لو كان كل شيء يحصل بالأسباب الدنيوية، فلماذا ندعو الله؟
يسأل سائل: لو كان كل شيء يجري بالأسباب والمسببات فما معنى الدعاء؟ فلو كان النجاح في الامتحان مثلًا متوقفًا على المذاكرة فقط، وأن من ذاكر سينجح وإن لم يدعُ الله، ومن لم يذاكر لن ينجح وإن دعاه، فما قيمة الدعاء إذن؟ كيف ونحن نرى أن من يدعو لا يحصل له المطلوب، ومن لا يدعو يحصل له إن أخذ بالأسباب!
نقول: سبق أن تكلمنا أن الله خلق الكون، وأقامه على قانون الأسباب، سنة الله التي أجراها وعادته في خلقه التي لا تتخلف. وبينَّا أن نفس تحقق هذه القوانين واستمرارها إنما هو بفعل الله عز وجل، وتكلمنا أن فعل الله في الكون ليس تدخلًا مغايرًا أو خارقًا للأسباب الكونية، بل فعل الله في الكون يجري في هذه الأسباب والنتائج الكونية، فالأسباب تجلي فعل الله وخلقه، وحصول المسببات بعد الأسباب الدنيوية العادية هو قضاء الله وقدره [1].
ثم نسأل أنفسنا فنقول: إذا كان الكون قائمًا على الأسباب، وكانت هذه الأسباب لا تتخلف، ولا تنخرق إلا في نحو معجزة النبيين [2]، فما فائدة الدعاء إذن؟ وأين تأثير الله وخلقه طالما أن الكون يجري على هذا القانون؟
وهناك من يتصور أن الإنسان إذا دعا يستجاب له بأن «يتدخل» الله عز وجل، فيكسر له قانون الأسباب، ويفعل العجائب. فإن قيل له: بل الكون قائم على الأسباب، قال: فما فائدة الدعاء إذن؟
فهذان فريقان نتناولهما في هذا المقال:
الأول: يرى أن لا فائدة في الدعاء، وأن ما سيكون سيكون، لأنه نتيجة للأسباب والقوانين الكونية، والكون قائم على تلك الأسباب، والدعاء لا يضيف شيئًا في هذه المنظومة من حيث التأثير على مجرياتها، إلا مثلًا أن يشعر الداعي بحالة نفسية هادئة فتؤثر في فعله، وذلك يمكن أن يحصل عليه من الرياضات الروحية ونحو ذلك.
الثاني: يرى أن الدعاء يفيد بأن يتدخل الله تعالى فيخرق الأسباب الكونية، ويحصل المدعو به، فطالما دعا الإنسان وتوكل على الله فستحصل له العجائب مهما كانت، كله بقدرة الله.
الأسباب نظام الله الذي أقام عليه الكون
سبق أن تكلمنا عن الأسباب، وخلاصة الكلام: أن العالم حادث ممكن الوجود، مفتقر لموجد، وأن لا مؤثرَ – أي لا خالقَ – إلا الله، فالكون مفتقر إلى موجد وإلى مبقٍ، وأنّ ما نشاهده من التأثيرات هي في الحقيقة خلق الله تعالى الأشياء عند اقترانها بأمور أخرى. هكذا خلق الله العالم على هذه الطريقة [3]، وأنه تعالى لم يترك الكون لحظة، والكون لا يستغني عن الله تعالى لحظة، حتى يقال إنه يتدخل حين نفعل كذا، فهو سبحانه وتعالى قيوم على الكون، وأن هذه العلاقات السببية والقوانين الكونية لا تتخلف، فهي قطعية، وتخلُّفها ونقضها مستحيل في العادة، أي العادة التي خلق الله عليها الكون، ومع ذلك فتخلفها جائز عقلًا، وهو لا يحصل إلا في نحو المعجزة التي يتبين بها صدق النبي المرسل.
فالله سبحانه وتعالى يخلق المسببات عند وجود الأسباب، فهو القيوم سبحانه، الذي أراد أن يجري خلقه في الكون على وفق هذه العلاقات الكونية التي خلق الكون عليها. ولن تجد لسنة الله تبديلًا.
ونحن نرى الكون يسير على قوانين وتأثيرات عادية، وتفسير هذه العلاقات هو دور العلوم كلها تجريبية كانت أو اجتماعية أو إنسانية، فهي تهدف إلى معرفة الحقائق، وكيف تعمل الأشياء في الكون، أي من حيث الأسباب الدنيوية، أو المادية، أو من الكيفية التي عليها الأمور في الدنيا، وهو ما يسمّى عند بعض علماء الإسلام بــعالم الـمُلك. ويقابله عالم الملكوت، وهو مستوى مغاير للملك، أقام الله تعالى الدنيا على التفاعل معه كذلك [4].
وسبق أن تكلمنا أنه بالنظر إلى الأسباب التي يخلق الله الكون عليها لا يستحيل عقلًا تخلف المسبب عند حصول السبب هذا، وإن كان هذا التخلف يستحيل في العادة والواقع، وأن البحث عن الأسباب الدنيوية الملكية والبحث عن السبب أو المؤثر في الكون إنما يكون بالنظر في الكون، وأنها الأسباب المدركة بالحواس، ويكون ذلك باتباع المنهجية العلمية في التفكير التي تكشف عن التأثر هذا، وأن الذي ينظر في السبب الميتافيزيقي [5]، فهو ناظر من جهة أخرى غير هذه الجهة.
فالمتدين الذي ينكر وجود الأسباب والقوانين الكونية وجريان الكون على وفقها مخطئ، ومن ثم لا يبحث عن الأسباب العادية، ومن هذا الباب نشأت فكرة (إله الفجوات) الذي يخترعه الإنسان لسد نقصه العلمي [6].
والطريق إلى معرفة الأسباب الملكوتية كالكلام على الملائكة مثلًا يكون عن طريق الخبر الصادق، المخبر عن الغيب، وهو ما جاء به الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – من قرآن كريم وأحاديث شريفة. وهذه الأسباب الملكوتية الغيبية هي أمور خلقها الله سبحانه وتعالى، لم نعرفها بالمشاهدة والتجربة، بل عرفناها من جهة الوحي.
تعقيد النظام الكوني السببي
ثم إننا ننظر في الكون القائم على الأسباب هذا، ونعود للسؤال الذي بدأنا به عن الدعاء، وأثره في حصول المسببات، فنقول:
هذه الأسباب في غاية التعقيد، وبينها على التفصيل الدقيق تداخلات شديدة التشعب، ويستحيل الإحاطة بجميعها علمًا، فضلًا عن السيطرة عليها كلها عملًا، فالأسباب هذه منها ما هو متعلق بنفس الإنسان، وما يحصل له من مؤثرات كثيرة جدًّا بداخله، نفسية وبيولوجية… إلخ، بسبب أمور فيه، وبسبب تفاعله مع الآخرين، وتفاعله مع الواقع إلى غير ذلك ، فضلًا عن أن كل شخص وكل ظرف وكل زمن في نفسه هو معقد هذا التعقيد، وكل ذلك يتفاعل مع بعضه ويؤثر فيه بعضه الآخر! بل إنه ربما تتسبب تغييرات طفيفة في اختلافات هائلة، وهذا فيديو لطيف يوضح نظرية «أثر الفراشة» التي بالتأمل فيها يظهر بعض جوانب التعقيد الشديد في قضية الأسباب.
هذا، والأسباب التي بها تحصل النتيجة على ثلاث درجات [7]:
- مقطوع به؛ وذلك مثل الأسباب التي ارتبطت المسببات بها بتقدير الله ومشيئته ارتباطًا مطردًا لا يختلف، كالاحتراق المتسبب عن مس النار.
- ومظنون ظنًّا يوثق به، فهي ليست متيقنة ولكن الغالب أن المسببات لا تحصل دونها، وكان احتمال حصولها دونها بعيدًا؛ كالاجتهاد سببًا للنجاح في الامتحان العادل.
- وموهوم، وهو ما لا تثق النفس به ثقة تامة ولا تطمئن إليه، وهي التي يتوهم إفضاؤها إلى المسببات من غير ثقة ظاهرة؛ كنصح الإنسان المتمادي في العناد بحيث يؤدي إلى صلاحه.
وأيضًا بعض الأسباب ظاهرة متضحة، وبعضها خفية دقيقة.
فإذا تقرر هذا، علمنا أن الإنسان في الحقيقة أعجز مما يتخيل من حيث سيطرته وإحكامه للأسباب، فإن أراد حصول شيء فلا بد أن تتوفر كل الأسباب لكي يتحقق مراده. وإن معرفة كل الأسباب، ومعرفة تفاعلها بعضها مع بعض هو أمر في غاية التعقيد، وأن ذلك يكون ضمن سلسلة من الأسباب والمسببات، وثقة الإنسان بأنّ كل شيء سيجري تمامًا كما يخطط ويتوقع ويحسب، وأنه مسيطر على كل الأسباب المؤثرة في حصول النتيجة المطلوبة لهو من الغرور الشديد، فالإنسان في الحقيقة يفعل ما يظهر له أنه ينبغي عليه فعله، ثم ينتظر النتائج، راجيًا من الله تعالى أن يكون فيما يأتي به توفيق وتيسير، فيحصل.
تيسير الأسباب
هذا، وإن حصول مراد يكون بتيسير هذه الأسباب مع بعضها البعض، وهذا جارٍ في الأمور الظاهرة البسيطة، كأن يقطع مثلًا بالسكين قطعة خبز، فإنه بالنظر إلى الأسباب، نرى أنه في الحقيقة يحتاج لأن يتوفر العدد الهائل من الأمور في نفس الوقت، من أول بقاء كل ذرات جسمه متماسكة طبقًا لقانون الجاذبية، بل كل ذرات العالم جميعه! إلى أن تتحرك في نفسه الداعية للقطع، فتتفاعل الأعصاب، وتتفاعل كل الذرات في جسده، وينسجم ذلك كله لتتحرك اليد طبقًا للإرادة ، فينقطع الخبز، الذي هو نفسه -أي الخبز- خاضع لقانون الأسباب، هو وكل شيء حوله!
ما بالك في الأمور التي تكون السببية العادية فيها غير ظاهرة، ويختلجها الكثير من الظنون، وفيها أمور أعقد من هذه الصورة السهلة بأضعاف مضاعفة!
فحتى بالنظر للأسباب الدنيوية مجردة! أين استغناء الإنسان وسيطرته؟!
فليلحظ غير المدقق أن ما لا يدخل تحت اختياره من المعوّقات والأسباب كثير جدًّا، أما المدقق فإنه يعلم أن ما نظنه داخلًا تحت اختيارنا من الأسباب فإنه لا يتم إلا بخلق الله وتوفيقه سبحانه وتعالى.
فمن وجد نفسه يغرق في بحر من الرمال في صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء فليدع الله موقنًا بالإجابة، فإن الله تعالى قال: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ». فإن تعلقت إرادة الله أزلًا بنجاته بعبور شخص معه حبل ومتمرن على الإنقاذ بهذا المكان وفقًا للأسباب المعقولة العادية نجا بهذا، وكانت هذه استجابة لدعائه قد قدر الله وقوعها من الأزل.
وإن قضى الله بنجاته بطريقة سببية أخرى غير متوقعة لنجا بها، وكانت هذه استجابة دعائه أيضًا.
وإن قضى الله أنه يموت بهذه الطريقة، لم يرسل له من ينقذه، وادُّخرت له في الآخرة، وكان هذا الادّخار جزاءً لدعائه وكان خيرًا له إن شاء الله.
وإن قضى الله أن يخرق له العادة على سبيل الكرامة، وهذا نادر جدًّا في جملة الحوادث الكونية، فَعَل، فإنه لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه سبحانه وتعالى.
فإن حصل في الواقع وفق ما دعوت به، فإن ذلك يسمّى استجابة للدعاء، وهو استجابة فعلًا؛ لأن الله الخالق قد خلق المسببات عند الأسباب بما أدى لحصول ما دعوت به.
والله قادر أن ينجّيه بنحو معجزة كأن يتدلّى حبل من السماء لينجّيه، ولو حصل هذا لكانت تلك استجابة لدعائه بخرق العادات والنواميس الكونية، غير أن هذا لا يحصل إلا في نزر يسير من الوقائع في نحو المعجزات، والداعي هنا لم يطلب خرق العادة، بل غاية ما طلب أن ينقذه الله.
ومن تأمل في معنى استجابة الدعاء من غير خرق للأسباب دهش من عظيم قدرة الله وحكمته وترتيبه للأشياء بخلق الله تعالى لذلك كله!
ثم يأتي سؤال: فلو دعوت فلم يستجب لي؟
فهذا معناه أن الله تعالى لم يقدر هذا الأمر ، لانتفاء الشروط أو حصول الموانع، ومن الموانع أن تكون تلك الإجابة مخالفة لما قدره الله في الأزل.
فلو لم أدعُ، هل كان سيحصل ما كان سيحصل؟
الجواب: كأنك تسأل عن كون جديد، كان يمكن أن يخلقه الله تعالى وتتغير بعض أحداثه (فلا يحصل منك هذا الدعاء مثلًا)، فلو أراد الله أن يخلق هذا الكون بحيث لا يحصل فيه دعاؤك لفعل، ولا يمكننا التنبؤ حينئذ بما هو مقدّر في هذا الكون،ولا يعلم أحد ما الذي كان سيحصل فيه، فمن الممكن ألا تترتب الأسباب الكونية بحيث يحصل مرادك في هذا الكون المفترض الذي لم تدع فيه.
ولكن من أدراك أن الإرادة الأزلية لم تكن لتوجد ترتيب الأسباب بهذه الطريقة إن لم يكن دعاؤك قد حصل؟
فالله وحده هو الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.
الدعاء والقضاء
قال الإمام أبو حامد الغزالي، رحمه الله، مجاوبًا للسؤال عن علاقة الدعاء بالقدر، وكيف يؤثر الدعاء وكل شيءٍ مقدّر. قال:
وقد قال الله تعالى: «يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ».
ويقول الإمام الرازي مبينًا ما الذي يمحى ويثبت:
ثم إن هناك تفسيرًا آخر في تصارع القدر والدعاء، وقد ورد في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: «الدُّعاءُ يَرُدُّ القضاءَ»، أنه يراد بالقضاء خوف العبد من نزول المكروه، فالدعاء يتسبب في زوال هذا الخوف، واطمئنان العبد لما سيقع أيًا كان، ويشعر الإنسان بمعاني التوكل على الله تعالى والاستسلام لقدره، والرضا بقضائه، فتهدأ نفسه وتستريح، ويخفف الله عنه بذلك ويرضيه.
فالدوام على الدعاء يطيّب ورود القضاء فكأنه رده، ورده للقدر تهوينه حتى يصير القضاء النازل كأنه ما نزل.
وفي شرح قوله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فَعَلَيْكُمْ عبادَ الله بالدُّعاءِ»: «الدعاء ينفع مما نزل» من المصائب والمكاره، أي يسهل تحمل ما نزل من البلاء فيصبره أو يرضيه حتى أنه لا يكون متمنيًا خلافه، «ومما لم ينزل» منها، بأن يصرف ذلك عنه، أو يمده قبل النزول بتأييد إلهي من عنده، حتى لا يعبأ به إذا نزل، «فعليكم عباد الله بالدعاء»، يعني إذا رزق بالدعاء الصبر والتحمل بالقضاء النازل ويرد به القضاء غير النازل، فالزموا عباد الله الدعاء وحافظوا عليه، وخص عباد الله بالذكر تحريضًا على الدعاء، وإشارة إلى أن الدعاء هو العبادة، فالزموا واجتهدوا وألحوا فيه وداوموا عليه؛ لأن به يحاز الثواب ويحصل ما هو الصواب، وكفى به شرفًا أن تدعوه فيجيبك، ويختار لك ما هو الأصلح في العاجل والآجل.[10]
والمعاني التي سبقت في الدعاء تأتي كذلك في نحو قوله صلى الله عليه وسلم: «مَن سرّه أن يبسَـط له في رزقه وأن يُـنسَـأ له في أثره فليصِل رحمِـَه». و«ينسأ» أي: يؤخر في أجله.
وظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: «فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ» [الأعراف: 34]، والجمع بينهما من وجهين :
أحدهما: أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى الطاعة وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة وصيانته عن تضييعه ذلك. ومثل هذا ما جاء أن النبي – صلى الله عليه وسلم – تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم فأعطاه الله ليلة القدر، وحاصله أن صلة الرحم تكون سببًا للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية، فيبقى بعده الذكر الجميل فكأنه لم يمت، ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلم الذي ينتفع به من بعده والصدقة الجارية عليه والخلف الصالح.
وثانيهما: أن الزيادة على حقيقتها، وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر.
ولما علم سيدنا عمر بوباء في الشام فرأى ألا يدخلها، فقيل له: «أفِرارًا من قدر الله؟!»، فقال عمر: «نعم. نَفِر من قدر الله إلى قدر الله»، وقد علّق البيهقي على هذه الرواية قائلًا:
الدعاء على كل تقدير عبادة
قال الإمام أبو سليمان الخطابي: ثم جملة الباب الذي وقع التعبّد فيه بظاهر من العلم يجري مجرى الأمارة المبشّرة أو المنذِرة دون العلة الموجِبة، وذلك والله أعلم لِتكون المعاملة فيه على معنى الترجّي والتعلق بالطمع الباعثَين على الطلب، دون اليقين الذي يقع معه طمأنينة النفس، فيُفضي بصاحبه إلى ترك العمل والإخلاد إلى دَعة العُطلة، فإن العمل الدائر بين الظفر بالمطلوب وبين مخافة فوته يحرّك على السعي له والدأب فيه.
وأما اليقين فيسكّن النفس ويريحها، كما اليأس يُبلّدها ويُطفئها.
وقد قضى الله سبحانه أن يكون العبدُ ممتحَنًا ومعلّقًا بين الرجاء والخوف اللذين هما مدرَجتا العبودية ليُستخرج منه بذلك الوظائف المضروبة عليه التي هي سِمة كلّ عبد ونصبة كل مربوب مدبَّر.
وعلى هذا بُنيَ الأمر في معاني ما نعتقده في مبادئ الأمور التي هي الأقدار والأقضية، مع التزامنا الأوامر التي تعبّدنا اللهُ تعالى بها ووعدنا عليها في المعاد الثوابَ والعقابَ.
ولما عرَض هذا الإشكال سألت الصحابة رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: أرأيتَ أعمالنا هذه، أشيء قد فُرغ منه أم أمرٌ نستأنِفه، فقال صلى الله عليه وسلم: بل هو أمر قد فُرِغ منه، فقالوا ففيمَ العمل إذن؟ قال صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكلٌّ ميسَّرٌ لما خلِق له، قالوا: فنعمل إذن.[14]
التعدي في الدعاء
من سوء الأدب الذي نهت عنه الشريعة الإسلامية ما يسمّى بالتعدي في الدعاء، ومن هذا أن يدعو إنسان بشيء يستحيل في العادة [15] أن يتحقق، كأن يدعو بأن يرزقه الله بالولد حال كونه غير متزوج بعد، بخلاف ما لو قصد أن يرزق بالولد، بأن يحصل ذلك بأسبابه العادية بأن يرزق الزوجة ثم الولد.
وكذلك مثلًا لو كان عنده عقم، فمن التعدي في الدعاء أن يدعو أن يرزق بالولد حال كونه عقيما! بل يمكن أن يدعو أن يرزقه الله الولد بأن يشفيه ثم يرزقه.
فلو دعا شخص مثلًا بأن تنتصر أمة الإسلام الضعيفة على أقوى الأمم، فهذا ليس من باب سوء الأدب، إذ يحمل الدعاء على (اللهم هيئ لنا الأسباب لننتصر)، وإنما الممنوع هو أن أدعو بالنصر بلا أسباب.
قال العلامة إبراهيم اللقاني في شرح «جوهرة التوحيد»:
وقال الإمام القرافي:
نفع الدعاء
قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة»[18]، وروي: «الدعاء مخ العبادة»[19]. فأثر الدعاء من حيث هو عبادة كبير فينال الداعي الثواب على فعله، ويشتغل بذكر الحق، وذلك يوجب مقام الهيبة في القلوب، والإنابة في الطاعة، والإقلاع عن المعاصي، ولزوم باب الله عز وجل، ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له. ثم هو نافع في كل أحواله، فإما أن يستجاب بحصول ما يأمله الداعي، وإما أن يستجاب بصرف شر أو جلب خير غير الذي يدعو به الداعي، وإما يستجاب بأن يُدّخر في الآخرة للداعي ثواب أعظم مما كان ليحصّله في الدنيا، ثم يقع الأثر النفسي من السكون والطمأنينة والإخبات لله في كل هذه الأحوال.
فالغالب على الخلق ألا تنصرف قلوبهم لله إلى عند الحاجة، والألم، والإرهاق، والشوق. فكان الدعاء دواءً لأدواء الخلق، ويرد القلب إلى الافتقار والتضرع إلى الله، ورؤية حقيقة نفسه وأنه مخلوق ضعيف. والدعاء صلاةٌ كالصلاة، لأن فيه اتصال بالخالق ومناجاة له.
وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث، إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها». قالوا: إذن نكثر. قال: «الله أكثر».[20]
فالحاصل أن الله تعالى خلق الكون على نظام الأسباب، يخلق الله تعالى المسبب عند السبب. وما قدره الله تعالى في الأزل له شبكة معقدة من الأسباب لا نعرفها غالبًا، وما نعرفه منها نعرف أكثره ظنا، فلا نستطيع القطع بأثر غياب أو تغيير أي أمر في النتيجة الحاصلة. وقد علمنا بالخبر الصادق أن الدعاء سبب قد يتبعه الاستجابة بحصول المطلوب، وهو من جملة قدر الله، ولا يعني ذلك أن الأشياء تحصل بخرق العادة، بل لو قدر الله تعالى استجابة الدعاء هيّأ الأسباب، ولعله لو لم يدعُ لكان الخلق بحيث لن تترتب فيه الأسباب المتشعبة المعقدة ليحصل هذا الشيء.
والتعدي في الدعاء بمعنى طلب المستحيل في العادة حرام ومن سوء أدب، وليس الدعاء مغنيًا عن العمل لتحصيل الشيء بالأسباب التي لا يتم الشيء إلا بها. وللدعاء منافع جمة من الثواب، والأثر النفسي للخضوع لله، والاستجابة بحصول الخير أو دفع الشر في الدنيا أو الآخرة. وله آداب لا بد أن تراعى حتى يكون مقبولًا عند الله عز وجل.
[1]هل الكون يسير بالقوانين الطبيعية أم بالتدخل الإلهي؟[2] والمراد بنحو المعجزة: المعجزة للأنبياء، والكرامات للأولياء.[3]هل فسّر العلم الكون وبيّن عدم احتياجه للإله؟[4] العلماء تكلموا على عالم الملك: وهو عالم الشهادة المدرك بالحواس. وأما الملكوت فهو: عالم الغيب المدرك بنور البصيرة، والعين لا تصلح لمشاهدة الأمور الملكوتية. وكل ما يتعلق بالآخرة فهو من علم الملكوت. (إحياء علوم الدين 1/121، 4/500، ط. دار المعرفة – بيروت. ومن ذلك مثلًا إذا قطعت رقبة شخص، فإن ذلك سبب لموته، وكذلك الله تعالى قد خلق ملك الموت ليقبض روح العباد، مترتبًا على الأسباب الدنيوية، مقارنًا لها.[5] أي الناظر في الشيء من الناحية الفلسفية، من حيث ما هو موجود، ووجوده ذاتي له، أم مستفاد من غيره… إلخ.[6] وسيأتي الكلام على هذه النقطة تفصيلًا في حلقة مستقلة.[7] السبب هو ما يحصل عنده الشيء، فلو كان سببًا لحصل عنده الشيء، إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع، هذا من حيث حقيقته الأنوطولوجية، أما أننا نعلمها فعليًّا تفصيليًّا، فهذا كثيرًا ما لا يكون، فالعلم والظن هنا أمر إبستمولوجيا، يعني نظنه سببًا، أو نقطع بكونه سببًا، لخفائه هو وشروطه وموانعه تفصيلًا.[8] إحياء علوم الدين، 1/329، ط. دار المعرفة – بيروت.[9] مفاتيح الغيب، الفخر الرازي، 19/52، ط. دار إحياء التراث العربي – بيروت.[10] هذه المعاني لرد الدعاء للقدر مأخوذة من مواضع شتى من: فيض القدير، المناوي رحمه الله.[11] القضاء والقدر، الإمام البيهقي، 219، ط. مكتبة العبيكان.[12] أخرجه الترمذى وابن ماجه.[13] الفقرة بتصرف من: فتح الباري، الحافظ ابن حجر العسقلاني، 10/416، ط. دار المعرفة – بيروت.[14] شأن الدعاء، الإمام الخطابي، ص9-10، ط. دار الثقافة العربية.[15] الاستحالة في العادة هي كنحو أن يقفز الإنسان من أعلى عمارة، فإنه يستحيل ألا يقع! وإن تصورنا في العقل أنه ممكن بالنظر العقلي المجرد أن لا يقع. وسبق أن تكلمنا عليها في الحلقات السابقة.[16] ونقله مُقرًّا الإمام ابن عابدين في حاشيته، 1/523.[17] الفروق للقرافي، 4/270.[18] سنن أبي داود 1479، والترمذي 2969.[19] رواه الترمذي، 3371.[20] قال المنذري: رواه أحمد والبزار وأبو يعلى بأسانيد جيدة، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. (الترغيب والترهيب، 2/314، ط. دار الكتب العلمية).