مسلسل I Know This Much Is True: دراما لا تخاف الدموع الحقيقية
لم يكن ديريك سيانفرانس يعلم حين شرع في اقتباس رواية «والى لامب» (I Know This Much Is True) كمسلسل تلفزيوني يحمل نفس الاسم أنه سيعرض في ظروف استثنائية، فقد تم بث الحلقة الأولى من المسلسل في العاشر من مايو الماضي في ذروة جائحة كورونا ووقت الحظر الشامل.
كان موسم العودة للبيت، وكان الجميع يعيد اكتشاف معنى البيت والعائلة ربما للمرة الأولى منذ زمن طويل. كنا نستكشف البيت كمساحة آمنة وحميمية بينما يقترح المسلسل معنى مغايراً- يكاد يكون النقيض- للعودة للبيت. خلق هذا ظرفاً مثالياً لتلقي عمل مشغول تماماً بهذا المعنى وإعادة تأويله.
يأتينا صوت دومينيك بيردزي من خلال التعليق الصوتي: «العودة مجدداً إلى 68 جادة (هوليهوك)- حيث منزل الطفولة- يجعلني دائماً أشعر بالغضب والضآلة كأنني ابن العاشرة من جديد بلا حول أو قوة».
يسرد سيانفرانس في مسلسله القصير المقسم إلى ست حلقات حكاية الأخوين التوأم دومينيك وتوماس بيردزي- يؤدي دوريهما مارك روفالو- المولودان في عائلة مليئة بالأسرار، وحيث هناك ظل مظلم ملقى كلعنة على البيت الذي نشآ فيه. يحاول دومينيك الصمود بعد فقد طفلته الوحيدة وانهيار زواجه كما يسعى بأقصى ما يستطيع لرعاية توماس توأمه الفصامي.
عود على بدء…
يبدأ السرد من لحظة متفجرة حين يدخل توماس- مدفوعاً بضلالاته- إلى مكتبة عامة ليقطع يده قرباناً للرب كي يوقف الحرب المقبلة وينقذ أطفال الأمة. يتحرك الزمن بعدها ذهاباً وإياباً بين الماضي التي تتداخل أزمنته واللحظة الحاضرة. تتوالى الذكريات كاشفة عن طبيعة الأخوين وطبيعة العلاقة بينهما. رغم اعتماد السرد بشكل أساسي على هذه الاستعادات/ الفلاش باك، ينجح سيانفرانس في إبقاء السرد سلساً وهذه الاستعادات محكومة بمنطق درامي وسيكولوجي. كل شيء يردنا لنقطة البداية، كيف وصلنا إلى هذه اللحظة، وكيف تشكلت العلاقة بين الأخوين على هذا النحو؟
تمنحنا هذه اللحظة المبكرة أحد مفاتيح السرد المثيرة، حين يسأل الأطباء موافقة دومينيك الكتابية على وصل يد أخيه المبتورة، يرفض توماس ذلك ويخبره غاضباً: دافع عني، أحتاج إلى مساندتك ولو لمرة واحدة. يرفض دومينيك التوقيع ويظل رفضه محل تساؤل رغم المبررات التي يسوقها لاحقاً، لماذا استجاب لرغبة أخيه المحكومة بضلالاته. لا تأتي الإجابة إلا قرب النهاية بقليل في صورة ذكرى مستعادة. يشير تأخر الكشف عنها إلى قدر الطاقة الهائل المبذول في كبتها من قبل دومينيك إذ لا تنكشف إلا حين يكون مستنزفاً تماماً، إنها الذكرى الأكثر تأثيراً في تشكيل علاقتهما. يقوم زوج الأم بحبس توماس داخل خزانة ويضع دومينيك حارساً عليه آمراً إياه ألا يفتح له مهما ترجاه وهو ما ينفذه بالفعل. هناك إحساس مثقل بالذنب مصدره هذه اللحظة يجعل دومينيك دائماً يشعر أنه خذل أخاه مهما بذل من جهد في رعايته، وهو على الأغلب سبب نزوله على رغبة أخيه المدفوعة بضلالاته في لحظة البداية.
الخوف من الدموع الحقيقية
يقول ابن نسطور الحكيم في الأوديسه: إني لا أخجل من البكاء. لم يخجل اليوناني القديم من التعبير عن ألمه وحزنه لكن الأزمنة الحديثة تخجل من البكاء وتخاف من الدموع الحقيقية. في طفولة سيانفرانس، كان انفصال والديه هو أكبر مخاوفه، إلى جانب الحرب النووية ومن ثم كانت الأفلام التي تحكي عن العائلة والعلاقات داخلها هاجسه آنذاك. شعر سيانفرانس بكثير من الخذلان والإحباط من المعالجات الهوليوودية الملمعة للعائلة بنهايتها السعيدة الزائفة وشخصياتها المنمطة.
كانت مثل هذه الأفلام تتركه وحيداً، يشعر بالسوء حيال نفسه وحياته لأنها ليست على شاكلة هذه الأفلام. كانت مثل هذه الأفلام والتي تشكل التيار السائد في هوليوود تنكر الضعف البشري وتلمع الواقع على نحو زائف بينما كان سيانفرانس يرغب أن يرى على الشاشة عائلة تشبه عائلته وحياة كالتي يعيشها، ومن هنا بدأت رغبته في صنع أفلام سينمائية عن بشر حقيقيين، أفلام تكون أقرب ما تكون إلى الحياة كما نختبرها بالفعل، تقدم لنا دراما لا تخاف من الدموع الحقيقية.
عالم سيانفرانس: حكاية واحدة ممتدة عن العائلة
يقدم لنا سيانفرانس في عمله الأحدث دراما ثقيلة وذات نبرة تراجيدية واضحة للدرجة التي دفعت مايك هيل محرر صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن يصف عمل سيانفرانس بالقصة الأكثر حزناً على الإطلاق.
لا تبدو حكاية مسلسله رغم اقتباسها من عمل أدبي غريبة عن عالمه السينمائي بل تكاد تكون امتداداً طبيعياً لأفلامه السابقة مثل تحفته (blue Valentine)، وفيلمه الآخر البديع (The Place Beyond the Pines)، إنها حكايات عن العائلة تستكشف العلاقات داخلها والصدمات الأولى التي تترك أثراً لا يمحى داخل الأبناء.
في سرديات سيانفرانس سابقة الذكر مثلما في مسلسله تبدو العائلة وإرثها معادلاً للقدر في التراجيديات الإغريقية، كفخ لا مفر منه، إذ يكرر الأبناء غالباً خطايا آبائهم يسلكون نفس المسار وأحياناً يمكنهم أن يكسروا هذه الدائرة المفرغة التي يدورون فيها كالعميان. العائلة في أعماله أقرب لجرح مفتوح ولعنة ممتدة تصل الآباء بالأبناء، فمثلاً في (blue Valentine) يناضل دين/ ريان جوسلينج من أجل استمرار زواجه المتداعي كي لا يحدث لطفلته ما حدث معه بعد انفصال والديه لكن ما يخافه هو ما يحدث في النهاية. هنا في (I Know This Much Is True) يؤمن دومينيك بأن كل مآسيه هي نتيجة لعنة أصابت هذه العائلة، لعنة لن تبقي على أحد وأن خطايا الجد المؤسس تلقي بظلالها عليه الآن. فقط قرب النهاية يستطيع دومينيك أن يكسر تلك الدائرة ويخطو خارج هذه الظلال.
تبدو مثل هذه الحكايات هاجس سيانفرانس الأكبر. هنا يمنحه الوسيط التلفزيوني الفرصة لسرد حكاية تمتد لثلاثة أجيال، تبدأ من عشرينيات القرن الماضي وتنتهي في التسعينيات. يصور عمله بالكامل على شريط خام 35 ملم وهو ما يمنح صورته دفئاً وحميمية وإحساساً أكثر صدقاً بالزمن المصور لم تكن أبداً كاميرات الديجيتال قادرة على التقاطه على هذا النحو.
أسلوبية سيانفرانس: (مخرج المنهج- The Method Director)
في حوار مصور مع سيانفرانس يقول مازحاً أن من يعملون معه من الممثلين والتقنيين يسمونه «The Method Director» أي مخرج المنهج في إشارة إلى التمثيل المنهجي، وهذا إلى حد بعيد يكشف عن طبيعة مقاربة سيانفرانس للسينما، فإذا كان جوهر التمثيل المنهجي هو الوصول إلى أصدق أداء ممكن، فهكذا يسعى سيانفرانس خلال سردياته السينمائية والتلفزيونية إلى أن يصور واقع شخصياته بأقصى درجة من الصدق وعالمه كأقرب ما يكون لحقيقة الحياة كما نختبرها.
هذا هو المنظور الذي يريد سيانفرانس أن يستكشف من خلاله حكاياته عن العائلة أو لنقل حكايته الممتدة حيث ولدنا دون اختيار وحملنا من دون رغبة منا ثقل أسرارها.
أسلوبيته تتفق تماماً مع هذا المسعى. هنا ينقل للوسيط التلفزيوني ولعه باللقطات القريبة والقريبة جداً والتي تلقى بنا داخل المجال الروحي لشخصياته، تجعلنا نشعر على نحو مثالي بضيقهم وحصارهم النفسي.
تسقط اللقطات القريبة أقنعة شخصياته تظهر ضعفهم وألمهم من قريب. لا مجال لزيف أو افتعال الأداء إذا كانت الكاميرا قريبة من ممثليه على هذا النحو. يميل سيانفرانس أيضاً إلى لقطات ممتدة زمنياً تسمح لممثليه بمزيد من العفوية والحرية في الأداء، فأعماله دائماً هي دراما شخصيات، حكايات تروى عبر أداء ممثليه. هنا يقدم مارك روفالو ربما الأداء الأفضل في مسيرته.
لا حيل إخراجية هنا. ينجح سيانفرانس في ضبط مزاج العمل والجو العام مستفيداً من المناخ الشتوي، الأفق الغائم المطر واللون الرمادي مع لمسة الأزرق البارد. ونغمة الميلانكوليا التي تتسلل عبر الموسيقى والأغاني التي تتوالى عبر شريط الصوت. يبرع أيضاً في الصياغة البصرية لأفكار مجردة عبر خلق موتيفات بصرية. إحدى هذه الموتيفات هي صورة أبطاله المعذبين بالفقد والخسارة أمام شلال مائي. فإحدى الأفكار التي يحاول بلورتها طيلة مسلسلة هي فكرة الاستمرارية، الحياة ستمضي، ستعبرنا دون أن تتوقف. أيضاً فكرة استمرار الأثر وإرث العائلة الممتد من الماضي إلى الحاضر دون انفصال واضح كأنما حياتنا ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا مياه واحدة.
الخروج من الغابة، من متاهة الذات
الضياع في متاهة الذات وغابة الحياة ليست وضعاً استثنائياً للشاعر دانتي بل حالة من حالات الوجود، قد نجد أنفسنا جميعاً فيها مطاردين بمخاوفنا وكوابيسنا.
يستعمل الحوار كثيراً مفردة الضياع داخل الغابة للتعبير عن حالة الأخوين بيردزي. في رحلة مدرسية إلى تمثال الحرية تعود إلى زمن الطفولة أدى اضطراب توماس وخوفه إلى بقاء دومينيك إلى جواره على الشاطئ بينما يذهب الجميع لمشاهدة التمثال. في هذه الليلة يحلم دومينيك أنه عالق في كهف مظلم داخل غابة لا يعرفها، وحين وجد منفذاً للخارج، وجد نفسه داخل تمثال الحرية. بعد اللقاء الأول لدومنيك مع طبيبة أخيه النفسية، تخبره الطبيبة: تعلمت اليوم شيئاً، تعلمت أن هناك شابين ضائعين في الغابة وليس واحداً. وبالتالي حين يستطيع دومينيك قرب نهاية المسلسل من تجاوز هذه الحالة عبر مواجهة ذاته وماضيه وعبر الغفران يصف نفسه بأنه قد نجح أخيراً في أن يخطو بعيداً عن الغابة المظلمة لذاته، ماضيه وماضي بلده.
لا يمنحنا سيانفرانس بعد هذا الزخم الدرامي حلاً (resolution) بالمعنى الكلاسيكي. يكتفي بمنح شخصياته إحساساً بالسلام مع الذات والعالم ووميضاً من الأمل في نهاية مفتوحة تسمح للمشاهد أن يظل جزءاً من الحكاية، يعكس رغباته وآماله على مصير الشخصيات التي رافقها من البداية وحتى هذه اللحظة.