فيلم أيس كريم في جليم: كيف تحول التمرد إلى نوستالجيا
في عام 1992، بعد سنتين ونصف السنة من انهيار سور برلين، وبعد أشهر قليلة من إعلان غورباتشوف تفكيك الاتحاد السوفياتي، وبعد عشرين عاماً من افتتاح أول فرع لـ «ويمبي» في مصر، وظهور الهيب هوب، وانتشار الهمبرجر، وبداية عصر القطب الواحد سياسياً، وسيادة الثقافة الأمريكية في العالم، كان يعيش «سيف» في جراج خشبي صغير في شارع 9 بالمعادي بعد أن هجر جليم قبلها بسبع سنوات سعياً وراء حلم الشهرة والغناء في القاهرة. هجر الإسكندرية لكنه لم يهجر عادة تناول الأيس كريم في ديسمبر.
في البدء كان الحلم
يبدأ المخرج خيري بشارة فيلم «أيس كريم في جليم» بمشهد شروق الشمس فوق شاطئ النيل، طفلان يرتديان مريلة المدرسة يسيران بجانب النيل، شوارع المعادي المشجرة، مشاهد للحياة اليومية الواقعية بعاديتها ورتابة الصباحات الباكرة. تلك المشاهد التي تربطنا بالواقع، تقول لنا إن ما سنراه حقيقة وواقعاً ولو بدا كالحلم.
غُرفة سيف الخشبية في المعادي، بائع الروبابيكيا الذي يعرض للبيع بيانو مستعملاً، موسيقى تتر البداية بجرأة توزيع (حسام حسني) وحيويتها، حكاية سيف عن فتاة جليم التي رآها مرّة واحدة في محل الآيس كريم ولم تفارق خياله وأحلامه، المشاهد الطويلة لسيف وهو يوزع شرائط الفيديو فوق موتوسيكل مرتدياً الجينز الأسود والجاكيت الجلدي في شوارع القاهرة مع خلفية موسيقية لمقاطع من أغنيات إلفيس بريسلي، it’s now or never وyou don’t like crazy music و baby i don’t care، كل تلك المشاهد تأخذنا لحالة من تتابع الحلم المفتوح، رؤية جديدة حالمة للذات وللقاهرة، نراها من خلال عقول وقلوب جيل جديد يسير نحو الألفية.
لا يتخلى جيل شاب عن الحلم، جيل ثورة 19 في مصر حلم بالتحرر الوطني والحياة الدستورية، غيرهم حلموا بالأممية الشيوعية، في الستينيات كان الحلم هو القومية العربية والتحرر من الإمبريالية. في التسعينيات انهار كل شيء، انهارت الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفياتي، احتلت العراق الكويت وضاع وهم القومية العربية. اختفت كل سردية كبرى وبقي الفرد في مواجهة وجوده الفردي.
يتشابه جيل التسعينيات في مصر مع جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا، حيث كل الوعود الكبرى تبخرت، لم ينقذ العلم والعقل الإنسان من مصائر خطرة، انسحق الإنسان أمام الحداثة، عانى الجميع من المأزق الوجودي، لسنا هنا من أجل قضية كبرى ولا ماهية تسبق وجودنا. علينا أن نبدأ من جديد، من الصفر، دون توجيه من جيل أكبر، جيل الأزمة والمأساة، دون سلطة أبوية.
أبناء الأيام
في مشهد التعارف بين سيف ونور (أشرف عبد الباقي) في سجن الإسكندرية، يستشهد نور في تعريفه لنفسه وتاريخه لسيف بمقولة للكاتب الوجودي الجزائري/الفرنسي ألبير كامو : عندما تموت هذا العام فإن الموت سيتجنبك في العام المقبل.
في افتتاحية كتاب أبناء الأيام، للكاتب الأوروجواياني إدواردو غاليانو، الكتاب الذي يحكي التاريخ غير الرسمي/ التاريخ من منظور غير رسمي، تاريخ سوليداد ابنة رفائيل باريت، مانويلا ليون، تاريخ الطبعة الأولى من كتاب الحس السليم، أو تاريخ قرية تامبو جراندي وكل هؤلاء المهمشين الذين لا يعرف أحد عنهم شيئاً، يقول غاليانو في افتتاحيته، على لسان شعب المايا:
على نفس الشاكلة والطريقة تولدت الحكاية في فيلم «أيس كريم في جليم»، حكاية يوسف ونور وزرياب مع الغناء والفن، الحلم في النجاح ورغبة التحقق. الحبكة بالمعنى التقليدي ظهرت في النصف الثاني من الفيلم، أما أغلب مساحة الفيلم خصصها خيري بشارة والسيناريست محمد المنسي قنديل لما يمكن أن نطلق عليه «البورتريه السينمائي». باستخدام الوصف ترتسم ملامح الصورة/ البورتريه وعبر السرد تتولد الحكاية.
عبر كاميرا (طارق التلمساني) ومن خلال تتبع مسارات حياة كل شخصية، كيف تمشي، تأكل تنفعل، أين تسكن، وكيف تتعامل مع مساحتها الخاصة والعامة، كيف تتصرف في البيت والشارع، ومن خلال مونولوج غنائي يعبر عن قناعات كل شخصية ورؤيتها للحياة ترتسم ملامح الشخصية الداخلية والخارجية. كأننا نعايش تلك الشخصيات في حياتنا اليومية، أو نتلصص عليهم، نعايش تقلباتهم وتطوراتهم يوماً بيوم، من خلال تعاقب الأيام.
المنتمي واللامنتمي
يطرح الفيلم سؤالاً جوهرياً حول الانتماء، ودور الفنان والفن في المجتمع. هل على الفنان أن يتبنى قضايا مجتمعه ويعبر عنها؟ أم يعبر عن نفسه وما يدور داخلها وفقط؟
هل يمكن أن يصبح الفنان، في العالم الثالث، غير منتمٍ؟
في دراسته «المنتمي- دراسة في أدب نجيب محفوظ» يطرح الأستاذ الدكتور غالي شكري في ستينيات القرن العشرين نفس السؤال حول نجيب محفوظ وموقفه من قضية الانتماء.
في المقارنة بين أعمال نجيب محفوظ وكتاب «اللامنتمي» لكولن ويلسون يذهب د. غالي شكري إلى إمكانية أن يكون المفكر والفنان الغربي غير منتمٍ، بحكم تربع مجتمعه على قمة الحضارة ويمكن للفنان هناك أن يرفض وطأة الحداثة وثقل وانسحاق الفرد أمام النظام، أما الفنان العربي، فنان العالم الثالث، فيرى الهوة الحضارية بين مجتمعه والمجتمع الغربي، يرغب الفنان العربي في اللاانتماء، لكنه لا يقدر، يشعر أن دوره هو سدّ الهوّة الحضارية بين مجتمعه والمجتمعات الغربية الحديثة.
يرغب نور الشاعر اليساري في التعبير عن الناس، عن الأطفال العجائز في مهد الطفولة، عن رصيف نمرة خمسة وزحام الشارع، أما سيف، فيرى أن دور الفنان هو التعبير عن نفسه كما هي دون ادعاءات كبرى وشعارات. سيف يمثل الفنان الذي تخلى عن دور البطولة، لا يرغب فيها ولا يسعى خلف سردية كبرى.
ربما، فكرة العولمة التي يطرحها الفليم، أو التساؤل حول الهوية وسيولتها في عصر العولمة وغياب الأيديولوجيات، هي التي أتاحت إمكانية هذا التجاور بين المنتمي واللامنتمي، ربما حتى داخل النفس الواحدة للفنان العربي، فنان العالم الثالث.
حياة مؤقتة
من أنضج الشخصيات التي يقدمها الفيلم بجانب زرياب هي شخصية درية (سيمون)، صديقة سيف وحبيبته.
تعيش درية وسيف حالة الحلم النيويوركية، يمارسان الجنس في غرفته الخشبية في المعادي، ثم تعود في الصباح لواقع حياتها ومنزلها المتواضع في الضاهر.
تعيش درية حالة ترانزيت دائمة، وضع مؤقت دائم، فحياتها مع أمها عاملة النظافة، التي تحبها وتخجل من عملها وتخشى أن تعيش نفس حياتها البائسة في المستقبل. تعمل بائعة عطور في الريست هاوس، في منتصف المسافة بين القاهرة والإسكندرية، منتصف المسافة بين الحلم والواقع. وتعيش بقلب معلق بين سيف وأدهم (عزت أبو عوف)، بين الحلم والمستقبل، الآمال والأحلام والواقع وفرصه المتاحة.
في الوقت الذي يعيش فيه سيف نزوة مع صاحبة مصنع الجلود، كانت تقاوم درية مغريات أدهم وتقاوم تطلعاتها في الترقي الطبقي عبر الجسد. كما اختار سيف اختارت درية، لم يُضر سيف من اختياره لكن اختيار درية شكل منعطفاً تاريخياً في حياتها، لا رجعة فيه. لماذا تدفع النساء تكلفة أكبر من الرجال في مقابل نفس الاختيارات؟!
الحياة على المشاع
زرياب (على حسنين)، زوربا القاهرة، الفنان البوهيمي، فنان الشارع الذي لا يعير للحياة وقيودها أي وزن، يعزف للناس في الشوارع ويتلقى عطاياهم، يشرب مارتيني دوبل في بار راقٍ، يصرف كل ما يتحصل عليه ولا يعير للمستقبل وزناً.
زرياب، الشخصية الأبوية الوحيدة في الفيلم، لا يمارس تلك الأبوة على المستوى البيولوجي ولا المستوى الفني، كأن الجيل الحالي، جيل صناع الفيلم، رافض للأبوة، يرفض إدارتهم للماضي، رغم ذلك مستعد للاستفادة مما لديهم، شريطة أن يكون اختيارياً دون سلطة.
يعيش زرياب الحياة التي اختارها، أن يفعل ما يحلو له حتى لو خسر في المقابل الشهرة والمجد والمال. مثل شينكا الهندي ولامبو الإسباني اختار زرياب الانحياز للناس، الفقراء والمهمشين، يغني لهم ويعيش مصاعب حياتهم.
غادر زرياب الحياة بعد ليلة حب في الهواء الطلق، سعيداً محباً للناس والحياة ، غادر الأب الحياة في أرق صورة لثيمة «قتل الأب» مفسحاً الطريق لجيل جديد يحلم أيضاً بالحب والحرية. جيل يغني للمستقبل، يقول: لو شمس الدنيا دي غابت أنا شمسي تشق الغيم.
من التمرد للنوستالجيا
ثلاثون عاماً تفصل بين التسعينيات ووقتنا الحالي، جيل واحد، لكن الفارق التكنولوجي يجعل الهوة شاسعة بين جيلين. صهرتنا العولمة في بوتقتها، قرب الإنترنت بين شباب العالم ووحدهم، يتابعون نفس المسلسلات في وقت واحد، يشاركون في توقعات الأوسكار على منصات التواصل الاجتماعي يستمع الشباب في مصر لألبوم «بيلي إيليش» يوم صدوره في أمريكا، تلهم مظاهرات ميدان التحرير شباب العالم للتظاهر في ستمائة مدينة غربية ضد النخبة الاقتصادية التي تحتكر اقتصاد العالم. لم نعد مبهورين بالغرب، رأينا العالم بصورة أعقد، وصرنا نعايش نفس أزمات الغرب المتحضر.
يذكرنا «أيس كريم في جليم» بطفولتنا، بالسنوات التي ولدنا ونشأنا فيها، بشوارع القاهرة والإسكندرية قبل أن تتدهور بفعل الإهمال وترهل السلطة، قبل أن تصبح مدناً قبيحة غير صالحة للحياة. يذكرنا بعالم أبسط من عالمنا، أقل تعقيداً يسوده الكاسيت وأشرطة الفيديو ونظرة سطحية ساذجة للغرب تراه الحل أو الأزمة. يذكرنا بمراهقتنا وبدايات التمرد وترديدنا في حماس لأغنية «هتمرد عالوضع الحالي…».
تحول فيلم «أيس كريم في جليم» في الوجدان الشعبي لحالة من النوستالجيا، فقدت صرخة التمرد التي في الفيلم قوتها، بسبب عنف وقسوة العصر الحالي، وبقيت تلك الحالة من النعومة الحالمة. نوستالجيا لماضٍ أحببناه وأحببنا طريقة تمرد شبابه، وللمفارقة هؤلاء الشباب هم آباؤنا المحافظون الآن.