رواية إني راحلة ليوسف السباعي من أجمل ما قرأت بصفة عامة وللسباعي بصفة خاصة. تحكي الرواية عن فتاة تدعى عايدة تقع في حب ابن خالتها أحمد بعد سنين من البعد والإعـــراض غير المبرر من الطرفين كما تروي أحداث القصة في بدايتها. ولكن يرفض والدها زواجهما لعدم التوافق المادي. فعايدة من عائلة ثرية ميسورة، وأحمد لا يزال في بداية حياته، يسعى بنفسه لبناء مستقبله. وتكون النتيجة أن يتزوج أحمد من ابنة الجيران، وتتزوج عايدة من أحد أبناء الطبقة الأرستقراطية نزولا عند رغبة والدها.

ثم تكتشف المسكينة في النهاية أن زوجها قد خانها مع امرأة متزوجة. فكـان أن تحطمت نفسيا وانطلقت إلـــى بيت زوج تلك العشيقة، فما كان من الزوج إلا أن راود عايدة عن نفسهـــا.

فانطلقت عايدة هائمة في الطرقات إلى أن التقت حبيبها أحمد الذي ماتت زوجته أثناء الولادة. وهكذا قررا أن يمضيا في ما حرما منه بالحلال بسبب جبروت الأب وظلمه. لكن لم يقدر الله فيموت أحمد بعلة الزائدة الدودية، وتقرر عايدة أن تنتقم لنفسها وحبيبها من المجتمع الذي ظلم حبهما، وتشعل المنزل فتموت مع حبيبها وسط النيران!

فكرة الراوية تقليدية غير مبتكرة، فهي قصة مُحبة ومُحب لم يشأ الله أن يجمع بينهما فيمضي كل منهما في طريق، ثم تفرض عليهما ظروف الهرب معا ليجتمع المحبان بعيدا عن أعين الناس والمجتمع المترصد. ويختار السباعي نهاية حزينة لكليهما فيموت الحبيب وتنتحر حبيبته لتلحق به.


ما الذي يجعل هذه الرواية من أكثر روايات السباعي تميزا إذًا؟

اجتمع في هذه الرواية عدة أمور جعلت منها عملا أدبيا متميزا وممتعا:

أولا: صيغة المتكلم

فالبطلة عايدة هي نفسها راوية قصتها بكل تفاصيلها وآلامها وفرحها. وكما هو معروف فإن لصيغة المتكلم خاصة في التجارب الشخصية الإنسانية سحر ووقع خاص على نفوس وقلوب وعقول القراء. كما تمنح صيغة المتكلم التجربة مصداقية والكاتب قربا من القراء. فحين تسمع القصة مروية عن الشخص فإن وقعها على النفس مختلف تماما عما إذا رواها الشخص بنفسه. وربما من أدل الأمور على صحة هذا التحليل هو كتاب «أنا» للعقاد والذي يحكي فيه تفاصيل حياته بصيغة المتكلم مما أعطى قصة حياته مصداقية كبيرة.

ثانيا: البطلة تستجدي عطف القراء في المقدمة!

عادة ما تبدأ الروايات بسرد أحداث القصة: ماذا حدث وكيف بدأت أو حتى كيف انتهت ثم يعود الكاتب بنا إلى البداية. ولكن السباعي اختار أن تبدأ عايدة بطلة وراوية القصة بتبرير موقفها ورغبتها في كتابة قصتها ليقرأها المجتمع أملا منها في استجداء عطفه فتقول عايدة:

ذلك هو الحافز لي على الكتابة … اعتراف محتضَر يجب أن يلقي عن أكتافه، قبل الرحيـــل، عبئا أثقل ووزرا أنقض ظهره. اعتراف صريح علني، لا إلى كاهن في خلوة، بل إلى الناس جميعا.

وتواصل عايدة دفاعها المستميت عن فعلتها والتي سيأتي سرد تفاصيلها على مدار الرواية فتقول:

أنا لا أخجل من اعترافي، فإني أجد فيه دفاعًا عن نفسي وعن سواي من المظلومين الذين انطوت صدورهم على أسرارهم، والذين طوتهم عجلة القدر فراحوا ضحيتها واتهموا بالذنب ولا ذنب لهم … وأجد فيه درسًا يعلمكم أن تلتمسوا المعاذير للناس، وألا ترموهم بالخطيئة دون أن تعرفوا خبيئتهم؛ فرُبَّ واحد منكم رماه القدر بنفس التجربة فما كان خيرًا منهم.

فنجد أن الرواية اعتمدت على عملية الإرسال كما سماها الدكتور عبد الله إبراهيم في كتابه التلقي والسياقات الثقافية (بحث في تأويل الظاهرة الأدبية):

عملية الإرسال لا بد أن تتم بين قطبين : المتكلم وهو قطب إرسال إذ يؤلف رسالة ويرسلها، وقطب ثانٍ وهو المتلقي يفك شفراتها ويعيد بناءها بصورة عالم متخيل مع ما يترتب على ذلك من تفعيل لدلالاتها النفسية.

فكانت عايدة هي المتكلم والقراء هم المتلقون الذين أردت منهم عايدة أن يفكوا شفرات قصتها وألمها.

ثالثا: وصف بواعث النفس والمشاعر الإنسانية

وصف السباعي المسهب للمشاعر الإنسانية، وقدرته على تحليل مواقف ونفسيات الشخصيــات يعتبر من أهم عناصر نجاح رواية «إني راحلة». وقد برع إلى حد بعيد -خاصة بتلك المقدمة المستدرّة للعطف، والبطلة المثيرة للرثاء- بجذب عدد لا بأس به من القراء إلى صفها، كما أفادت إحدى القارءات في مقدمة الطبعة الثانية:

كان لإبداعك ما أخذ بمجامع قلبي وأشعرني أن هذا ليس بالخيال، وإنما هو صادر عن الواقع، وعن الشعور الصادق الرقيق، وأنه ترجمة بارعة صادقة لأجمل ما يمكن أن يخفق به قلب.

وتكمن إحدى نقاط قوة أسلوب السباعي في حرصه على سبر أغوار النفس الإنسانية وما يعتمل في وجدان الشخصية التي يتناولها. وتجد هذا في كثير من رواياته وكتبه الأخرى مثل: اثنا عشر رجلا، واثنتا عشرة امرأة، وهذه النفوس… هذه الحياة، بالإضافة إلى روايته التي كان سببا رئيسيا في شهرته: رد قلبي.


قصة تأليف الرواية؛ حكاية طريفة!

يحكي السباعي في مقدمة الطبعة الأولى أنه كتب هذه الرواية في صيف عام 1949 واستغرق عشرين يوما فحسب لكتابتها كلها. الطريف في الأمر أنه كان كارها للرواية وكتابتها في البداية. فيحكي أنه كان يقضي عشر ساعات في اليوم لكتابتها، ولما بدأ يقرأ ما كتب أحس بسخافتها وأورد هذا في مقدمة الطبعة الأولى: «وحاولت أن أستعيد في ذهني ما كُتب وأنا مجهد متعب؛ فوجدتني لم أكتب سوى سخافات»، فكان أن ترك كتابتها يوما واحدا. ولكن روح الكاتب في داخله أبت إلا أن تجبره على الاستمرار، فاستأنف الكتابة، وهكذا لاقت الرواية إقبالا كبيرا أورد السباعي تفاصيله في مقدمة الطبعة الثانية.

أرى أن هدف السباعي من الرواية في المقام الأول هو أن ينبه المجتمع بوجه عام والآباء بوجه خاص لخطورة وأهمية القرارات التي يتخذونها في حق أبنائهم وبناتهم. والد عايدة لم يلقِ بالًا لمشاعرها تجاه ابن خالتها، وتجاه الجانب الأخلاقي سواء لأحمد أو الشاب الثري الذي تزوجته عايدة. وكان محور تركيزه على جانب واحد فحسب ولم يتزحزح عنه؛ ألا وهو الجانب المادي. ولا شك أنه جانب مهم وضروري في الزواج وما يسميه البعض بالتوافـــق الاجتماعي. ولكن تكمن المشكلة هنا أن الأب لم يكن منصفا في تقييم الأمر فيما يخص الجانب المادي كذلك، فقد كان مستوى أحمد مناسبا لإقامة بيت للزوجية وإسعاد ابنته. ولكن الأب أراد لعايدة أن تتزوج من ذلك الشاب الثري لعقد صفقة رابحة مع والده متجاهلا رغبة ابنته بالزواج ممن تحب وترغب. فكانت النتيجة أن اجتمع الحبيبان بعد أن ضاقت بهما السبل وأقاما علاقتهما وحبهما بطرق غير شرعية، وكان أن انتحرت الابنة في النهاية لتلحق بحبيبها. وانتهى الأمر بها ملحدة كما جاء عنوان الفصل الأول «الملحدة» واصفا لحالتها.

كذلك أراد السباعي أن يلفت الانتباه لحكم المجتمع العجيب وغير المنصف في بعض الأحيان لتصرفات وسلوكيات الناس. فنرى في مجتمعاتنا مثلا أن المرأة مدانة ومتهمة في كثير من الأحيان من وجهة نظري، فإذا تزوجت بإرادتها وكان الزواج تعيسا اتهمت بسوء الاختيار والخضوع لجبروت الرجل وعدم طلبها الطلاق. وإذا طُلقت قيل مطلقة وكأنها وصمة عار. وإذا لم تجد الإنسان المناسب فقررت على أساسه ألا تتزوج قيل عانس ونظر الناس إليها نظرتهم لسلعة بائرة. وإذا تزوجت مجبرة ومنعها هذا من الوفاء لزوجها وطاعته قيل ناشز أو خائنة كما هو الحال مع بطلة روايتنا.

وهنا يكمن لب المشكلة، فكثير من الناس يعيشون ناقدين للآخرين، ونقدهم غالبا ما يكون هداما لا بنّاءً. ينتقدون المتزوجة والمطلقة والتي تأخر زوجها والتي قررت عدم الزواج والتي لها عشيق والتي ليس لها عشيق، والحل في النهاية: لا شيء! وربما لو كانوا في مكانهم ما اختلف تصرفهم عمَّن ينتقدونهم قيد أنملة. وهكذا، أراد السباعي أن يرقى بتفكير المجتمع من مجرد ناقد وساخط على تصرفات البشر ليغدو مجتمعا بنّاءً يقترح الحلول أو يلتمس المعاذير على أقل تقدير.

في نهاية المطاف قد لا يؤيد يوسف السباعي عايدة فيما فعلته ولا كثير منا، ولكن هدف العديد من الروايات والقصص ليس تأييد البطل أو إدانته، وإنما رسالة وهدف الكثير منهم كان وسيظل منح فرصة للآخر والنظر إلى الجزء الآخر من المرآة. وأرى أن السباعي أكد في هذه الرواية أنه كما أن لنا الحق كأفراد في المجتمع في قبول أو رفض الـــظروف أو المبررات، فإن من حق ذلك الفرد علينا أن ننصفه ولو استماعا!