاصيل الشخصيات وطبيعتها، وهو ما تفرضه طبيعة هذا النوع من المسرحيات بشكلٍ خاص. وليس أدل على ذلك من عناوين المسرحيات نفسها، فهو لم يضع العناوين بأسماء الشخصيات وإنما ترك الفكرة هي التي تفرض نفسها حتى في العنوان كما نرى في «لو عرف الشباب» و«الورطة» وغيرها من المسرحيات.