لعبة الجليد والنار: أمريكا الحائرة بين ترامب ومؤسساتها
يعتبر نظام الحكم في الولايات المتحدة نموذجًا معقدًا من تقاسم السلطة، والكبح المتبادل. حيث تخضع السياسة الخارجية في كثير من الحالات لتقييمات السلطة التنفيذية المتمثلة بالرئاسة، ولكن هذا لا يعني بحال عدم تدخل المؤسسات السياسية والتشريعية الأخرى والتأثير في عملية صناعة القرار الخارجي.
ويتضح مبدأ «تقاسم السلطة والكبح المتبادل» بشكل كبير في الديناميكية التي تربط كلًا من الرئيس من جهة والكونجرس الأمريكي من جهة أخرى، وذلك في أربعة مجالات رئيسية تتمحور حول: الحرب، والمعاهدات، وتعيين أعضاء الحكومة والسفراء، والتجارة الخارجية. فعلى سبيل المثال، يمنح الدستور الأمريكي الرئيس صفة «القائد الأعلى للقوات المسلحة» في حين يمنح الكونجرس سلطة إعلان الحرب، والبت في موازنة الدفاع.
أما فيما يتعلق بالاتفاقيات الدولية فالرئيس مخول بإجراء التفاوض والتعاقد مع اللاعبين الدوليين في حين يتمحور دول الكونجرس بالمصادقة على هذه المعاهدات بأغلبية الثلثيين، ومن المعروف تقليديًّا أن هناك ثلاث جهات مناط بها وضع الرؤى والتصورات الخاصة بالسياسة الخارجية الأمريكية، هي: البيت الأبيض بشكل رئيسي (الرئيس، ونائب الرئيس، ومستشار الأمن القومي)، ووزارة الخارجية، ومجلس الأمن القومي، حيث يقتصر دور المؤسستين الأخيرتين على تنفيذ هذه السياسات.
وتلعب كل من السلطة التشريعية والقضائية دورًا محوريًا في دعم السياسة الخارجية للبيت الأبيض أو مناهضتها، وذلك حينما يتعلق الأمر – بالنسبة للسلطة التشريعية – بالتصويت لصالح التصديق على اتفاق ما، أو إلغائه، أو شن هجمات عسكرية. وبالنسبة للسلطة القضائية، حين يتم الفصل في دستورية قرارات الرئيس التنفيذية (مثل الفصل في دستورية قرار ترامب بحظر دخول مواطني سبع دول ذات أغلبية مسلمة إلى الولايات المتحدة)، أو ملاحقة أعضاء الفريق الرئاسي قضائيًا.
كيف تشكّلت إدارة ترامب؟
منذ بدء حملته الانتخابية، يعلن دونالد ترامب رفضه للمؤسسات الأمريكية (السياسية والاقتصادية)، ويعدّها السبب في الأزمات السياسية والاقتصادية التي شهدتها الولايات المتحدة خلال العقد الماضي. وقد ذكر بشكل مباشر في خطاب تنصيبه في 20 يناير/كانون الثاني 2017، أن: «المؤسسات الأمريكية تحمي نفسها وليس الأمريكيين، وإنه خلال إدارته سيكون الشعب هو الحاكم الفعلي، وليس النخبة التقليدية الأمريكية».
وعلى ذلك جاءت صداماته المبكرة مع مؤسسات الدولة. فخلال الأيام الأولى لإدارة ترامب، قام بإصدار أوامر تنفيذية تُغير في بنية المؤسسات الأمريكية، بإعطاء مستشاري الرئيس سلطة تفوق التنفيذيين والخبراء، وهو الأمر الذي أحدث صدامًا داخل المؤسسة التنفيذية، وقد ظهر هذا الصدام إلى العلن مع معارضة الرئيس ومستشاريه لتسميات وزيري الدفاع والخارجية لنوابهما، وسعيه إلى فرض أسماء تدين بالولاء له، ولمستشاريه، والتي رفضها الوزيران.
كما دخل ترامب في صدام مع السلطة القضائية، بعد الإيقاف المؤقت لأمره التنفيذي الخاص بمنع دخول مواطني سبع دول ذات أغلبية مسلمة إلى الأراضي الأمريكية. وكذا مع السلطة التشريعية، على الرغم من تمتع حزب الرئيس (الحزب الجمهوري) بالأغلبية في مجلسي الكونجرس (مجلسي النواب والشيوخ)، إضافة إلى الصدام مع مجمع الاستخبارات الأمريكية، الذي يسرب لوسائل الإعلام الأمريكية اتصالات سرية لعدد من أعضاء الإدارة الأمريكية بروسيا.
وقد انعكس صراع ترامب مع مؤسسات الحكم الأمريكية في تشكيل إدارته. ففي بداية حكمه لم يكن يعرف دوائر واشنطن التقليدية، والأهم أنه لم يكن يكترث بها. فجاء ترامب بوزراء عسكريين مثل وزير الدفاع «جيمس ماتيس» (وهو المنصب الذي شغله في أغلب العصور السابقة شخصية مدنية)، ووزير الأمن الداخلي الجنرال «جون كيلي»، واختار الجنرال «مايكل فلين» مستشارًا للأمن القومي. وجاء ترامب بمليارديرات ممن لا يعرفون واشنطن مثله، على غرار وزير الخزانة «ستيفن منوتشين»، ووزيرة التعليم «بيتسي ديفوس»، ووزير الخارجية «ريكس تريلسون». ولم يمانع ترامب في تعيين أقاربه ومعارفه في مناصب حيوية مثل زوج ابنته «جاريد كوشنر» كمستشار بالبيت الأبيض، ومشرف على ملف سلام الشرق الأوسط، وكذلك صديقه لسنوات طويله «ديفيد فريدمان» كسفير في إسرائيل.
ونتيجة لاستمرار هذا الصراع، وإصرار ترامب على ترجيح العامل الشخصي في إدارة ملفات السياسة الخارجية (وكذلك السياسة الداخلية)، شهد البيت الأبيض تغييرات عدة في مناصب جوهرية داخله. كان أهمها إقالة المستشار اليميني المتطرف لترامب «ستيف بانون»، في أعقاب الحمالات الإعلامية القوية التي شُنت ضده بسبب افتقاده للدبلوماسية، وآرائه المتطرفة، ولكن يجب ملاحظة أن خروج بانون من البيت الأبيض لا يعني اختفاء تأثيره على سياسة ترامب الخارجية.
فقد عاد بانون إلى موقع «بريتبارت الإخباري» الشعبوي، والذي كان يشرف عليه قبل تفرغه للعمل ضمن فريق حملة وإدارة ترامب. وذكر في أول مقابلة صحفية بعد ذلك، وكانت من نصيب مجلة الإيكونوميست البريطانية أنه «امتلك تأثيرًا كبيرًا خلال وجوده داخل البيت الأبيض، إلا أنه الآن يمتلك القوة من خلال وجوده على رأس موقع بريتبارت الإخباري»، وتعهد بدعم ترامب في مواجهاته ضد الكونجرس، ووسائل الإعلام وقطاع الأعمال والشركات.
وعلى خلفية فضيحة الاتصالات مع روسيا، تمت إقالة مستشار الأمن القومي «مايكل فلين»، وجاء خلفه الجنرال «هربرت ماكماستر»، وذلك بعد رفض الأميرال المتقاعد «روبرت هاروارد» تولي المنصب، لعدم حصوله على ضمانات من ترامب بأنه سيكون المسئول الأول عن صياغة سياساته، وليس مستشارو الرئيس السياسيون.
وعلى خلفية أخبار تُشير إلى قيام كبير موظفي البيت الأبيض «رينس بريبوس» بتسريب معلومات من البيت الأبيض، تمت إقالته في 29 يوليو/تموز، وتم تعيين وزير الأمن الداخلي الجنرال «جون كيلي» خلفًا له، ويبدو أن خلافات ترامب السابقة مع بريبوس كانت السبب وراء هذه الإقالة، فترامب شخص يرفض النقد، ويرغب في إدارة منسجمة تمامًا مع توجهاته.
سياسة ترامب الخارجية
قبل تولي ترامب مقاليد الحكم بشكل رسمي، وخلال حملته الانتخابية، كان من الواضح أن ترامب غير منسجم مع سياسات حزبه، ولم يعتبر نفسه مُلزمًا بتوجهات أيديولوجية بعينها، ولا يقبل بأي قواعد للسلوك السياسي الجمهوري. وكان أيضًا من الجلي أنه يفتقر لأي خبرة في السياسية الدولية، وهو الذي لم يكن معنيًا بها في السابق قدر تركيزه على عالم المال والأعمال.
إضافة إلى ذلك، بدا أن ترامب من نوعية الشخصيات التي لا تعترف بالإخفاق، والتي – فمن شدة إعجابها بالذات – تقوم بتحويل الإخفاق عن طريق الدعاية الكاذبة إلى نجاح. فقد صرح، ذات مرة، على متن طائرته الرئاسية لمجموعة من الصحافيين بأن «لدينا واحدًا من أنجح 13 أسبوعًا في تاريخ الرئاسة». وفي مقابلة مع Fox Business قال: «لا أعتقد أن هناك أحداً قد فعل ما كنا قادرين على القيام به في المائة يوم الأولى للفترة الرئاسية». أما حديثه في Wisconsin فقد ذهب بعيدًا عندما أكد أنه لا توجد إدارة قد أنجزت كما أنجزت إدارته في 90 يومًا. وقد صرح لـFinancial Times بأنه «لا يخسر»، كما صرح لقناة ABC بأنه «لم يفلس أبدًا».
ولذلك، فإن ترامب لن يقبل – بأي حال من الأحوال – بفترة رئاسية عادية، تخلو من القرارات المصيرية غير المسبوقة. وبالتالي، فإن ركود بعض الملفات، أو عجزه عن تحقيق تقدم إيجابي بها، قد يدفعه إلى قلب الطاولة، واتخاذ قرارات جريئة – قد تحمل آثارًا سلبية – مثل قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، حتى وإن كانت تلك القرارات غير منسجمة مع تقاليد مؤسسات الحكم الأمريكية.
أمّا إذا حاولنا إبراز السمة الرئيسية لسياسة ترامب الخارجية، بما يتوافق مع تركيب إدارته، فستكون«العسكرة وغياب الدبلوماسية».
فالميزانية الفيدرالية الأولى لترامب، والمخصصة لعام 2018، شهدت زيادة مقدارها 10% أو 54 مليار دولار لوزارة الدفاع، مقابل دعوته لتخفيض مقداره 28% أو 29 مليار دولار من وزارة الخارجية. وكذلك تعهد بجعل بلاده الأكثر تفوقًا في امتلاك الأسلحة النووية، حيث تملك روسيا حاليًا 7000 رأس نووي، بينما توجد لدى الولايات المتحدة ترسانة مقدارها 6800 رأس نووي، وهو ما يدفع لتجديد سباق تسلح نووي ظن الكثيرون أنه انتهى من عدة عقود.
كما منح ترامب وزارة الدفاع والقادة الميدانيين العسكريين المنتشرين في العراق وسوريا وأفغانستان وقرب اليمن ضوء أخضر لشن هجمات حسبما يرتقي لهم دون العودة للبيت الأبيض للحصول على موافقة الرئيس شخصياً، وذلك سواء كانت هذه العمليات العسكرية صغيرة أو كبيرة.
وفي المقال همّش ترامب، منذ توليه السلطة،دور وزارة الخارجية في القيام بدورها التقليدي في صياغة السياسة الخارجية الأمريكية، من خلال تغييب الوزير عن مناقشاته مع رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، ورئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مقابل حضور مستشاريه المقربين منه، إلى جانب توقف المؤتمرات الصحفية اليومية للوزارة، التي كانت تعقد بانتظام منذ وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون فوستر دالاس، في خمسينيات القرن المنصرم.
كما لم يأخذ ترامب رأي وزارة الخارجية قبل اتخاذ قرارات رئيسية من اختصاصها، مثل تراجعه عن دعم حل الدولتين للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ودعم إقامة دولة فلسطينية، ونقل السفارة إلى القدس، وتوجيهه تحذيرًا علنيًا إلى إيران بشأن تجارب الصواريخ الباليستية التي تنفذها.
مُحصلة السياسات المضطربة
عادةً، وفي ظل معظم الإدارات الأمريكية السابقة، تتم صياغة السياسة الخارجية تجاه أي قضية من خلال عملية جمع وتشاور وتحليل لفريق الأمن القومي، ثم يكون للرئيس الكلمة الفاصلة، وبعد ذلك يتوحّد خطاب المسئولين بخصوص هذه القضية.
لكن، ونتيجة العوامل التي تحدثنا عنها في السابق، ليس الحال كذلك في إدارة ترامب، ففي معظم الملفات الخارجية إن لم يكن في كلها، صدرت عن الإدارة مواقف متباينة وأحيانًا متضاربة، إزاء الملف نفسه، فما يعلنه وزير الخارجية، يسارع البيت الأبيض إلى نقضه.
ويعتبر المراقبون أن أبرز ملفين عانا من اضطراب السياسة الخارجية الأمريكية، هما كوريا الشمالية والشرق الأوسط.
ففي أزمة كوريا الشمالية، كانت الصين الرابح الأكبر، بعد العودة إلى الخيار الدبلوماسي مرة أخرى، والذي سبق وتبناه وزير الخارجية ريكس تيلرسون، وشوّش عليه ترامب. وأخذت بكين المبادرة وتراجع ترامب عن حدة خطابه، مع قبول ضمني بفكرة ضبط المشروع النووي الصاروخي الكوري الشمالي حاليًا، وليس انهاءه تماماً.
وفي الجانب التجاري، رُجّحت أيضًا كفة الصين، بحسب الخبراء، لأن الاتفاقيات الثنائية التي أصرّ عليها ترامب تصب في مصلحة بكين على المدى الطويل. فالعمل بالعقود مع الدول بدل الاتفاقيات الجماعية، يعطي الصين فرصة لربط الأسواق الآسيوية بها بدل الولايات المتحدة، والتي يصرّ رئيسها على الانكفاء والتعامل بالعقود على طريقة إدارته لشركاته.
أما بخصوص قضايا الشرق الأوسط، فيبدو أن ترامب قد تبنى منهجًا يُسمى بـ «حالة التوازن خارج المجال»، والذي يقوم على تشجيع بلدان معينة على تولي عملية مراقبة وعرقلة القوى الصاعدة، التي تتعارض طموحاتها مع سياسة واشنطن، وذلك بأقل قدر من التدخل الأمريكي المباشر عسكريًا أو سياسيًا. وهو ما قام ترامب بتطبيقه في حالة (السعودية-إيران) و(السعودية-قطر).
حيث احتضن ترامب الأمير السعودي محمد بن سلمان، وأبدى موافقته الضمنية على سياسات الأمير الشاب المتهورة والمندفعة، سواء تجاه قطر أو إيران، وسواء في لبنان أو اليمن. وذلك على عكس مواقف المؤسسات الأمريكية، التي حرصت على تبني مواقف متوازنة، خاصة في الأزمة الخليجية.
وفي ملف الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، تولى صهر ترامب «جاريد كوشنر» مقاليد الأمور، في ظل تغيّيب تام لوزارة الخارجية، حتى أن السفير الأمريكي في إسرائيل «ديفيد فريدمان» أدلى أحيانًا بمواقف وتصريحات متجاوزًا وزارة الخارجية. وهو الأمر الذي وصل بالولايات المتحدة في نهاية الأمر، إلى تعقيد عملية السلام، بقرار نقل السفارة، التي أثار غضب المؤسسات الأمريكية، وكذلك المجتمع الدولي.