إيدا نوداك: أن تجرؤ على تخيل انقسام ذرة
نوقشت الديستوبيا كثيرًا في الأعمال الأدبية، والتي تم نقل العديد منها إلى التليفزيون والسينما. إذا لم تتح لك مشاهدة مسلسل The handmaid’s tale فبإمكانك أن تجد صورة منه في الواقع تحت الحكم النازي. يتحدث المسلسل –لا حرق للأحداث هنا- عن إجبار النسوة بالقوة على البقاء في نطاق البيت وحصر دورهن في الحياة على تربية الأطفال فقط.
في الواقع، لجوزيف جوبلز – وزير الإعلام والبروباجندا تحت الحكم النازي-تصريح شهير يصف دور المرأة في الأيديولوجيا النازية، يقول فيه:
في خضم هذا الوضع، كان وضعًا عنصريًا هو ما أنقذ إيدا نوداك من وضع عنصري آخر. فلم تجبر نوداك على ترك عملها عندما سنت ألمانيا قانون 1932.. لماذا؟ لأنها كانت تعمل بدون أجر في الأصل.
في ذكرى مولدها، نحاول أن نسلط الضوء على نموذج آخر من نماذج السيدات اللاتي حاولن بقوة، لا من أجل ذواتهن التي تستحق ذلك بالفعل، بل من أجل العلم نفسه.
تفكير خارج المجموعة
أنهت إيدا تاكه Ida Tacke دراستها للهندسة الكيميائية وهندسة التعدين لتبدأ مباشرة في دراسة الأحماض الدهنية وتحصل فيها على شهادة الدكتوراة بعد ثلاث سنوات في 1921. بدأت بعدها إيدا في العمل مباشرة في شركة ألمانية تابعة لشركة جينيرال إليكتريك GE الأمريكية الشهيرة، لكنها ستستقيل منها لتبدأ حياة «صيادي العناصر»، دون أجر.
كانت إيدا قد تواصلت مع والتر نوداك الذي بدأ بحثه توًّا في محاولة إيجاد العناصر غير المكتشفة بعد من الجدول الدوري (كان هذا قبل اكتشاف عناصر ما بعد اليورانيوم). قبلت إيدا العمل دون أجر أملًا في تتويج مجهوداتها باكتشاف أحد العناصر. هكذا بدأ البحث عن العناصر 75 و 43.
كانت فكرة إيدا تنم عن فهم عميق للجدول الدوري الذي انكبت على دراسته لسنوات. كانت ضليعة في الكيمياء التحليلية، بالإضافة لكونها قد تمكنت من استجلاب مساهمة علم السبيكتروسكوبي -أي القياس الكيفي والكمي للعناصر من خلال ما تمتصه من أشعة ذات طاقة معينة- متمثلة في خبرة أوتو بيرج. يمكن تلخيص فكرة إيدا في طرح سؤال: أين يجب أن نبحث عن العنصر 75؟
كانت الإجابة المعتادة تتمثل في إشارة تقليدية، ابحث في خامات العنصر الذي يترأس المجموعة التي يجب أن تضم العنصر المنشود. في حالة العنصر 75 كان العنصر الرئيس هو المنجنيز. وفي خامات المنجنيز حاول الكيميائيون اقتناص العنصر المراوغ.
أما بالنسبة لإيدا، فكان يجب أن نبحث عن العنصر في خامات العناصر المجاورة أفقيًّا كذلك. على هذا الطريق سارت إيدا ووالتر، ووجها مجهودات بيرج السبيكتروسكوبية في التحليل إلى أن وجدا غايتهما أخيرًا. في خام الكولومبيت النرويجي – وهو خام حديد ومنجنيز.
أطلق على هذا العنصر اسم رينيوم Rhenium احتفاءً بمسقط رأس إيدا على نهر الراين.
صاحب هذا الكشف المثير إعلان عن اكتشاف عنصر الماسوريوم أيضًا، والذي حمل العدد الذري 43، لكن هذا الادعاء لم يمكن إثباته في ذاك الحين لصعوبة فصل العنصر الذي نعرفه الآن باسم تكنيتيوم Technetium بما توافر وقتها من تقنية.
نشرت الورقة في عام 1925، وتزوجت إيدا ووالتر في عام 1926، ليبدأ عملهما معًا لا كمدير ومساعدته –أصرت إيدا على توضيح هذه النقطة لأقصى درجة- بل كوحدة عمل متكافئة تمامًا. استمر والتر في الترقي في المناصب تحت الحكم النازي رغم عدم اشتراكه في الحزب، واستمرت إيدا تعمل دون أجر بسبب منع النازية للسيدات المتزوجات من العمل، وأحقية الرجال في وظائفهن. ستنتظر إيدا طويلًا حتى تُمْنَح راتبًا عن عملها الأكاديمي.
بحثًا عن النظام الشامل
كان لإيدا قدرة على تحدي المتعارف عليه بشكل ساهم في إثارة الحنق على عملها، سواء من الشاعرين بغرابة أو الشاعرين بتهديد. كان للأمر أثر كبير في تجاهل جزء ضخم من العمل البحثي الذي قامت به مع والتر. مع هذا فإن التدقيق في منشوراتها يسوق إلينا تصورًا واضحًا لكيميائي موسوعي كتب في أكثر مجالات الكيمياء تعمقًا، كيمياء الأرض وكيمياء الفضاء.
بالإضافة لذلك، تمكنت إيدا من رؤية إمكانات لم يكن للآخرين قدرة على تخيلها. نشر إنريكو فيرمي متحدثًا عن اعتقاده أن قذف نواة اليورانيوم بالنيوترونات يجب أن يتسبب حتمًا في صناعة عنصر يحمل العدد الذري 93، أي أن تكون تلك هي القاعدة التي يتم بها تحضير عناصر ما بعد اليورانيوم. في عام 1934 نشرت إيدا ردًّا على هذا البحث، مبينة فيه أن أبحاثه تشير إلى انشطار نووي لا اندماج نووي بالضرورة.
لم يكن أحد يتصور إمكانية حدوث انشطار نووي بالأساس. كان على إيدا تحدي تصورات العقل البشري ذاتها كما كان عليها تحدي منظور «Paradigm» العلم نفسه للمسألة. تسبب الأمر في جدل واسع لم ينته إلا بعد سنوات عندما قامت ليز ميتنر –ضحية علمية أخرى للنظام النازي- بوضع أسس الانشطار النووي مع أوتو هان، بناء على تجربة فيرمي نفسها.
ارتبطت أفكار إيدا إلى حد كبير بهيكل متكامل من الأفكار التي تتخذ الكون بأكمله مسرحًا لها. كان للألمانية فلسفة خاصة تعكس توقًا لترتيب الكون بأكمله في جدول تسكنه النظائر المشعة لكل العناصر وتربط توزيع العناصر في الكون وتركيزها بتكوين أنوية العناصر. كان لإيدا منظور أبستمولوجي واضح في ورقة 1930 مستمر إلى ورقة 1934 وما بعد ذلك. لقد طالبت إيدا بالبحث في إمكانية إيجاد توزيع «نووي» للعناصر، أي توزيعًا يشبه التوزيع الإلكتروني، ولكنه لمكونات النواة.
تقلبات خطرة
أخذت مسيرة والتر نوداك المهنية في الازدهار، خاصة بعد احتياج الحزب النازي لإدارة قوية تشرف على تنفيذ مشروع العلم الآري خاصتهم. انطوى ذلك حتميًا على سقوطه مع سقوط النازية رغم تبرئته من تهم الحرب التي وجهت لكل أصحاب المناصب أو السلطات إبان تلك الفترة.
كان والتر قد اضطر للتنقل إلى حيثما ارتأت السلطات النازية أنها باحتياج لقيادته. أدى ذلك بوالتر إلى الوصول إلى بامبيرج، حيث سيجد وظيفة صغيرة في كلية تقنية بعدما واجه صعوبات جمة في تأمين عمل يناسب تاريخه البحثي.
اضطرت إيدا ووالتر إلى الذهاب حيث ارتأت السلطات النازية احتياجها لخدمات والتر. لهذا السبب انتهى بهما الأمر في ستراسبورج الفرنسية. كانت المدينة الفرنسية قد آلت إلى الألمان بعد انتصار بروسيا في معركة عام 1871، تلا ذلك فقدانهم لها بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى، ثم تعود المدينة للسيطرة الألمانية في الحرب العالمية الثانية ليخسرها الألمان مرة أخرى بعد الهزيمة.
في آخر مراحل سيطرة الألمان على المنطقة كان نوداك قد ترأس جامعتها، تلك الجامعة التي سيضطر للفرار منها بما استطاع حمله من أدوات وأجهزة سيقوم باستخدامها لتأسيس معهد خاص في فترة عدم قدرته على إيجاد عمل. في هذا المعهد، عادت إيدا للعمل بجوار والتر دون راتب. سينضم المعهد نفسه إلى المؤسسات الحكومية الألمانية لاحقًا، ثم يتوفى والتر تاركًا إيدا مستمرة في العمل بعده لمدة ثماني سنوات.
وأخيرًا تغادر إيدا نوداك العالم في عام 1978 بعد حياة حافلة بالمسرات وخيبات الأمل، بالألمعية ومواجهة التجاهل المرير. عاشت إيدا حياة محفوفة بالمخاطر متفانية في عملها، وفي خضم الهيستيريا التي أمسكت بتلابيب المجتمع الألماني حينها، كان من الممكن ألا تسير الأمور إلى ما آلت إليه.