«ابن حلال»: وما زال الابتذال بالعند في الأنذال!
ليس استعلاءً أو استكبارًا في الأرض، ولكن الناس تضاعف احترامها لمن يرهق نفسه قليلا في إنجازه وإتقان فنّه، وتُقدِّر من يحترم عقولهم، وتضفي شيئا من الخصوصية لمن يضيف لهم شيئا من تخصصه. قد يزهو صناع مسلسل «ابن حلال» برواجه على شبكة الإنترنت وروّاد المقاهي البلدية، لكن بائع المشروبات المزيفة التي يبيعونها في الموالد يملك الحق ذاته!
الصحفي النشيط يعرف قانون الأسئلة الخمس (5W) الصارم: أين؟ متى؟ من؟ ماذا؟ لماذا؟ فإذا اجتهد لوجد الإجابات على الترتيب: مصر، زمن المتاعب، مرتزقة السبوبة، توليفة مستهلكة، لأن المجتمع حائر دائر دائخ.
والخلطة السحرية هي شاب طحنته الظروف، فزجّت به ملابسات قاسية في سجن علّمه التوحُّش وخرج منه يطلب الثأر الدموي، وهي تيمة لا تخيب أبدًا، من أيام الكونت دي مونت كريستو وحتى أحدث المسلسلات التركية (ويلعب الدور محمد رمضان الذي سوف يكرر نفسه للأبد حتى يسعد أمير الانتقام في قبره). أضف إلى ذلك الأم المكلومة التي تتشحتف وتولول في أي مناسبة (هالة فاخر في ثوبها الجديد منذ تحجّبت).
اللعب على وتر سطوة الأغنياء الكفرة التي تدمر حياة الفقير الروحاني النبيل، ضابط نزيه وصحفية مثالية يحققان العدالة على طريقة كل المسلسلات الأجنبية في نهاية التسعينات، هناك كذلك أغانٍ شعبية ماسوشية في منطقة وسط بين عذاب مصطفى كامل السرمدي، ومهرجانات التوكتوك، ماذا لدينا أيضا؟ نعم، هناك فتاة شقراء متحررة بملابس قصيرة جدا أو شفافة جدا أو مُبتلة، ظهرت شبه عارية عدة مرات! هكذا ضاقت ثقوب الشبكة، فكيف يفلت المتفرج البسيط محدود الدخل والذكاء والتعليم ووسائل الترفيه؟
هذه خلطة مسمومة تبتز العواطف البدائية وكل ما هو غريزي عدواني في النفس. الزعم أن هذا ما يريده المشاهد مرفوض، والدليل احتفاؤه فيما سبق بأعمال نظيفة هامة كالراية البيضاء وزيزينيا، ومسلسلات حديثة متقنة كسجن النسا والكبير والسبع وصايا.
وإذا تظاهر صنّاع العمل بأنهم يناقشون تداعيات العلاقة بين الطبقات والظلم الاجتماعي، فقد باخت حجتهم عندما حشوا الساعات بالاحتقان والكراهية والغل الأسود وكل ما هو من شأنه أن يزيد الأمور سوءًا والأوضاع اشتعالا، فضلا عن مغريات لا علاقة لها بالدراما الجيدة، ومكانها هو مواقع المراهقين تحت شعار (شاهد قبل الحذف). لكن دعنا نراقب بدايات الناس الذين قدّموا لنا هذه الوجبة الشعبية لعلنا نفهم دوافعهم ونعرف إلى أين يقودنا هذا البؤس:
هذه المعمعة الشعبية لم يخرج منها إبراهيم فخر، المخرج، رغم ضعف مستوى مسلسله السابق «خرم إبرة»، فلم يتعلّم شيئا من عمله كمخرج منفذ لـ «قصة الأمس» و«تاجر السعادة»، ولم يؤثر فيه سوى معاونته في إخراج «العار» و«شارع عبد العزيز»، وكتابته لفيلم يدور في ذات الأجواء العشوائية هو «8%» الذي حقق إيرادات هائلة بلغت 3545 جنيه!
نصحت محمد رمضان مرارًا ألا يحكم على نفسه بالنمطية، فشارب أحمد زكي في فيلم «الهروب» لم يكن سر نجاحه، وتجربة النجم الكبير شديدة الخصوصية حتى لو قلّدها بحذافيرها فلن يصل إلى شيء. بدأ بشكل متواضع عندما تسلل إلى كواليس سعيد صالح في أحد مسرحياته الركيكة، وبدا دوره طبيعيا في «احكي يا شهرزاد»، وتعاطف معه جمهوره فعفا عن فيلمه «الألماني» الذي تم تصويره بالكامل في مقلب زبالة.
توقعنا أن يستثمر أحدهم هذه الملامح المصرية المُنهكة الناطقة، لكن السبكي التقطه ليُتحفنا بالكلام الذي تعرفه، فصار نبراسًا للشباب المراهق الراسب في الإعدادية ويمارس رذالته على الخلق. رمضان شاب طموح لكنه مسكين، لعل الظروف الإنتاجية فعلًا أكبر منه، أو ربما هيئته تفرض عليه هذا الإطار، لكني على كل حال أشكره لأن مسلسله أخرجني من حيرة شديدة بعد أن أخرج الثعبان من سرواله في «عبده موتة»، ورافق الشبل في «قلب الأسد»، فلم يكن هذا هو فيلمه الثالث الذي توقعت أن يخرج علينا فيه بتنين مجنح!
بدايات مريهان حسين الفنية، وريهام سعيد الإذاعية، ونورهان (حُسنية في دورها البديع في مسلسل «حضرة المحترم») كلها أفضت إلى لا شيء هنا، فالكل ذاب في التفاصيل المُمضة المكررة للحارة وباعة الفجل وبنات الجيران الساذجات والصحفية المتوترة … إلخ.
محمود الجندي ممثل مهم لكنه يتحرك بالبركة، حتى عندما تأتيه فرصة يبرز معها اسمه، كدور المحامي الكبير في مسلسل «رقم مجهول» بالموسم قبل السابق، يجعلها تذهب أدراج الرياح، لكنه يستحق هنا أوسكار أغرب ضحكة في تاريخ الدراما!
سارة سلامة، ابنة الفنان أحمد سلامة، لاحت العام الماضي بمشاهد قليلة في حلقة واحدة من مسلسل «الكبير»، تركت أثرًا لا بأس به بين الشباب لدرجة أنهم صمموا عدة صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي باسمها في المسلسل (نتاشا)، فأي شيء يجبرها على تجربة الإغراء الرخيص هنا؟ السكَّر إذا زاد في الحلوى عافتها الأنفس، والشبّان يطرون الفاتنة كما يفتشون عن الصور العارية سرًا، الخلط بين الأمرين كارثي، حتى أكثر الفيمينيست شراسة لن تدافع عن حريتك يا سارة، فالفارق كبير بين التجمّل والاستفزاز.
مضى زمن نوال أبو الفتوح وشمس البارودي، وهواتف الشباب المحمولة مشحونة الآن بما لذ وطاب من مقاطع البلوتوث الساخنة، ثم إنها خرجت على الناس بتصريحات متلاحقة عجيبة متباينة عن نيتها في الاعتزال وعدم ممانعتها لأداء أية أدوار (هذه رسالة للإنتاج السينمائي، هاني جرجس فوزي بالذات!) وطبعا الكوبليه الخالد عن الإغراء الهادف، الذي قالته كل النجمات تقريبًا قبل أن يتحجّبن ويطالبن بحرق أفلامهن، ولا تسألني عن الرسالة الإنسانية للميكروجيب أو المغزى العميق لقمصان النوم، فالإغراء حتمًا هادف. ما هدفه؟ الإغراء طبعًا، ظننت هذا مفهوما!
قبل أن نتكلم عن المؤلف، دعنا نقولها بطريقته في بداية المسلسل: (أي تشابهه فيما يلي من باب الصدفة ولا علاقة له بالواقع) رغم أن كل شيء يفضح تمحّكهم في قضية رأي عام شهيرة، ورغم الشبه بين المتهم بقتل ابنة ليلى غفران (هبة العقاد وصديقتها نادين خالد) – (محمد العيساوي) ومحمد رمضان، ورغم تعمّدهم تصوير الفرح نقلا عن ألبوم الفرح الأصلي ونفس تصميم فستان العروس، والعمل المضعضع لن يبرئ ساحة المشنوق إن كان بريئًا.
لكن تخيّل معي أن هناك شخصًا اسمه (دهشان حسان دهشان حسان محمد حسان دهشان) ذاق الفقر وسحقه التفكك الأُسري، متواضع الشكل والقدرات، شحيح الموهبة والطموح، رسب في كلية العلوم فطرده أبوه ليتشرد ويحاول في كلية تجارة الزقازيق ويحشر نفسه في المنتديات الأدبية الضحلة، يبدأ أشياء لا يعرف كيف ينهيها، ويكتب قصصًا سخيفة ينشرها له (قنديل فؤاد) ثم يقحم نفسه على معهد السينما ويفشل فيتصعلك على (عبد الهادي أشرف) مساعد المخرج الكبير (عبد الحافظ إسماعيل) وفي النهاية يتظاهر بأنه مخرج مساعد ويكتب سيناريوهات مفككة. قصص الكفاح يجب أن نحترمها، لكن إذا كان أبي – الوغد البخيل- يجلدني بالخرطوم أنا وأمي وشقيقتي يوميا، فأُخرج كل هذا الكبت على الشاشات بكتابة ضعيفة وثقافة مسطحة، لا يعني سوى أنني أكرر المأساة في كل بيت، وأخلق جوًا من الكآبة والقنوط كان المتفرج الغلبان في غنى عنه. وكيف أدّعي أنني أدافع عن العدل بينما عشت في كنف أب يرتزق من البناء المخالف للقانون؟
نعود لموضوعنا ونقول للمؤلف حسان دهشان: إذا زعمت أنه لا سبيل لمناقشة ظروف ابن الحارة محدود الإمكانيات سوى شغل المقاولات الذي قدمته هنا، فأنت غلطان، أنا لا أكتب السيناريو وليس من طبيعة النقد أن أخبرك كيف تقوم بعملك الذي تتقاضى عليه أجرك، لكني أنصحك بمراجعة معالجة أسامة أنور عكاشة للنقطة سالفة الذكر في «ليالي الحلمية» (للمخرج الكبير إسماعيل عبد الحافظ) في شخص المراهق المتمرد «زينهم زكريا» (لعب دوره محمد عبد الحافظ) بمنتهى الأناقة والتحليل الدقيق.. والتهذيب.
الكليشيهات المبتذلة موجودة في كل مكان، من مأثور القول الذي يضعونه على الأتوبيسات، حتى يليق بالمسلسل عنوان (تحبيشة حبيشة): «اللي زيي اتخلقوا عشان ينداس عليهم بالجزم»، «السجن يا ولدي زي الدنيا، الكبير فيه بفلوسه، يا بدراعه»، وهناك بوستر مسموم لرمضان دارى فيه هيكله العظمي بفانلة داخلية وضع فوقها عباءة واستند إلى مدفع رشاش وهو يتظاهر بالعزم والخطورة وبجواره طبعوا هذه الجملة «الحلال في الزمان ده بقى حرام شرعًا!».
يتزامن هذا مع مشاهد تعذيب البطل في السجن الذي صار إمبراطورًا عليه دون سبب مفهوم. موسيقى خالد جودة ضعيفة بشكل متعمد لتناسب جو الميكروباصات، وكذلك أغنية الليثي «سجن جوه وسجن بره»، وأغنية آدم في التتر «اشمعنى أنا» التي تعزف ذات النغمة الملتاعة عن خيانة الزمان وظلم الأيام وما إلى هذا الهراء. المخرج نام في عدة حلقات ففشل في إخراج رقصة البطريق في الفرح، وإقحام أغنية أجنبية اسمها (الكلام القذر)، كأن الابتذال شح ليستورده.
الأخطاء أكثر مما يمكن رصده هنا ويكفي أن ترى المشهد الذي تقول فيه الصحفية المخضرمة لزميلتها: «موضوعك إتشال من على الترويسة!» وعندما تظن أن هناك مشكلة في سمعك، ترد عليها زميلتها لتؤكد التخريف: «مانا طول عمري موضوعي بيتشال من على الترويسة!»، هكذا لا يعرف المؤلف المرابض لقصر ثقافة بنها الفارق بين الترويسة وبروفة الجورنال، ولم تنتبه ريهام سعيد (المذيعة الخبيرة في محاورة الجن ذاته) للسقطة المكشوفة، وطبعًا المخرج لم يسمع عن كلمة بروفة في حياته، فلا حرج عليه.
المسلسل يتاجر بكبتك ورغباتك وفقرك وقرفك، ويذيعه التليفزيون المصري كأنه يتعمد إذلالنا، فإلى أين يهرب المشاهد قليل الحيلة المحروم من النت والدش وثمن مشروبات المقهى؟ لابد أن تشاهده ممرضة محبطة في ورديتها، وصبية طائشون في غرزة بالملك الصالح، وأسرة أناخ عليها الدهر في بيت ما مخنوق بروائح البؤس وصهد الأمراض النفسية والأزمات.
لماذا يسمح الكبار في كل مقعد على تمرير هذا القُبح والتردي لجماهير أغلبها مقهور ضائع مسحوق؟ هناك المُتعب المكبوت الذي ينتظر أن يملؤه أحدهم بالعنف ويشعله فتيله، فلا ينبغي أن يتحول المبدع، المؤلف والمخرج والممثل، إلى مجرد بائع لسندوتشات الكبدة الفاسدة الرخيصة، يروّج لها بتوابل حرّيفة زاعقة بين زبائن فقراء جائعون ثم يعتقد أن سلعته سليمة لا غبار عليها، بينما هو يُحرِّض ويتلف الذوق ويؤجج الفتن حتى ينطلق عامل يائس في مكان ما ليقتل فتاة ثرية أخرى بدافع الحقد لا أكثر، لن يكون الأمر ملفقا هذه المرة، بينما المخرج المستهتر والمؤلف الربع موهوب يخوض مع الخائضين في الكلام عن تدهور الأخلاق، وجرائم العنف، وحادث اغتصاب فتاة العتبة قديمًا، وفتاة ميدان التحرير الآن، وفتاة أخرى في ميدان ثالث غدًا، تدفع ثمن ما يفعله بالناس شورت سارة سلامة!