أنا أشك إذًا أنا موجود: السينما وفلسفة الشك
الشك، أحد المواضيع المهمة التي ظلت تشغل فكر ووجدان الجنس البشري منذ بدايته. كما أنه أحد الروافد الأساسية في جميع المدارس الفلسفية والسياسية. كان الشك -وما زال- هو الموضوع الرئيسي، أو أحد المواضيع الفرعية، للكثير من المنتج البشري، الفني منه والأدبي. ولم يقف الشك عند نقطة أزمة الإيمان من عدمه، بل امتد ليتغلل في كل ما حول الإنسان، وكل الأحداث التي يعيشها، خصوصاً مع تعقيد الحياة الحديثة.
والسينما أحد المنتجات البشرية التي تغلغل الشك في موضعاتها، وأصبح متواجداً بأشكال وتنويعات كثيرة. فالسينما هي إحدى الوسائل الأساسية للتعبير عن الأفكار، ويعمل عليها مبدعون شاركوا في صراعات فكرية وسياسية مختلفة، ولديهم قضاياهم التي تشغلهم وتعذبهم أحياناً، ويدفعون ثمنها من عمرهم أحياناً أخرى، كما في حالة «باولو بازوليني».
كما أن السينما يمكن التعبير عن الأفكار والفلسفات فيها بطرق مختلفة. كالسرد القصصي المباشر، والسرد الغامض أو الرمزي كما في الأدب. أو بطرق تكون فيها الصورة والإشارات والسرد غير المتصاعد مختلفة عن السائد، كما في المدارس السريالية، أو بالتشكيك فيما كان سائداً في السابق من أفكار ومعتقدات فلسفية، واجتماعية، وسياسية، وتلك الخصائص ساهمت في عرض موضوع الشك بأكثر من طريقة.
ضيف ما بعد الحرب
الحرب العالمية الثانية كان لها أثر كبير في تغير نمط الكتابة والقصص السينمائية، وكان أغلبها يستعرض رحلة البطل الذي يتحدى كل الظروف الصعبة والمعاناة التي يواجهها، وينتصر في النهاية ليعيش في السعادة الأبدية. تلك الفترة التي أطلق عليها الأكاديمي «جون أور» مسمى «سينما الحداثة المبكرة»، في كتابه «السينما والحداثة».
وبالإضافة لتغيير قواعد الكتابة، فقد فتحت الحرب العالمية الثانية بابا لم يقفل للشك والتشكيك في كل ما هو سائد، فقد فقدت الطبقة المتوسطة الأوروبية الثقة في المستقبل، وأصبحت الشكوك تحوم حوله، كما أثرت هذه الحرب الكارثية على أفكارهم الدينية والسياسية، وذلك كله جعل النهايات تختلف كلية.
سيطر الشك على أفلام المبدعين الأوروبيين، وانتهت فكرة السعادة الأبدية، وخصوصاً في أفلام الموجة الفرنسية الجديدة والواقعية الإيطالية، وعززت هاتان المدرستان نظرية «سينما المؤلف»، والتي ترى أن العمل السينمائي وحدة فكرية واحدة، ويجب أن يكون من خلق فنان واحد، وبالتالي مؤلف الفيلم يكون هو مخرجه. ولا شك أن هذه النظرية ما زالت المسيطرة بين أغلب مخرجي أوروبا، وصفوة مخرجي هوليود.
في ثلاثية المخرج الإيطالي «مايكل أنجلو أنطونيوني» المسماة بثلاثية «الحداثة ومساوئها»، نرى أن بنية أفلامه غريبة، فهي عبارة عن مشاهد لأحداث تبدو وكأنها ليست متصلة (أي أنه لا يوجد وحدة قصصية) في حياة زوجين، رجل، امرأة. التشكيك في مواطن السعادة التي كانت تظن الطبقة الوسطى أنها تعيشها قبل الحرب هو هدف أنطونيني، ورغم أن الحرب لا تظهر آثارها المباشرة في أفلامه، ولكن تظهر آثارها غير المباشرة في التشكيك في كل ما يبدو سعيداً في حياة الأبطال، في مشاهد العمارات الضخمة والعمال التعساء، والشوارع المكتظة بالسيارات في حرارة الصيف. في الحفلات الصاخبة والتي لا أحد سعيد فيها.
ويشكك «آلان رينيه» في فيلمه «هيروشيما حبي» في النظرة السائدة للجندي الألماني على أنه المسبب في الحرب، والآخرين كضحية. فالبطلة ممثلة فرنسية شابة تذهب إلى اليابان وتحب رجلاً يابانيًا، ومن خلال سرد مونتاجي نرى معاناة الضحايا في الحرب، ضحايا القنبلة الذرية والعدوان على فرنسا، والجنود الألمان المتورطين الذين قتلوا في الحرب، إنه تشكيك في الرؤية التقليدية لضحايا ومجرمي الحرب، وتوحيد من رينيه للمعاناة الإنسانية.
ورغم تشديد الرقابة الإيطالية على المخرج باولو بازوليني، ولكنه نجح في فيلمه «الإنجيل وفقا للقديس ماسيو» عرض وجهة نظره الماركسية لقصة السيد المسيح، والإسقاطات على الواقع. ويعتبر فيلمه الأخير (والذي قتل بعد عرضه) «سالو، 120 يوم من السادية». مثال لحالة التشكيك في كل المجتمعات ونظم الحكم الحديثة بصفة عامة والفاشية بصفة خاصة.
رحلة الشك والإيمان
أما المخرج الروسي «أندريا تاركوفسكي»، والذي يعتبره الكثيرون أفضل من تكلم عن الإيمان، وحالة فقدان اليقين. فقد مزجت أفلامه بطريقة رمزية بين الشك والبحث عن الإيمان. ففي فيلم «Stalker»، والذي عالج موضوع الشك والبحث عن الإيمان لإنقاذ وجدان الإنسان، يعمل البطل كمرشد لزائري «المنطقة»، ولكنه لا يدخل الحجرة الأهم فيها والتي تدور حولها الأساطير والشكوك. إنه لا يرغب في كشف الحقيقة والتي ربما ستزعزع كل أسباب بقائه في الحياة.
حالة الشك جسدها تاركفوسكي في مشهد غاية في العبقرية في نهاية الفيلم. وهو مشهد الفتاة والكأس المكسور، إنه يطرح فلسفتة من خلال لغز متروك حله للمشاهد في نهاية الفيلم، وهو لغز جميع إجاباته يمكن أن تكون صحيحة أو خاطئة، إنه لغز يشبه سؤال الإيمان والحقيقة.
أما المخرج السويدي «إنجر بيرجمان» فقد طرح أزمة الشك والإيمان في أفلام كثيرة أهمها وأشهرها قطعا «The Seventh Seal» والذي يطرح فيه سؤال الموت، والحياة، والحرب، وما هي قيمة الحياة ومغزاها وما بعدها؟ كذلك ثلاثيته «صمت الإله»، والتي تعرض معاناة الإنسان المعاصر ومأساة الحروب وخلافه، وكما يظهر من عنوان الثلاثية، فهي تدمج هذه الأحداث بسؤال وجودي حول سبب صمت الإله.
كذلك المخرج المصري «داود عبد السيد» في فيلمه «أرض الخوف»، الذي عرض مفهوم الشك بطريقة رمزية تناسب مقتضيات الرقابة المصرية بكل تأكيد، الظابط (أحمد ذكي) الذي يندمج في عصابات المخدرات ويصبح واحدًا منهم، ويقوم بكل أفعالهم بما فيها القتل، لا يعلم في النصف الثاني من الفيلم من هو، وأي حياة ينتمي لها أكثر، إنه يقع في دوامة أبدية من الشك لن تنتهي حتى بنهاية الفيلم.
كذلك «نجيب محفوظ»، و«صلاح أبو سيف» يعرضون تساؤلاتهم الوجودية المتشككة في فيلم «بين السما والأرض»، حيث يتجمع أشخاص يمثلون طبقات وأفكار المجتمع المصري، في مصعد معطل. ربما فكرة الفيلم تحمل الكثير من الشك ولكن الثنائي يقوم في نهاية الفيلم بعمل سرد معقد لفكرة الخطوط الفاصلة بين الواقع والسينما.
ويعد الشك هو السؤال الأهم الذي يطرحه «أصغر فراهدي» في كل أفلامه، حيث ينصب الفخ للمشاهد، ولا يعلم من على صواب ومن على خطأ، من المجرم ومن الشريف، ما هي الحقيقة. والأعجب في أفلام فراهدي أنه يطرح تلك الفرضية من خلال قصص شعبية تبدو تقليدية. كما في أفلام «A Separation»، و«About Eli»، و«The Salesman»
الوجود بعد الذكاء الاصطناعي
وبعد تطور الآلة وأنظمة الحاسب، وبداية ما يمكن تسميته بالذكاء الأصطناعي، بدأت الشكوك تراود الإنسان حول مستقبله مع هذه الآلات التي ربما تتخلى عنه في أحد الأيام. أن فرضية الآلات ذات الوعي الكامل خلقت تساؤلات وشكوكاً ضخمة، لن تقتصر على سؤال مستقبل الإنسان فقط، بل أصل وجوده وماضيه.
فيلم «Blade Runner 2018» يعتبر من أوائل الأفلام التي طرحت هذا التساؤل، وهل سيمكننا التفرقة بين الإنسان المستقبلي وبين الآلة؟ وما الضمانة على أنك لست آلة؟ تتجاوز ثلاثية «Matrix» هذه النقطة وتطرح تساؤل: ماذا لو أن الوجود كله من صنع الآلة، هل تكون الآلة هي الأصل وتخفي علينا الحقيقة لضعفنا.
بينما يتحدث فيلم «Ex Machina» عن البدايات، وعن اللحظة الصادمة التي ستتحرر فيها الآلة من سيطرة الإنسان، وما يمتاز به هذا الفيلم إنه ضيق نطاق القصة لتدور بين إنسان ورجل آلي واحد. ويرصد لحظة تمرد الآلة بتصور ممكن علمياً، أو مقنع على الأقل، الفيلم كابوسيته تنبع من إمكانية اقتراب تلك اللحظة. الذكاء الاصطناعي فتح بابًا من الأسئلة المستقبلية والمسائل الوجودية التي ظن الإنسان إنها انتهت، ويبدو أن هذه الأسئلة لن يجاب عليها قريباً.