«إبراهيم نصر»: النكتة الأخيرة للكوميديان الحكاء
بهذه الكلمات التي ربما خرجت من لا وعي الفنان المصري إبراهيم نصر، يمكننا بدأ حكايتنا اليوم عن نكتته الأخيرة، هذه الكلمات خرجت بالتحديد في لقاء نصر مع الفنانة إسعاد يونس في مارس من عام 2016، علقت إسعاد بالطبع على وصف «آخر لحظة في حياتي»، ليخبرها نصر أنه ربما قصد حياته الفنية، رغم أنه شارك حتى بعد هذا اللقاء في مسلسل فوق السحاب وظهر في عدد آخر من اللقاءات، لكن ربما كان قصده صحيحاً، لأن هذه الجملة ما زالت معبرة عنه وحتى آخر أنفاسه في مايو 2020، وأثناء شهر رمضان الذي شهد توهجه وشهرته التي لا ينازعه فيها أي كوميديان مصري، ونقصد هنا تحديدا الشهرة المرتبطة برمضان، فحتى اليوم يكفي ذكر كلمتين فقط للتدليل على إبراهيم نصر، مقالب رمضان.
ماذا قصد إبراهيم نصر بهذه الجملة؟ هل لم نفهمه حقاً؟ هل هناك خلف الكاميرا الخفية أمر لم ندركه؟ هل هناك خلف الملابس الملونة والشعر المستعار أمر لم نلقِ له الاهتمام الكافي كجماهير وكنقاد عن إبراهيم نصر حتى رحيله؟
النكتة العملية في مقابل حفلات الإهانة
في كافة حوارات إبراهيم نصر، يعرف الرجل ما فعله في الكاميرا الخفية كونه دراما ذات بداية ووسط ونهاية، وهو الفارق الرئيسي بينه وبين برامج المقالب الأجنبية التي كانت تُذاع كمقتطفات على التلفزيون المصري خلال التسعينيات.
الفنان الأمريكي وصانع المقالب آبي هوفمان قد قسم المقالب، أو «النكات العملية» كما يطلق عليها البعض، إلى ثلاثة أنواع، النوع الأول، يتضمن المقالب التي تتضمن انتقاماً أو سلوكاً عنيفاً، كحلاقة جزء من فروة شعر صديقك وهو نائم مثلاً، وهو النوع الذي يسميه عالم علم الاجتماع إريفين جوفمان حفلات الحط من القدر Degradation ceremony، النوع الثاني، هو الذي يتضمن عادة نهاية ملموسة، ولكنها غير مؤذية جسدياً، كأن تلف مناديل الحمام مثلاً بطبقات من ورق السلوفان، هذا أمر مزعج لمن يتعرض للمقلب لكنه يمكن تخطيه، النوع الثالث، وهو ما يطلق عليه هوفمان «المقالب الجيدة» هو النوع الذي يتضمن سخرية من مخاوف الإنسان، والذي لا يحط من قدره بل يضعه في موقف مليء يالحيرة ينتهي به بشكل إيجابي يجعله يتساءل عن مخاوفه من المستقبل. الأمر الذي يجب إلقاء الضوء عليه هنا أن المقلب الجيد قد يبدو كمحاكاة لحدث ما، أما أن تصنع الحدث نفسه فهذا ليس مقلباً على الإطلاق.
إذا ما عدنا للسياق المصري فالاسم الوحيد الذي يمكن مقارنته بالراحل إبراهيم نصر في شهرته المرتبطة بمقالب رمضان هو اسم رامز جلال، لكن الفارق شاسع للغاية بينهما، نصر يحظى بمحبة كبيرة جداً من الجمهور حتى اليوم، فيما يتعرض رامز سنوياً لحملات رفض ونقد لاذع، بالعودة للتصنيف السابق فمقالب رامز جميعها يمكن وضعها في التصنيف الأول، حفلات الحط من القدر أو حفلات الإهانة، هذا رجل يقدم برنامجاً يبدأ بفقرة تنمر وإهانة لضيفة، ثم يتبعه ذلك بصنع حدث خطير حقيقي مؤذ جسدياً.
على الجانب الآخر، فمقالب نصر تتأرجح بين المقالب المتوسطة والمقالب الجيدة، نعود مثلًا لإحدى أفضل حلقات الكاميرا الخفية، حيث يفاجئ رجلاً أو امرأة باحتفال ضخم عند خروجه من الحمام، وبمذيع ومذيعة يسألونه عن مشاعره، وعن مكافأة مادية كبيرة تنتظره، هذه محاكاة لحدث، تضع الضيف في موقف مليء بالحيرة والإحراج، لكنه غير مؤذ جسدياً، كما يدفعه للتحرر قليلاً من خجله، كلنا بشر وندخل الحمام، ما العيب في ذلك؟
يأتي الضحك هنا وبشكل مباشر من الحيرة لدى المشاهدين أنفسهم، الحيرة لوجودك في موقف غير متوقع، والحيرة لتفكيرك في رد فعلك لو كنت مكانه، ثم يستمر الضحك نتيجة رد فعل الضيف، المواطن العادي أمام الكاميرا، الضحك هنا يأتي من الموقف لا من الإنسان نفسه، الضحك حوله وليس عنه.
على الجانب الآخر يبدو إبراهيم نصر مدركاً لأن المقلب الجيد هو مقلب غير مؤذ أو مهين، ويضرب المثل هنا بحلقة الكاميرا الخفية التي يمكن تصنيفها ضمن المقالب المتوسطة – النوع الثاني، وهي حلقة البيتزا، التي يحاكي فيها صناع الكاميرا الخفية أن البيتزا التي أكلها بعض الضيوف تحتوي على مواد بناء، هذه مرة أخرى محاكاة لموقف، وليست صناعة حقيقية له، رغماً عن ذلك فنجد أن إبراهيم نصر قد أنهى الحلقة على الفور حينما علم بوجود ضيفة تحمل في رحمها جنيناً.
في حواره مع إسعاد يونس الذي أشرنا له من قبل يؤكد نصر بوضوح تام أنه فكر حينها أنه لن يسامح نفسه إذا ما تسبب في أذى جسدي أو سيكولوجي قد يؤثر في هذا الجنين مستقبلاً.
طوال مواسم إبراهيم نصر لم يتعرض بأي قدر من التنمر ضد أي من ضيوفه، كما لم ينتقيهم من طبقة اجتماعية واحدة، الأهم أنه كان يقدم لهم قدراً كبيراً من الاحترام في مرحلة النهاية من مقلبه، وهي المرحلة التي يقول فيها جملته الشهيرة، «لو حضراتكم تحبوا تذيعوا هنذيع، لو مش حابين مش هنذيع»، وافق الكثيرون ورفض البعض وهذا هو العقد الأهم بين الطرفين.
أجاد نصر التعامل مع ضيوفه طبقاً لطريقتهم الكلامية والسلوكية، ونجده حريصاً على عدم وجود أي شك في تلقي ما يفعله كتنمر من فئة ما، يذكر مثلاً أن ضيفاً ما كان فلاحاً، ثم يتدارك سريعاً ليذكر أن كلنا «فلاحون وصعايدة»، وهو أمر حقيقي بالمناسبة في حالة نصر، فرغم مولده في شبرا فإنه من أسرة صعيدية.
ربما تسرب بعض ممثلي المجاميع والكومبارس إلى بعض حلقات الكاميرا الخفية في المواسم الأخيرة، لكن الأكيد أن غالبية الضيوف وبالتحديد في المواسم الأولى كانوا مواطنين حقيقيين. قلت عدد المقالب التي تنتمى للنوع الجيد أيضاً في المواسم الأخيرة، وهو ما أدركة نصر وتوقف، وصف ذلك بأنه وجد أن المشهد حوله غير جيد، وأن هناك ما سيحدث وسيدفع الجمهور الذي أحبه طوال هذه السنوات لمهاجمته، وهذا أمر لو حدث لفكر شخصياً في الانتحار، قالها حرفياً بهذا الشكل.
الحكاء خلف القناع
خلف كل هذا الزخم أغفل كثيرون نقطة القوة الأهم لإبراهيم نصر، وهي كونه أحد أفضل الحكاءين الكوميديين في تاريخ الفن المصري، نصر موهوب وبشدة في سرد الحكاية، يمتلك قدرة صوتية وجسدية لا ينازعه فيها أحد، كما أنه قادر وربما دون دراسة، وربما حتى دون وعي، على سرد حواديت كوميدية بشكل غاية في السلاسة والدقة والاحترافية في آن واحد.
مؤدو فن «الاستاند أب كوميدي» هم الحكاءون الكوميديون بالاسم الجديد، في أمريكا جيري ساينفيلد مثلاً هو المثال الأهم، رجل يلاحظ مجتمعه، ثم يخرج على المسرح لسرد حكاية حدثت له شخصياً، يبدأ الأمر بشكل معتاد للغاية كذهابه إلى السوبر ماركت مثلاً، تبدأ التفاصيل الاعتيادية المملة في التسرب، وقبل أن يمل المشاهد يفصح ساينفيلد عن تفصيلة صغيرة غير متوقعة تنتج ضحكاً، يستمر الأمر هكذا حتى يحصل التواءة حبكة كبرى ينفجر فيها الجمهور ضحكاً.
في مصر إبراهيم نصر كان يفعل ذلك وبشكل مستمر في كافة لقاءاته التلفزيونية، لدرجة يبدو معها برنامجه الشهير «الكاميرا الخفية» كمحاولة منه لسرد الحكايات الكوميدية بشكل عملي أمام الناس، هكذا يصبح التفسير واضحاً لفقرة المقدمة التي كان يصنعها نصر، يحكي قليلاً، ثم يقول جملته الشهيرة «ما تيجو نشوف» .
إحدى أجمل حكايات نصر الكوميدية، والتي يمزج فيها بين صنعة الحكي وقدرته المذهلة على استخدام جسده وصوته في عملية السرد، هي حكاياته عن اليوم الذي ذهب فيه برفقة صديقه أحمد السيد إلى ترزي لتفصيل جلباب يحتاجه في تصوير أحد المسلسلات المصرية الريفية التي كانت يتم تصويرها في ذلك العصر في اليونان.
يذهب إبراهيم نصر وصديقه إلى عمارة قديمة، يخبرنا نصر أن البناية قديمة وأن ارتفاع الدور الواحد وقتها كان مساوياً لارتفاع دورين حالياً، ثم يخبرنا أنهم صعدوا 6 أدوار، أي أنها مساوية لاثني عشر دوراً حالياً، ليجدا باباً خشبياً، يفتحاه، هنا يصنع نصر صوت فتح الباب كما يتذكره، ثم يضيف: باب قديم جداً يبدو أنه لم ينفتح منذ عشرات السنين، ثم يخبرنا أنه وجد صالة واسعة، أرضيته حجرية، يصفها بأنها أحجار تشبه أحجار شوارع مدن أوروبا القديمة، يعبر نصر وصديقه الصالة ليجدا باباً آخر، ومن ورائه صوت آلة خياطة، يصنع نصر الصوت بيديه وبفمه، يدخل ليجد ثلاثة أشخاص، يصفهم واحداً تلو الآخر، ثم يقسم بحياة كل من يعرفه، كما يقسم بالله قبل كل ذلك، أنا ما سيخبرنا به عقب ذلك حقيقي.
تستمر الحكاية عبر التواءة حبكة ينفجر معها الضحك، ثم تأتي الحيرة، ثم تأتي الانفراجة والراحة، والمزيد من الضحك.
قام إبراهيم نصر بأداء هذه الحكاية وبقدرات حكواتية مذهلة في أربع حوارات شاهدتها له، مع هالة سرحان في ART، ثم مع إسعاد يونس، عمر الليثي، وإيمان الحصري، على الترتيب، في الثلاثة حوارات الأخيرة بدأت التفاصيل تقل تدريجياً، والأداء الحركي والصوتي أيضاً، لم ينسها إبراهيم نصر، لكنه حكم الحالة النفسية والعمرية.
في الماضي كان الأمر مختلفاً، إسعاد يونس بشكل خاص ذكرت أنها جلست لأسابيع في رحلة خارج مصر وهي تستمع فقط لحكايات إبراهيم نصر.
إبراهيم نصر كان يحكي الحكايات من خلال نكاته العملية إذن في برامجه، كانت المتنفس الوحيد لهذا الكم من الحكايات وهذه القدرة المبهرة على الحكي، وربما لو كان فن الحكي والإستاند أب كوميدي قد وصل لمصر في توقيت أقرب لاستمتعنا به ككوميديان حكاء من طراز فريد.
لكن لماذا لم يُستغَل إبراهيم نصر بالقدر الكافي كحكاء وكوميديان في الدراما والسينما المصرية؟ هذا هو السؤال الأهم.
النكتة الأخيرة
كلمات جيري ساينفيلد تبرز كتفسير جديد قديم لهموم كل الكوميديانات على مستوى العالم، كما أنها أيضاً تعيدنا إلى بطلنا الراحل إبراهيم نصر.
في حواره مع المذيع المصري عمرو الليثي عام 2018، وبسؤاله عن أثر الشهرة التي تحققت عبر مئات الحلقات التي قدمها من الكاميرا الخفية عليه، أجاب إبراهيم نصر وبشكل مفاجئ تماماً في كلمة واحدة «كئابة»، استرسل نصر عقب ذلك في ما يمكننا اعتباره واحدة من أصدق لحظاته على الشاشة، حينما قال إنه عانى من شعور دائم بأن ما صنعه كان يحتاج للكثير من التعديلات، وأنه شخصياً طالما طارده شعور بالنقص، والحزن، وأنه يضحك الآن فقط لأنه معه ومع الجمهور على الشاشة، لكنه حينما يجلس وحيداً فهو حزين بشكل شبه دائم.
يظهر إبراهيم نصر للجمهور دائماً بملابس زاهية، بذلات حمراء وخضراء، وشعر مستعار ونظارة، يصنع ظهوره الشخصي على الشاشة مدخلاً للبهجة، حتى قبل أن يتحدث، هكذا أحب، وهكذا أراده الناس، على جانب آخر فلم يحظ الرجل بالفرصة الكافية للحكي، ولا بالفرصة الكافية للظهور كإبراهيم نصر الإنسان، ليس كزكية زكريا، وليس بشخصيته التمثيلية الكوميدية.
تعرض إبراهيم نصر لسوء الفهم حتى آخر لحظات حياته، من مجتمع يرى جمهوره أن الضاحكين ضاحكون دائماً، ويعتقد نقاده أن الكوميديا أقل قدراً من غيرها من الفنون، تنتشر الكتابات الآن لتدلل على قيمة إبراهيم نصر التمثيلية من خلال أدواره القليلة كماً الكبيرة قدراً على شاشة السينما، خصوصا أدواره غير الكوميدية من شمس الزناتي ومستر كاراتيه وامرأة واحدة لا تكفي، وصولاً إلى إكس لارج.
لكن ماذا لو كان شخصية إبراهيم نصر التي عرفناها كجمهور عبر البرامج هي إنجازه الأكبر، الرجل الملون، الحكاء، صاحب القدرات الصوتية والجسدية المذهلة، وصاحب الحضور الطاغي، الرجل الذي كان يصنع الضحكات بشكل ارتجالي ليضحك مع جمهوره، الرجل الذي سيبقى في أذهان الجماهير بهذه الصورة، حتى لو كان في الحقيقة يعاني من الاكتئاب والملل، هذه الشخصية التي صنعها إبراهيم نصر هي نكتته الباقية، هي النكتة الأخيرة.