اعتدت أن القوائم من طراز (أهم عشر روايات) و(ثلاثون رواية يجب أن تقرأها قبل أن تموت) ..إلخ تحظى بالسخط دومًا؛ لأن هناك روايات مقدسة لدى كل شخص، ولسوف يجن جنونه عندما تغفل ذكرها، فيأتيك بريد غاضب يقول: «يا لك من أحمق، نسيت رواية (بلهاء في الأوقيانوسية) أو نسيت (أنياب زوج خالتي) وهي من التراث السلفادوري بالغ الأهمية». هناك كذلك الخلط بين (ما الروايات التي أثرت في حياتك؟) و(أي روايات يجب على الشاب المهتم بالأدب قراءتها؟) و(ماذا قرأت من روايات جيدة مؤخرًا؟) و(ماذا تقرأ هذه الأيام؟)، وهو فارق هائل في كل حالة. وفي النهاية تكتب القائمة فتشعر بأنها لا تضم ربع الكتب التي أردت الكلام عنها، وأنك نسيت كذا وكذا. لذا حاولت أن أتهرب من كتابة شيء كهذا، ثم تكرر الطلب من الشباب في عدة مرات، فقررت أن أسمي بعض الروايات التي تهمني أنا على الأقل، أو أثرت في مسار تفكيري بشكل واضح، ربما غيرته كذلك؛ أي أننا سنجيب عن سؤال (ما الروايات التي أثرت في حياتك؟) وهو لن يجيب بالضرورة عن سؤال (أي روايات يجب على الشاب المهتم بالأدب قراءتها؟)


ثلاثية نجيب محفوظ

ثلاثية نجيب محفوظ بين القصرين قصر الشوق السكرية

لابد من وضع النقاط على الحروف، هذا العمل العملاق قد ترك بصماته في تفكير عدة أجيال، ومن لم يقرأ الروايات نفسها شمّ رائحة باهتة من عبير القصة في أفلام «حسن الإمام» التي أبقت الهيكل العام برغم كل شيء، فصار رجل الشارع يعرف ياسين وأحمد عبد الجواد على الأقل. هذا عمل كثيف شديد التعقيد، يصعب فهم كيف سيطر نجيب محفوظ– الذي كان في سن الخامسة والأربعين عندما بدأ كتابة العمل– على كل هذه الخيوط، وفي الآن ذاته هو عمل ممتع يصعب أن تتركه لحظة. هذه تجربة ترينا كيف أن الأدب قد يجمع بين العمق والإمتاع والتعقيد بلا تحذلق، وكما قال د. علي الراعي: «نغمة واحدة تتكرر: الزمان، كم هو يتغير!، من المؤسف أنه يتغير!، ربما يجب أن يتغير الزمان. الشر في العالم كم هو قاسٍ، كم هو ضروري!». لم تستطع أي رواية أجيال أن تؤثر فيّ بعد هذه. الحقيقة أن نجيب محفوظ لم يلقَ بعد التكريم الواجب لمكانته، وقد قرأت أعمال «كويلو» الشهيرة على الأقل فشعرت أنه أقل من محفوظ بمراحل، وما زلت أشعر أن (السيميائي) صورة باهتة من (رحلة ابن فطومة – 1983)، كما أن (الشحاذ) سببت لي أزمة وجودية لا بأس بها، ولا يستطيع أحد أن يفلت من سحر (الطريق) و(اللص والكلاب).


الجريمة والعقاب

الجريمة والعقاب ديستيوفيسكي

عمل «دستويفسكي» الجبار، لعله أول أعمال الأدب الروسي التي وقعت في يدي، وقد شعرت بأنني دخلت عالم المرآة السحري مع جريمة القتل التي نفذها راسكولينكوف الشاب المثقف النابليوني، فشعرت بإثارة شبه بوليسية، والحقيقة أن هذا طراز خاص من الأساليب البوليسية هو (كيف فعلها؟) وليس (من فعلها؟)، ثم بدأت أتورط في عالم نفسية البطل. دستويفسكي الساحر ينجح أن يجعلك أنت البطل نفسه، فتجد نفسك مصابًا بنوبة صرع، أو راغبًا في الانتحار، أو تجد لنفسك كل المبررات لقتل العجوز. مع دستويفسكي يمكنك أن تنزلق للجنون مع البطل دون أن تعرف. هناك مشهد شبه سحاقي بين فتاتين في رواية نيتوشكا نزفانوفنا، فتفاجأ بأنك تشعر بمشاعر الفتاة عاشقة صديقتها، ويرتجف قلبك انفعالاً وأنت تشعر بلذة بلوغ الأرب أخيرًا! من قال إن دستويفسكي ليس جبارًا؟، كانت الجريمة والعقاب هي حفرة الأرنب السحرية التي قادتني لعالم الأدب الروسي، وبعدها وجدت نفسي– في سن صغيرة جدًا هي المدرسة الإعدادية – وسط بوشكين وتورجنيف وتشيكوف وجوجول وشولوخوف وجوركي وتولستوي، كان التأثير كاسحًا وترك علامة لا تُمحى لدي. لربما قادنا هذا إلى روايات مهمة أخرى مثل: الأبله – الإخوة كارامازوف – تراس بولبا – مياه الربيع – آسيا – المعطف – د. جيفاجو، لكن لنكتفِ بالرواية التي بدأت الروايات.


التفاحة والجمجمة

محمد عفيفي التفاحة والجمجمة

في البدء كنت أعشق مقالات «محمد عفيفي» الساخرة التي تُنشر بشكل أسبوعي في مجلة المصور، وتحمل عنوان (ابتسم من فضلك)، ويمكنني بالفعل أن أعيد تسميعها عليك، ثم قرأت معظم كتبه التي تضم مقالاته، قرأتها في المدرسة الابتدائية؛ لذا عندما عرفت أن للرجل رواية طويلة كانت تنشر مسلسلة في مجلة– لعلها الكواكب أو هو وهي- سارعت باقتنائها، وكان ما أدهشني كونها عملاً عميقًا مليئًا بالرمزية والتساؤلات عن الحياة ووجودنا. التفاحة والجمجمة هي ثنائية «الحب والجنس» والموت، وفي الوقت ذاته أنت لا تكف عن الضحك لحظة واحدة. قمت بتسجيل كل حلقات المسلسل الإذاعي الرائع الذي يحمل نفس الاسم، ولم أحب الفيلم الذي قدم عنها. لسبب ما تنجح دائمًا كل القصص التي تدور فوق جزيرة منعزلة وحيث تدخل العواطف والعلاقات مرحلة التجريد. قرأت رواية (حكاية بنت اسمها مرمر) لنفس الكاتب، لكن الفارق هائل بين الروايتين.


ابنة الحظ / صورة قديمة

ابنة الحظ إيزابيل أللندي

من أفضل ما قرأت في سن متقدمة، حيث أنني حسبت أنني قرأت في أول ثلاثين عامًا من عمري كل ما هو جيد أو شائق، ثم أعارني أحد الأصدقاء هذين الكتيبين المتكاملين للكاتبة التشيلية الكبيرة «إيزابيل الليندي»– يبدو أن نطقها الصحيح أيندي- والتي قتل عمها رئيس الدولة الليندي في انقلاب بينوشيه الشهير. غبت في عالم الرواية بضعة أيام، وتذكرت النشوة القديمة عندما كنت مجرد قارئ، ولم أكن كاتبًا بعد. هكذا كانت الرواية تلمس كل عصب في جسدي وترافقني عدة أيام. بعد ما احترفت الكتابة نسبيًا أدركت مشكلة الطهاة الشهيرة، عندما يعجزون عن الاستمتاع بوجبة شهية لأنهم يفكرون في مكوناتها وعيوبها. قبل هذا كان بطل القصة يرتكب خطأ غير منطقي فأشتمه لأنه أحمق، اليوم أشتم المؤلف لأنه هو الأحمق! أعادتني الثنائية الرائعة لعالم القراءة الوردي، وأحببت كل سطر فيها. لدي حساسية خاصة تجاه الأدب النسائي الذي يحاصر نفسه في عوالم القبيلة وكراهية الرجل والمجتمع الذكوري، لكن إيزابيل تكلمت كإنسان أولاً فبرعت وتميزت.


1984

قرأت عن هذه الرواية في كتيب من سلسلة اقرأ يعرض أشهر الأعمال الأدبية، وظل الاسم ملتصقًا بذهني، وقرأت العمل الرائع لنفس المؤلف (مزرعة الحيوان) أولاً، قبل أن تصل لغتي الإنجليزية لدرجة تسمح لي بقراءة هذا العمل المذهل. «جورج أورويل» كان عبقريًا بحق ولا أعرف ما كان يمكن أن يقدمه لو لم يرحل في سن مبكرة. كلما تكلم الناس عن الخيال العلمي وثبت 1984 للسطح، يتكلمون عن السياسة فتطفو الرواية للسطح، خليط مذهل من الخيال العلمي والمغامرة والسياسة، وفيها روائح من عوالم أخرى مثل (عالم جديد شجاع) لـهكسلي و(451 فهرنهايت). فيما بعد اقترحت صديقة سكندرية أن أترجم هذه الرواية فتذكرت أنني كنت أحلم بنسخة عربية منها فيما سبق، هكذا قمت بترجمتها، وأعطاني هذا الفرصة كي أقترب جدًا من النص المذهل. العالم الأورويلي صار مصطلحًا راسخًا كما صار العالم الكافكاوي. في محاكاة واضحة للرواية، صنع «تيري جيليام» فيلم (برازيل -1985) وقدم «موراكامي» 1Q84.


ميزري

1984 جورج أورويل
ميزري بؤس ستيفين كينج

هذا الكتاب يحتل موضعًا مهمًا في روحي لأنه أول ما قرأت «لستيفن كنج»، وكنت أعمل وقتها في المملكة العربية السعودية. اشتريت هذه الرواية الإنجليزية وقرأتها في شغف، فقد جعلتني غائبًا عن العالم لعدة أيام. كنت أنتظر لحظة العودة للبيت لأمارس لذتي الوحيدة: استكمال القصة، وقهرت شعوري بالوحدة والغربة. قلت لنفسي إن هذا كاتب بارع يملك حيوية غير عادية. كانت الكتب غالية، فاعتدت أن أقصد سوبرماركت ميد المجاور للبيت، فأبتاع شطيرة وكوب عصير– ليُسمح لي بالجلوس – ثم آخذ رواية من على الرف، وأجلس في هواء التكييف، وأطالع جزءًا كل يوم، ولم يكن أحد يمنعني أو يعترض. هكذا قرأت في سوبرماركت ميد (كريستين) و(هو) و(تألق) و(كاري)… إلخ. عندما عدت لمصر رأيت مساري محفورًا على الرمال؛ أدب الرعب، وأقسمت أن أترجم رواية (ميزري) بمجرد أن أجد دارًا تسمح لي بذلك، وقد فعلت– مع تلخيص كثير – فكان أن أعجب الأستاذ «حمدي مصطفى» بها وعهد لي بسلسلة روايات عالمية للجيب، التي كان د. نبيل فاروق قد بدأ يسأمها. وأعتقد أنني أول من ترجم ستيفن كنج للعربية، كان اسم الرواية (الشيطانة) .

سأكتفي بهذا القدر منعًا للملل، وأعود لأستكمل في الأسبوع القادم إن شاء الله.